الفصل 30 : الرسل السود (5)
"اللعنة..."
هذا ما جال في خاطر جوناثان ماكالبين ما إن وقعت عيناه عليها.
عندما رآها آخر مرة، قبل ثلاثة أيام فقط، لم تكن سوى كتلة سوداء بحجم إنسان، تتلوى عند لمسها وتُطلق أحيانًا أنينًا غريبًا
كيو-إيوك
أما الآن... فقد أصبحت ضخمة، تحتل أكثر من ثلث الغرفة. تضخّمت ست مرات خلال أيام معدودة، وسطحها الأسود لا يزال يتموّج كأنّه وجه بحيرة تعصف بها رياح هوجاء.
لكن الأمر لم يقتصر على الحجم. فقد خرجت منها أطراف لم يتسنَّ له تمييز ما إذا كانت مخالبًا أم جذورًا، امتدت وتشابكت في أرجاء الغرفة كشبكة عنكبوت ضخمة.
كان الطحلب الذي يغطي الأرضية والمنطقة المحيطة يتلألأ بلون أزرق ساطع، طحلب لم يشهده من قبل، يضفي على المشهد لمسة من الغرابة والكابوسية.
'ثمة أمر خاطئ... شيء ما انحرف عن مساره الطبيعي.
ما الذي جرى بحق السماء خلال الأيام الثلاثة الماضية؟'
لم يكن جوناثان وحده من أصيب بالذهول، فقد كان بقية الاعضاء يتبادلون النظرات الحائرة، وكأنهم يرون هذا المنظر لأول مرة.
وحده كينيث ديجوري، الرجل الذي يقف في منتصف هذا المشهد السريالي، وقف يراقبهم بابتسامة هادئة.
"ما كان يجب أن تطأ قدماي هذا المكان منذ البداية..."
قالها جوناثان وهو يتراجع إلى الوراء، يتصبب عرقًا.
تجاوزه فجأة الأمير موريس، وتقدم بثبات نحو كينيث.
"يرقة طحالب بانترا... لحسن الحظ، القناة لم تُفتح بعد."
كان صوته هادئًا على نحو غير متوقع. ورغم توتر ملامحه، فقد بدت على وجهه ملامح الغضب أكثر من الخوف، لا سيما في عينيه الرماديتين اللتين ازدادت حدة منذ أن فقد وزنه.
الأمير موريس...
عار العائلة المقدسة، و"أكبر وغد" في مملكة ديلكروس.
مقارنة بآخر لقاء بينهما قبل شهرين، بدا وكأنه شخص آخر تمامًا. في البداية، لم يكن جوناثان متأكدًا إن كان هو فعلاً.
فقد تغير مظهره، وخفت ضوضاؤه المعتادة، وغابت عنه نبرة التهكم. كان يراقب الغرفة بهدوء، عيناه تتفحصان كل شيء، إلى أن التقتا مجددًا بنظرة شك مع كينيث.
"ما الذي يفعله وحش من جيهينا هنا؟"
قالها بنبرة باردة، مشوبة بالريبة.
ضحك كينيث بصوت عالٍ، بدا سعيدًا بشكل مَرَضي.
"أنت تعرفه؟! كما قال الحكيم تمامًا! قال إنك ربما تكون قادرًا على تقاسم السر معنا. لم يكن اختيارك خطأً!"
"الحكيم؟"
سأل موريس.
"نعم، ستراه قريبًا."
أجاب كينيث وهو يتقدم ببطء نحو [ذلك الشيء]. وكلما داس على الجذور المتشابكة، كانت تتلوى كأنها ديدان تنزلق تحت قدميه.
ثم التفت إلى الرسل وخاطبهم بصوت مهيب:
"أيها الإخوة الرسل المختارون! لا تخافوا! ما ترونه الآن هو الدليل على أن سرّنا يقترب من لحظة الحقيقة!"
وتابع بثقة لا مثيل لها، وعيناه تتوهّجان:
"كل شيء سيحدث كما تنبأ به الحكيم."
أثارت كلماته رجفة في صدور الرسل، الذين كانوا في حيرة مما يجري. لكن يبدو أنهم استعادوا رباطة جأشهم شيئًا فشيئًا، وبدأوا يرددون كأنهم يقتبسون من كتاب مقدس:
"كل شيء كما تنبأ الحكيم."
"كل شيء كما تنبأ الحكيم."
ضحكٌ جماعي، عالٍ ومجنون، تردّد صداه في أرجاء المكان.
"الأمير محظوظ حقًا! ففي هذه اللحظة، حين يُكشف سر هذا العالم، سيكون إلى جانبنا، مع رُسُلنا."
كان في عينيه ذلك البريق الغريب...
بريق المتعصّبين.
جوناثان، الذي جلس أرضًا وقد خارت قواه، فكّر بمرارة:
"لقد جنّ الجميع…".
الجذور، تلك التي خرجت من ذلك المخلوق الغريب، راحت تتحرك بقوة متزايدة، والرسل المحيطون يبدون قلقين... لكنهم مع ذلك متحمّسون، وكأنهم ينتظرون ولادة شيء مروّع.
وحده الأمير موريس، وسط هذا الجنون، وقف ثابتًا، صامتًا، شابًا يحمل على كتفيه عبء الإدراك.
ثم قال لكينيث بنبرة باردة، حادة كحدّ السيف...
"ماذا قال الحكيم؟ إن جعلناه يأكل ثلاثة فقط... فسيُفتح شيء ما؟"
توقف كينيث فجأة، وقد بدت عليه الدهشة، ثم نظر إلى الأمير موريس، الذي واصل حديثه دون أن يلتفت إليه، كأن صوته وحده يكفي لتغيير مجرى الحكاية.
"ما تتحدثون عنه ليس قناة .. ما يُفتح هو بوابة تربط عالمهم اللعين بعالمنا. إنها إشارة لاستدعاء باقي يرقات البانترا إلى هنا."
"ماذا...؟"
"ألستم تزعمون أنكم تريدون إصلاح ديلكروس؟ لكن ما تفعلونه لا يقود إلا إلى خرابها."
في تلك اللحظة، تشوّه وجه كينيث ديجوري على نحو مخيف. تقطّبت ملامحه كأنها تنهار، وصرخ بغضب:
"عن ماذا تهذي؟!"
"ما اقصده إن من تدعوه بالحكيم قد خدعك."
"هراء! لا تُردد على مسامعي هذا السخف!"
بدأ كينيث يرتجف، وتطايرت من فمه كلمات مسمومة، وهو يكيل الشتائم للأمير. كان في يومٍ من الأيام نجمًا واعدًا في الأكاديمية، لكنه بدا الآن كمن فقد صوابه تمامًا.
"هل تنكر سر هذا العالم؟! هل أصبحت حليفًا لأولئك الكهنة المنافقين؟! في النهاية، أنت أيضًا ابن لتلك العائلة المقدسة الملوثة!"
رغم كل ذلك الغضب، ظلت نظرة الأمير موريس باردة، لا تتزحزح، كأنها مرآة من الفولاذ. ثم قال بصوت رخيم، حادّ كحدِّ السكين:
"أجبني، كينيث."
"أحقًا لم تُلقِ بالبشر إلى ذلك الشيء... كطُعم؟"
...
شعور بالخواء اجتاح جوناثان. لم يصدق أذنيه.
"بشر؟ هل قال... بشر؟!"
عقله شُل للحظة، ثم بدأ يتدفق فيه الوعي البطيء، كأن ماءً مثلجًا يُسكب في أعماقه.
"أين ذهب ذلك الخادم الذي كان يحرس هذا الباب في كل زيارة؟"
أين اختفت الخادمة التي كانت تنظف قاعة اجتماعات الرسل وتُحضّر الشاي دائمًا؟
وهل يمكن حقًا أن تنمو تلك الكتلة السوداء فجأة بهذا الحجم دون أن تدفع ثمنًا؟.....
أدرك جوناثان الحقيقة التي لم يرغب بمعرفتها.
ورآها على وجه كينيث نفسه، وقد سحب المدّ قناعه.
"هذا... جنون!"
صرخ أحد الرسل وهو ينزع قلنسوته. كان أصغرهم سنًا، أشلي بيشر، أول من شكّل مع كينيث جماعة "رسل السواد".
"هل أطعمت هذا الشيء أرواحًا بشرية؟! هل فقدت عقلك يا سينيور؟!"
كينيث لم يجب... كان صامتًا، يحدّق في أشلي بعيون غائمة، كأنهما لا تريان شيئًا.
تسللت قشعريرة إلى عمود جوناثان الفقري. بدا كينيث وكأنه على وشك الانفجار، كعبوة بارود.
لكن أشاي لم تتراجع ، بل صرخت
"كيف يمكننا الوثوق بأن هذا الكائن الغامض هو السر ذاته؟! هذه مجرد كلمات! حِكم مرسلة! أما أن نرمي أناسًا أبرياء إليه... فهذا جنون!"
"سينيور كينيث! لطالما أخبرتك أن هناك أمرًا مريبًا بشأن هذا الحكيم! لقد حذرتك مرارًا!"
في تلك اللحظة، تقدّم كينيث إلى الأمام، وبتلك الابتسامة الباردة المقلقة، أمسك بياقة أستلي السوداء.
"كيووك..."
شهق أستلي، وهو يكافح في قبضته. ابتسم كينيث بلطف مميت، وقال
"إن كانت لديك كل هذه الأسئلة... لماذا لم تساليني عنها من قبل؟ اشلي ، لم يَعُد أمامي خيار. سأمنحك الشرف... بأن تكون أول من يواجه اللغز."
"ماذا؟!"
شحب وجهها..
أدركت، غريزيًا، ما ينوي كينيث فعله.
وسرعان ما بدأ يجرها نحو الكتلة السوداء المتلوّية.
"ثلاثة... قال إن ثلاثة أرواح تكفي لفتح البوابة."
"أنتظر منذ زمن طويل... والآن، كعضوٍ فخور في جماعتنا، كوني المفتاح الأخير لهذه اللحظة العظيمة!"
وقف جوناثان مشدوهًا، يعض على شفتيه، والعرق يتصبب من جبينه. رأى أشلي تسحب بلا حول ولا قوة، تكافح وتصرخ... وهو عاجز تمامًا.
كان ذلك الشيء قد ازداد حجمًا خلال أيام فقط.
ماذا سيحدث إن ابتلع روحًا أخرى؟
يجب أن أوقفه...
لكن قدماه لم تعد تطاوعانه.
عندها، انشق الصمت فجأة.
قال الأمير موريس
" المعذرة ، ولكن..."
شوويينغ...
صوت ناعم، حاد، كأن الهواء نفسه قد انقطع.
سُحب سيفٌ مصقول من تحت عباءة سوداء.
"ما دمتُ على قيد الحياة... فلن تُفتح هذه القناة أبدًا."
نظر جوناثان إلى الأمير، مذهولًا.
كان يبتسم، ابتسامة قاتلة، وعيناه تلمعان بالتصميم.
وهبّت نسمة باردة من طرف السيف،
وفي اللحظة التالية... ضرب الأمير الأرض بقدمه وانطلق للأمام
تحطم-
اهتز القصر القديم قليلاً من الاهتزاز المفاجئ والضعيف. وقف ماسين وكورت، اللذان كانا يقضيان وقتًا مملًا بالجلوس في الردهة، متفاجئين.
تحطم-
انتقلت الاهتزازات، الواحدة تلو الأخرى، عبر الأرضية. و كان الغبار يتساقط من السقف.
"…..يبدو وكأن مصدره من تحت الأرض؟"
هل يمكن أن يكون زلزالاً؟
قام الاثنان بدفع الخادم الذي حاول إيقافهما جانبًا، وركضا مسرعين نحو قاعة المأدبة. على الرغم من أن الزلازل كانت نادرة في ديلكروس، إلا أنه كان لا بد من إخلاء الأمير من القصر القديم استعدادًا لاحتمال حدوث زلزال.
"سموك!"
لكن قاعة الاحتفالات كانت فارغة.
سرعان ما تشوّه وجه ماسين عندما اكتشف درجًا سريًا يؤدي إلى الطابق السفلي في زاوية القاعة.
"مستحيل……"
تحطيم—
رنّ الاهتزاز مرة أخرى.
كان من الواضح أن مركز الزلزال يقع أسفل القصر مباشرة.
تبادل الاثنان نظرة سريعة، ثم اندفعا يركضان إلى أسفل الدرج.
كوييييك!
بعد عدة طعنات، بدأت يرقة البانترا تتلوى كالمجنونة وتصرخ كما لو كانت تتقيأ.
إنه لغز حقًا... كيف يمكن لكائن لا يمتلك أعضاء صوتية مناسبة أن يصدر مثل هذا الصوت؟
بسبب غلافها الخارجي السميك الذي يشبه المطاط، لم يتمكن حتى السيف من اختراقها بعمق، لكنها كانت تكافح بجنون كما لو كانت تحتضر. تساقط غبار خفيف من الجدار الحجري القوي المظهر.
ترك سيونغ جين ذلك الشيء يتلوى، وسحب رداء كينيث ديجوري المترهّل.
هل سيكون هذا الرجل بخير؟
لقد نسيت الهالة المتدفقة عبر جسدي، وضربته في مؤخرة رأسه بكل قوتي...
"مهلًا، لا تشتت انتباهك هناك وتعال إلى هنا!"
قال ذلك مخاطبًا الرسول الذي كان جالسًا مذهولًا وتائهًا.
كان لا يزال عاجزًا عن تجاوز صدمة أنه كاد يصبح طعامًا ليرقة.
لكنني كنت آمل أن يسرع، لأنني إذا ابتلعته اليرقة متوهجة عن طريق الخطأ، فسأكون في ورطة.
عندما يتحول إلى شرنقة، ستُفتح القناة.
كان بقية الرسل قد خرجوا بالفعل إلى الممر.
غمزت لجوناثان، الذي كان يترنح واقفًا، ولحسن الحظ، التقط الإشارة بسرعة، وتقدم لمساعدة الرجل الذي سقط.
بالطبع، عندما داس على ما بدا وكأنه مجسات متلوية، ثم تجمد في مكانه من الصدمة.
"هل أنت بخير؟ لا تقلق ، هذه مثل الهوائيات أو الجذور. ليست خطيرة جدا."
قالها سيونغ جين بنبرة مطمئنة، وبدأ في إخراج الرسول، متجنبًا الجذور بعناية.
في الحقيقة، في اللحظة التي تتحول فيها إلى شرنقة، ستصبح تلك المجسات وحشية، تلتف وتقتل كل ما يتحرك.
لكن حتى لو أخبرته بذلك الآن، فسيكون تأثيره معاكسًا.
ولحسن الحظ، سرعان ما تعافى الرسول الذكي من الصدمة وبدأ يمشي على قدميه.
وعملت المجموعة معًا لإخراج كينيث ديجوري من الغرفة ذات الجدران الحجرية بنجاح.
"الآن، خذ هذا الفتى إلى الطابق العلوي. اذهب وناد على بمرافقي."
تفاجأ جوناثان من كلمات سيونغ جين، ونظر إليه.
"هاه؟ ماذا عنك سموك ؟"
"أنا بحاجة إلى القيام بشيء حيال هذا الشيء أولًا."
بدا جوناثان متأثرًا جدًا بإجابة سيونغ جين.
لكن... لا، ليس الأمر كما يعتقد. ليست مسألة تضحية أو بطولة.
كان بإمكاني الانتظار هنا حتى وصول السيد ماسين والسيد كورت،
لكنني قررت اتخاذ أجراء حياله بنفسي أولًا.
رغم أن الوجبة النهائية التي تحتاجها اليرقة لتتحول إلى شرنقة قد تم منعها ، إلا أن هناك احتمالًا ضئيلًا بأن تفتح القناة أثناء التحول غير الكامل، خاصة إذا شعرت بالتهديد.
وقبل كل شيء...
لم يترك الصياد لي سيونغ جين يومًا وحشًا يتلوى حيًا خلفه.
بينما كان جوناثان والطالب يدعمان كينيث ديجوري من كلا الجانبين، أمسك سيونغ جين سيفه، وعاد إلى الغرفة ذات الجدران الحجرية.
"آه، سينيور كينيث، الدم يقطر من أنفك؟"
"ألم يتلقَ ضربة في مؤخرة رأسه؟ لماذا يعاني من نزيف في الأنف؟"
"ربما يكون هناك تلف في الدماغ...…"
اصبح الامر خطير هنا...
فقط ..
اخرجوا من هنا بسرعة يا رفاق!