"...أنت، أليس كذلك؟"
لم تكن الطفلة الصغيرة متأكدة تمامًا. صحيح، عيناها... كانتا لا تزالان خاويتين. لم تكن تراني، ولم تكن "حاضرة" فعليًا.
لقد بدا الأمر أشبه بإرادة متبقية.
مثل "بيبل".
"كنت أعلم أنك ستأتي في النهاية. أنت دائمًا تفعل."
كان صوت الطفلة الصغيرة هادئًا، واضطررت لتركيز سمعي لأسمعه بوضوح. قفزت من على السرير ومشت نحوي.
طَك، طَك—
خطواتها الصغيرة كانت تنقر بإيقاع متزامن مع نبضات قلبي.
نبضة... خفق! نبضة... خفق!
وقفت في مكاني، دون أن أنطق بكلمة واحدة. فقط كنت أحدّق بها وهي تقترب مني.
شعرت بأن وجودها يخنقني، لكنني بقيت متماسكًا.
وضعت كفّان صغيرتان على كتفي، وبرز رأس صغير من خلفي. كانت عينا "بيبل" متجهة نحو الطفلة الصغيرة، وجسده متوتّر وكأنه يستعد لفعل شيء ما. لكنني رفعت يدي وأوقفته عمّا كان على وشك فعله.
(ليس بعد.)
طَك—
توقفت الطفلة الصغيرة أخيرًا.
كان طولها بالكاد يصل إلى أسفل صدري، ما اضطرني لأن أنظر للأسفل حتى ألتقي بعينيها اللتين بدتا وكأنهما ستجتذباني إلى داخلها في أية لحظة.
"..."
ساد الصمت بينما كانت تحدق بي.
لم يتحدث أيٌّ منا.
على الأقل، لبضع ثوانٍ... قبل أن تبتسم الطفلة الصغيرة مرة أخرى.
"...ألا تعرف حقًا أين "نويل"؟ أم أن هذه واحدة من مخططاتك المعتادة؟"
نبضة... خفق! نبضة... خفق!
كاد قلبي يقفز من صدري.
(هـ-هو قالها...)
نويل...؟ لقد نطق بالاسم... هذا يؤكد كل شيء. "مورتم"... لم يكن سوى نويل!
اهتز عقلي.
اضطررت لقمع رغبتي في التقدم نحوها وإجبارها على الحديث.
لكنني كنت أعلم أن ذلك ليس تصرفًا حكيمًا.
رغم أنها كانت مجرد "إرادة متبقية" — لم تكن قوية كـ "بيبل" بسبب طول الفترة التي بقيت فيها داخل التمثال — إلا أنني كنت أعلم أن الشخص الذي ترك هذه الإرادة لا يزال على قيد الحياة.
لم أرد أن يتم تعقّبي بسبب أي تصرّف أحمق.
ولهذا السبب، لم يكن بوسعي سوى التجمّد في مكاني.
...كنت أعاني بالفعل من مشاكل بسبب السيف، بعد كل شيء.
"يا له من سؤال سخيف مني. من الواضح أنك لا تزال تبحث عنه. هوسك الغريب به لم يختفِ حتى الآن، أليس كذلك؟"
كان في صوتها مسحة من التسلية وهي تتحدث.
ارتعشت قليلًا، وأنا أكتم أنفاسي، أستمع إلى كل كلمة تنغرس في عقلي.
"أنا أملك الجواب، إن كنت تريد سماعه."
"........!"
اهتزت ذراعي.
مرة أخرى، شعرت برغبة ملحة في الاندفاع إليها والمطالبة بالإجابات. لكن عقلي تغلّب على اندفاعي في اللحظة الأخيرة.
"ما زلت لا تأخذ الطُعم؟"
بدت الطفلة الصغيرة خائبة الأمل قليلًا وهي تخفض رأسها وتربّت عليه برفق.
"تعال، ضع يدك هنا واستخدم قدراتك. ستتمكن من معرفة كل ما تريده. أين نويل. أين أنا. ماذا كنت أفعل خلال الألفيات الماضية. وكل الإجابات التي تبحث عنها."
اهتزت ذراعي.
للحظة قصيرة، شعرت برغبة حقيقية في فعل ذلك.
كانت كلمات الطفلة الصغيرة تضغط على رأسي مثل همسات خفية، تدفعني بلطف نحو تنفيذ ما تطلبه.
لكنني قاومت.
وضعت يدي على صدري، أشعر بالعرق البارد ينحدر من جانب وجهي، وأبقيت يدي بعيدتين.
(إنها فخ... إنها فخ... إنها فخ...)
"لا تزال ترفض؟"
نظرت الطفلة الصغيرة بخيبة أمل.
بادلتها النظرات دون أن أنطق بحرف. كان قلبي يخفق حتى شعرت به في حلقي، فيما خفضت نظري إلى ذراعي اليمنى التي بدأت تتوهج فجأة.
اجتاحتني موجة ألم مرعبة جعلتني أرتعش في مكاني.
كان الألم من النوع الذي كاد أن يجعلني أصرخ، لكنني بصعوبة وبإرادة فولاذية، تمكنت من كبح الصوت.
"كه..."
خرج مني صوت خافت، وقلقت من أنه سيفضحني، لكن قلقي تلاشى على الفور عندما رأيت الورقة الرابعة والأخيرة تضيء.
(هذا...)
حدّقت في الورقة الرابعة، غير قادر على إخفاء دهشتي، ونسيت لوهلة الوضع الذي أنا فيه.
(لماذا الآن بالتحديد...؟)
كانت محفزات كل ورقة من الأوراق غامضة. كانت تظهر في أوقات عشوائية، دون سابق إنذار.
شعرت بالضياع بينما كنت أحدّق في الورقة الرابعة.
(ما تأثيرها؟... ماذا سيحدث إن ضغطت عليها؟)
بدأت الأسئلة تتدفق إلى ذهني، لكنها لم تدم طويلًا، إذ سرعان ما أعادني الواقع الخانق إلى تركيزي، وقفز قلبي مجددًا حينما تقدّمت الطفلة الصغيرة خطوة أخرى، ومدّت يدها نحو ذراعي وأمسكت بها بقوة.
||
كان لمسها باردًا، وارتجف جسدي بالكامل.
حاولت التراجع، لكن قبل أن أتمكن من ذلك، ضغطت يدها الصغيرة على إحدى الأوراق.
||
"...."
لم يحدث شيء في البداية.
تنفست الصعداء، لكن لم يدم الأمر طويلًا، إذ أمسكت بيدي الأخرى، ووجهتها نحو الورقة.
"....!"
العرق البارد سال على ظهري بينما كنت أحاول المقاومة. حاولت أن أقبض يدي وأتراجع، لكن دون جدوى.
حتى عندما حاولت أن أجعل "بيبل" يتدخل، لم يحدث شيء.
بحركة يد واحدة، جعلت "بيبل" عاجزًا.
"قد أكون ضعيفة، لكنني لا أزال أقوى مما يمكنك تخيله. والآن..."
وصل صوتها، مغموسًا بنبرة سخرية، إلى أذني.
"دعني أرى قدراتك."
كنت عاجزًا، وسرعان ما...
ضغطت إصبعي على ذراعي.
وفجأة، غمرتني الظلمة.
خفق! وعندما عاد الضوء إلى عينيّ، بدأت جيوب أنفي بالانسداد، وعيناي بالدمع من الدخان الكثيف العالق في الجو.
(أين أنا...؟)
رمشت بعيني، محاولًا التأقلم مع البيئة المحيطة.
دوي! دوي!
فجأة، بدأ الأرض من تحتي تهتز، ما جعلني أفقد توازني وأتراجع عدة خطوات إلى الخلف، مستندًا إلى جدار مبنى متهدم.
"ما هذا بحق...؟!"
رفعت نظري، فتجمّد قلبي حين أدركت أنني أقف في مكان أعرفه جيدًا—أنقاض مملكة ريلغونا، تمامًا كما رأيتها في الرؤية.
طَك.
خطوة خفيفة ترددت صداها بجانبي، وتجمد جسدي بأكمله في مكاني.
"هذا هو...؟"
نظرت الطفلة الصغيرة حولها بنظرة تائهة. ورغم أنها كانت عمياء، إلا أن الأمر بدا وكأنها ترى كل شيء.
"هل هذا هو المستقبل الذي رأيته؟"
||
فتحت فمي، لكن قبل أن تخرج الكلمات، لمحت شخصية من زاوية عيني.
"...!"
كان ظهره موجّهًا إليّ، يحجب ملامحه، لكن مع تأملي في شعره الأسود الداكن وبنيته القوية والمألوفة... أدركت ذلك.
لم يكن سوى... أنا.
(هل أعيد مشاهدة الرؤية الأولى...؟)
لا، ليس تمامًا...
شعرت بخشونة الأرض تحت يدي، فالتقطت قبضة منها. وعندما تركت الحبيبات تسقط من بين أصابعي، أدركت أن هذا ليس مجرد رؤية.
إذًا... ما هذا؟
بووووم!!
مبنى بعيد تفتت فجأة، ومن بين أنقاضه خرجت شخصية معينة.
"لقد... وجدتُك أخيرًا!"
صرخت بصوت حاد، فيما تحوّل لون السماء إلى قرمزي.
||
بدت أكبر سنًا، لكن لا مجال للخطأ — "إيف". كان شعرها القرمزي يتطاير في الرياح، وعيناها تتوهجان كشمسين صغيرتين، تنيران الأرض من تحتها... وأنا، واقف في ظلها.
"هل هذا كل ما لديك لتقوله لي؟"
مرة أخرى...
تلك النظرة في عينيها، التي رأيتها في الرؤية الأولى.
نظرة كانت تحمل شيئًا لم أكن أفهمه تمامًا. لكنها هذه المرة، كانت أوضح قليلًا. لم تكن حزنًا... ولا شوقًا. بل كانت أقرب إلى...
"خيبة أمل."
لكن... لماذا؟
أردت أن أقترب، لكن الضغط منعني من الحركة.
في المقابل، كانت الطفلة تراقب كل شيء بصمت، بتعبير يصعب تفسيره.
وعلى عكس حالتي، لم تبدُ متأثرة بما يدور من حولها.
كراكا! كراكا!
كما في الرؤية، بدأ البرق يضرب الأرض. المباني تحطمت، والغيوم انشقّت، كاشفة عن "إيفلين" بكل عظمتها. ملامحها كانت ساحرة كما أتذكر، وهي واقفة في السماء، وملابسها تتطاير تحت وطأة طاقتها الهائلة.
"إذًا... وصلتِ أخيرًا."
(هم؟)
لم أكن قد لاحظت ذلك من قبل، لكن مع تركيزي الآن، بدا صوتي... ليس باردًا كما كنت أتذكره.
حين خاطب "أنا" نسخة "إيفلين"، بدا أن هناك شيئًا إضافيًا في نبرة الصوت.
لكن ما هو بالضبط؟
لم أستغرق في التفكير طويلًا، إذ تغيّر المشهد من جديد.
من الأحمر... إلى البنفسجي... إلى الأسود.
ظهر قبة سوداء، تحيط بمعظم المكان. شعرت بملابسي وشعري يتطايران أمام المنظر، وبدأت أفقد التركيز على ما يحدث داخل القبة. حتى الضغط... كان مرعبًا.
ما نوع هذا الوضع بالضبط...؟
همسة!
صوت حفيف مفاجئ قطع أفكاري، مع ظهور شخصية أخرى تقف خارج القبة.
(إنه هنا...)
بدا تمامًا كما في الرؤية، عيناه الرماديتان تتوهجان بتهديد تحت السماء الداكنة والمشهد الرمادي. واقفًا شامخًا، وشعره يتمايل مع الرياح، بدا ملامحه أكثر نضجًا وقسوة مما اعتدت رؤيته.
كان "ليون" لا شك، لكن كان هناك شيء مختلف فيه...
(... سلوكه مختلف عن المرة السابقة في الرؤية.)
بدا أقل حزمًا بقليل.
لكني... لم أُشاهد هذا الجزء من الرؤية سابقًا.
في يده، كان يحمل سيفًا رفيعًا وطويلاً. يلمع تحت شمس بيضاء معلّقة في السماء.
"هاه؟"
رمشت بعينيّ، أفركهما عدة مرات وأنا أحدق مجددًا في السيف. "ذلك..."
توقف قلبي فجأة، وصعقة باردة شلت جسدي بالكامل. كانت عيناي مثبتتين على "ليون" الواقف خارج القبة السوداء، وأحاول استيعاب المشهد الذي أمامي.
"م-مهلًا، لكن...؟"
حاولت أن أستوعب ما أراه، وأنا أزحف إلى الوراء قليلًا.
فقط—
"لا أستطيع فعل هذا."
كلنك! كلنك!
فقدت صوتي.
وضعت يدي على فمي بذهول، وأنا أشاهد "ليون" يتخلى عن قبضته على السيف، ويسقط السلاح على الأرض. بدأت ذراعاه ترتجفان بشدة، وعيناه ترتعشان بالحزن بينما ينظر إلى القبة السوداء أمامه.
"أنا... لا أستطيع فعل هذا."
كررها، وشفتيه مضمومتين.
"أنا..."
(مستحيل...)
ببطء، وقفت من مكاني.
نظرت إلى المشهد البعيد بذهول.
(.... ما هذا؟ هل هذه واقع مختلف؟ مستقبل مختلف؟ هل تغيّر المستقبل بسبب الأفعال التي قمت بها؟ هل هذا—)
شعرت بيد تُوضع على كتفي فتوقفت.
عندما التفتُّ ببطء، التقت عيناي بعينين أخريين.
"...آه."
فتح فمي وأغلقه مرارًا، وأنا أحدّق في زوج العيون العسليّة المألوفة للغاية.
(ك-كيف؟ ألم يكن هو للتو...؟)
نقلت بصري بين القبة السوداء، وبين الشخص الواقف أمامي، وكأنني دمية محطمة.
"هـ-ذا.. م-ماذا؟"
لماذا... يوجد "أنا" آخر هنا؟