الفصل 14 : ظروف الامبراطور المقدس
الإمبراطور المقدس نيت لم يكن شخصًا شديد التدين بطبيعته.
ومع ذلك، يمكنني أن أقول بثقة تامة إنه لم يكن ممن يسعون وراء الملذات الجسدية أو العلاقات العشوائية والرومانسية الخالية من المعنى. بعبارة أخرى، لم يعش حياة طائشة لدرجة أن يُلقب بـ[الإمبراطور المقدس زير النساء ].
لكن، لماذا كان لديه بالفعل خمسة أطفال رسميين عندما اعتلى العرش في سن الحادية والعشرين؟ هنا، سنشرح ظروفه التي تستحق التعاطف
في البداية وُلد كالأمير الثالث من العائلة المالكة السابقة ، وكان ابن الملكة الثانية التي لم تكن محبوبة. ولسوء الحظ، كان هو الأوفر موهبة بين جميع إخوته غير الأشقاء.
أمير يتحلى بطبيعة أنيقة، وعقل فذ ، وموهبة استثنائية في فن المبارزة. ولهذا، جذب على الفور عيون بقية أفراد العائلة الإمبراطورية.
لكنه كان ابن الإمبراطورة الثانية المنبوذة، التي هجرها الإمبراطور وتبرأت منها عائلتها. لذلك، لم يكن القضاء عليه أمرًا واردًا فقط، بل كان الهدف الأكثر منطقية وسهولة.
ولهذا السبب، تعرض لمحاولات اغتيال عديدة منذ صغره. لم تقتصر على عددها الكبير فحسب، بل كانت هناك محاولات تسميم متكررة على وجه الخصوص.
من الوجبات اليومية إلى الطعام والشراب، و لم يكن غريبًا أن يغمر القصر فجأه بأكمله بدخان سام.
ورغم سرعة نيت الكبيرة وقوته المقدسة الفريدة، فقد عايش لحظات كثيرة على حافة الموت.
وقبل أن يبلغ العاشرة، توفيت الإمبراطورة الثانية التي كانت تعاني أيضًا من آثار التسمم لسنوات.
توقف أهل القصر وعائلته عن زيارته منذ زمن. وحتى ابنها الوحيد الذي أنجبته، عانى من حوادث تشبه الموت وحيداً
في تلك المرحلة، وحين اصبحت صحة نيت متدهورة للغاية. جاءت نبوءة شبيهة باللعنة من اوراكل كورنشيم، تنبأت بأنه لن ينجب وريثًا ، وأنه عقيم ، وأنه سيموت ميتة شنيعة في سن مبكرة.
وقد أعلن مستشارو القصر بالإجماع أن الأمير الشاب بات عقيمًا بالفعل. بل إنهم ألمحوا إلى أنه، حتى لو اعتنى بصحته منذ تلك اللحظة، فإن فرصه في تجاوز اختبارات الحياة ضئيلة جدًا.
أمير بلا دعم، وبلا قدرة على إنجاب وريث.
لم يكن يعلم أحد أن نيت قد تم استبعاده بشكل غير رسمي تمامًا من حق خلافة العرش.
وبعد ذلك، عاش الأمير أكثر من عامين في عزلة تامة. وحتى بعد بلوغه تلك المرحلة، لم تتوقف محاولات تسميمه، فكان كمن يخوض صراعًا دامعًا من أجل البقاء.
ثم، وفي إحدى المآدب المقامة في عيد ميلاد الإمبراطور، انهار الأمير وهو يتقيأ دمًا بغزارة.
حينها، نيت، وقد بلغ به اليأس ذروته، استلقى في سريره مبتسمًا بتسليم وقال
"اللعنة على هذه الحياة."
وبعد ذلك اليوم، اختفى الأمير الثالث البائس من القصر الإمبراطوري.
غادر العاصمة، وبدأ يتجول بمفرده في أرجاء البلاد لسنوات.
في البداية، كان هروبه بدافع البقاء، لكن المدهش أنه بمجرد مغادرته أسوار القصر الضيقة، بدأت مواهبه الفطرية تتفتح بوضوح.
ذكاؤه اللافت ساعده على الإفلات من مطاردي القصر، ومهاراته المتنوعة التي اكتسبها من هنا وهناك دفعته إلى بلوغ مستوى رفيع في المبارزة.
كما تحررت قوته المقدسة الكامنة، ما مكنه من استخدام قدرات شفاء مذهلة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن كل من التقى به عامله بلطف.
صيادون مهرة، مرتزقة كنوز، صيادلة متخفون، وسادة سيوف جوالون—رغم أن علاقاتهم كانت عابرة، إلا أنهم جميعًا قدّروا موهبة الأمير وحاولوا مساعدته.
لم يمر وقت طويل حتى أصبح الأمير مغامرًا قادرًا بحق.
وبلا أن يدرك، تحولت حياته البائسة إلى رحلة تذوقٍ ممتعة، يسعى فيها لاستخلاص كل ما هو جميل مما تبقى من حياته القصيرة.
وبينما استمر في الهروب من القتلة—وإن بشكل أقل حدة—كان نيت يتنقل من مدينة لأخرى، يجوب البلاد بلا استقرار.
ومع مرور الوقت وازدياد نضجه، بدأ يلتقي بالنساء بشكل دوري.
ربما كان أسلوب نيت محبوبًا لدى النساء.
رغم أنه كان من الواضح أنه لا يستطيع الاستقرار في مكان واحد، إلا أن كثيرات تمنين أن يعشن لحظة حب مع هذا المبارز الرائع.
في تلك الفترة، كان نيت يستمتع بالتجوال، لكنه في الوقت نفسه كان يخشى أن يُختطف منه العمر في أي لحظة.
لهذا السبب، قابل أولئك النساء بدافع صادق، رغم أنه يبدو الآن وكأنه دافع ساذج، فقد كان يفكر:
"لو استطعت أن أترك في قلوبهن لحظة جميلة يتذكرونها، فربما يكون لحياتي عديمة القيمة معنى ."
كان مخلصًا للحب في كل مرة، وكان يشعر أن كل لقاء قد يكون الأخير.
ورغم أنه قد يبدو مبررًا هشًا، إلا أن النساء اللاتي التقى بهن كن سعيدات للغاية، وكانت لحظات الوداع دائمًا مؤلمة، لكنها جميلة.
الشيء الوحيد الذي غفل عنه نيت، هو أن صحته قد تحسّنت بسرعة فائقة بعدما تخلّص من التسمم المزمن، وبدأ يُحسن التعامل مع هالته.
وبما أن قواه المقدسة الفطرية فاقت بكثير ما امتلكه الاباطرة السابقون، فقد امتدت قدراته العلاجية لتبلغ حدًّا يكاد لا يُصدق.
وبمعنى آخر... لم يكن عقيمًا.
اكتشف هذه الحقيقة حين كان في العشرين من عمره تقريبًا، وذلك حين بدأت ميلودي، حبيبته، تشعر بالغثيان في المدينة التي أقاما فيها لبعض الوقت، بعدما خفّت مطاردات الأعداء.
وقد كان تشخيص الطبيب واضحًا: إنها حامل.
لم يخالج نيت أدنى شكٍّ فيها. فقد كان أكثر الناس معرفة بمدى نقائها وبراءتها.
"مستحيل..."
ثم راودته هواجس تقشعرّ لها الأبدان.
منذ تلك اللحظة، استأجر نيت نقابة للمعلومات، وبدأ التحقيق في أمر النساء اللواتي ارتبط بهن في الماضي.
منذ متى استعاد جسدي طبيعته؟
وماذا عن نبوءة الاوراكل التي زعمت أنني لن أُنجب وريثًا، وأن حياتي ستكون قصيرة؟
وإذا كانت هناك نساء أخريات قد أنجبن مني دون أن أعلم، فكيف يعيش هؤلاء الأطفال الآن؟
هل كبروا يتامى دون أب؟
كان الانتظار قاتلًا. وكل يوم يمضي، كانت بطن ميلودي تكبر، معلنة اقتراب المولود.
وبحلول شتاء ذلك العام، وصل أخيرًا تقرير من النقابة:
"استنادًا إلى سلوك النساء المعنيات ومظهر الأطفال، نُرجّح وجود ثلاثة أطفال على الأقل يُحتمل أنهم من نسل الإمبراطور. وسنوافيكم بتقارير لاحقة مع استمرار التحقيق."
ربما يوجد المزيد إن واصل البحث.
تساقط العرق البارد على جبينه كالمطر.
"ما الذي ينبغي عليّ فعله؟ هل أبحث عنهم جميعًا وأتحمّل المسؤولية؟
لكن... ماذا عن ميلودي؟
أول ما يجب فعله هو الزواج بها. كيف سيكون وقع هذا الخبر على قلبها؟ كم سيؤلمها؟"
ثم راودته فكرة أخرى:
"ماذا لو كانت أولئك النساء قد تزوّجن وشكّلن أسرًا جديدة؟
أليس الحب الحقيقي هو التظاهر بعدم المعرفة وتمني السعادة من بعيد؟
لا... لا. هذا تهرّب غير مسؤول..."
أمسك نيت رأسه من شدّة الحيرة. شعر بأنه نكرة... بأنه قمامة بشرية.
لكن الماء قد سُكب بالفعل، ولا مجال لجمعه.
والسهم قد انطلق، وأصاب اللحم.
وسط هذا الصراع الداخلي، قرر نيت أن يركّز أولًا على رعاية ميلودي التي كانت تقترب من موعد ولادتها.
كما أوصى النقابة بإجراء تحقيق دقيق حول أوضاع النساء والأطفال، ليحدّد ما إذا كان عليه التدخل في حياتهم.
ورغم كل هذا الاضطراب في حياته الشخصية، لم تكن الأوضاع في الإمبراطورية المقدسة أقل فوضى.
فقد كانت المعركة على حق الخلافة بين الأمير الأول والأميرة الأولى على أشدّها،
لكن الأمير الثاني باغتهم جميعًا، وسيطر على الموقف، بل ونفى الأميرة من العاصمة.
وبعد فترة قصيرة، توفي الإمبراطور فجأة، فانقسمت البلاد إلى فصيلين متناحرين: أحدهما يناصر الأمير الأول، والآخر يتبع الأمير الثاني.
لكن ما لم يكن في الحسبان، أن كلا الأميرين لقي حتفه في الوقت نفسه، إثر اشتباك صغير بين قواتهم داخل العاصمة.
ناثانيال كلاين، في الحادية والعشرين من عمره.
كان ذلك اليوم من أسعد أيام حياته، حين احتضن طفلته الجميلة للمرة الأولى بين ذراعيه.
وفي اليوم ذاته، دخلت القرية مجموعة مهيبة تضم ثلاثة فرسان مقدسين وخمسة كرادلة، جاؤوا جميعًا راكعين بإجلال، ليحتفلوا بالإمبراطور المقدس الجديد.
وفي الوقت نفسه، أعلنت نقابة المعلومات العثور على طفلٍ آخر.
وهكذا، ومع تتويجه على العرش، أصبح نيت رسميًا أبًا لخمسة أطفال.
* * *
"هل ما زلت تفكر في ما قالته الأميرة؟"
رفع نيت رأسه نحو صوت قعقعة فناجين الشاي. كان المتحدث هو لويس، كبير الخدم الذي خدمه بإخلاص طوال السنوات الماضية.
رجل موهوب، يعرف تمامًا كيف يُحضّر الشاي الذي يفضّله الإمبراطور المقدس كل مساء، دون أن يُطلب منه ذلك.
"همم..."
أسند نيت ذقنه إلى يده الأخرى وسأل بلا مبالاة:
"برأيك، إلى أي مدى يمكننا تصديق ما قالته أميليا؟"
ابتسم لويس بهدوء.
لقد اعتاد على مثل هذه اللحظات مع الإمبراطور الشاب. لم يكن يطلب رأي خادمه إلا بعد أن يستعرض أفكاره ويصل إلى استنتاج شبه نهائي. ومع ذلك، أجابه لويس برأي معتدل ومعقول:
"أليست معروفة بلطفها وخيالها الواسع؟ ربما كان مجرد كابوس أزعجها."
"ربما."
أومأ نيت برأسه قليلاً.
"وماذا عن قصر اللؤلؤ؟"
"سمو الأمير موريس مشغول بتدريبات المبارزة مع ماسين طوال اليوم. سمعت أن الحماسة اشتعلت بينهما مؤخرًا، ويبدو أنهما ينسجمان بشكل مثالي."
"أجل."
رفع نيت فنجان الشاي دون أن يشرب منه، ثم غرق مجددًا في التفكير وهو يحدق في السائل الدافئ.
وقف لويس إلى جواره بصمت، مستشعرًا أن هناك أمرًا قادمًا. لم يكن الإمبراطور يتحدث بهذا الشكل إلا عندما يكون على وشك إصدار أمر مهم.
وبعد لحظة صمت، تحدث نيت:
"… لويس."
"أمرني يا مولاي."
"أحضر القلادة من غرفة أميليا."
ارتفعت حواجب لويس قليلاً.
فمن بين جميع حلي الأميرة، لا توجد سوى قلادة واحدة يعرف أنها مهمة بما يكفي لأن يطلبها الإمبراطور بنفسه.
وبحكم خبرته، أدرك أن الإمبراطور يأخذ هذا الأمر بجدية تفوق التوقع.
"مولاي… تلك القلادة..."
وقبل أن يُكمل، رفع الإمبراطور المقدس يده فجأة. صمت لويس في الحال، خاصة بعد أن لاحظ أن نيت يحدق في السقف.
وفجأة، سقط ظل أسود من الأعلى. كان رجلاً يرتدي زيًا خفيًا أسود.
كان عميلًا من نقابة الاستخبارات، معروفًا للوس، وبارعًا إلى درجة أن ظهوره لا يُحدث أدنى صوت، وكأن الهواء فقط هو من تحرك.
"كيف يعرف جلالته دومًا موعد قدوم هذا الرجل؟"
تساءل لويس بدهشة كما في كل مرة.
ركع الرجل على ركبة واحدة، وانحنى بأدب وقال بصوت خفيض:
"مولاي، هناك تطور جديد في التحقيق طويل الأمد، لذا جئت إليكم في هذا الوقت المتأخر."
نظر لويس إلى الإمبراطور بدهشة، فقد كانت هناك قضية واحدة فقط ظل التحقيق فيها معلقًا منذ فترة طويلة.
وبالفعل، ظهر على وجه نيت الجامد عادةً، لمحة انزعاج.
"تابع."
"نعم، لقد تمكنّا من تتبُّع المرأة التي التقيتم بها في مدينة الينابيع الساخنة، يوسينيا انها تدعى... بعد مغادرتها القرية، انقطعت أخبارها تمامًا، حتى تذكّر أحدهم أنها كانت ابنة بارون من روهان."
يوسينيا ...
لابد أنه التقاها أثناء تجواله.
ومن الغريب أن تختفي آثارها هكذا، لكن إذا كانت من روهان، فذلك يفسر بعض الغموض.
"قيل إنها كانت في طريق عودتها إلى موطنها، لكن التحقيق تعرقل لعدم وجود سجلات رسمية بدخولها إلى روهان. ثم اكتُشف أنها تعرضت لهجوم من قبل مجموعة قطاع طرق قبل أن تصل..."
قعقعة!
صدر صوت قوي عندما وضع نيت فنجان الشاي على الطاولة بعنف نسبي.
تابع العميل، وهو يلاحظ انقباض وجه الإمبراطور:
"قُتل كل من كان معها، بمن فيهم المرأة، لكن بعض الشهود قالوا إنهم رأوا صبيًا بين أولئك اللصوص. ويبدو أن الطفل تربّى بينهم..."
حدق لويس في قبضة الإمبراطور المشدودة حتى كادت الدماء تغادرها، ثم أغمض عينيه بصمت.
في تلك اللحظة، تأكّد وجود الطفل الثامن للإمبراطور المقدس.