38. المفترس (2)
مارثا كانت من بلدة ريفية في روهان، مشهورة بإنتاج العنب عالي الجودة.
وكان جمالها معروفًا في المنطقة، حتى أن سكان البلدة ظلّوا يتكهّنون بأنها ستصبح قريبًا خليلة لأحد النبلاء وتعيش في رغد وثراء.
لكن ذلك الحلم تحطّم حين اجتاحت عصابة من قطاع الطرق قريتها وحوّلتها إلى أرضٍ قاحلة.
صارت مارثا امرأة جيروم، زعيم قطاع الطرق.
ورغم أن الزواج فُرض عليها قسرًا ولم يكن باختيارها، فقد تأقلمت مع حياتها الجديدة سريعًا.
سواء كانت تكدّ تحت شمس الظهيرة في كروم النبلاء أو تعيش كزوجة لزعيم العصابة، لم يكن هناك فارق كبير في قسوة الحياة التي عانتها.
جيروم، رغم غضبه المتفجر في بعض الأحيان ولجوئه إلى العنف، كان يعتني بمظهر من العناية بتلك المرأة الجميلة.
لكن مأساة أخرى وقعت عليها قريبًا.
ففي أحد الأيام، حين كانت حاملاً في أشهرها الأخيرة، ضربها جيروم الثمل في بطنها.
سقطت أرضًا تتقيأ دمًا، ولم تستعد وعيها إلا بعد يومٍ كامل.
لكن حين فتحت عينيها، كان الجنين قد فارقها.
كانت مارثا جالسة في الكوخ، تحدّق في الفراغ، حين دخل جيروم ينظر إليها بتوتر.
وبعد فترة قصيرة، عاد يحمل طفلًا صغيرًا ملفوفًا في بطانية، وألقاه أمامها.
كان رضيعًا وسيمًا، بشعر أحمر ناعم وعيون سوداء كالأوبسيديان.
لم تستطع مارثا أن تنسى تلك اللحظة الأولى حين التقت نظراتها بعيني الطفل.
الرضيع، الملفوف بإحكام، كان يحدّق بها دون أن يبكي.
عينيه السوداوين، العميقتين كأنهما لا تعكسان ضوءًا، امتصّتا انعكاس حالتها الحزينة، بل وكأنهما سحبتا روحها معها.
كان ذلك... مرعبًا.
مرعبًا إلى حدٍ لا يُحتمل.
تملّكها شعور غريب يدفعها للتخلّص من الطفل فورًا، لكن خوفًا غامضًا من انتقامه إن هي فعلت ذلك جعلها عاجزة عن الحركة.
"إنه... جميل"، تمتمت والدموع تنهمر على وجهها وهي تبتسم.
جيروم، الذي لم يدرك أن دموعها كانت وليدة الخوف لا الفرح، ابتسم برضا.
سُمّي الطفل "كايين"، وسرعان ما بدأ يكبر.
النساء القلائل في القرية كُنّ يحسدن مارثا، وهن يلامسن وجه الطفل الجميل، الذي بدا وكأنه دمية خزفية.
جيروم بدوره بدا راضيًا عن الطفل الهادئ الذي نادرًا ما يبكي.
لكن مارثا، التي قضت معظم وقتها بجواره، كانت الوحيدة التي تشعر بعدم الارتياح نحوه.
كلما لم تُطعمه في الوقت المناسب، أو عجزت عن إمساكه عندما يتعثّر أثناء اللعب، كانت عيناه السوداوان تحدّقان بها بجمود، فتشعر بانقباضٍ في صدرها ورعبٍ لا يوصف.
وكلّما حاول جيروم الثمل أن يضرب كايين، كانت مارثا ترتمي أمام الطفل، تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تحميه.
فهاجس غامض كان يخبرها أن شيئًا مريعًا قد يحدث إن أخفقت في ذلك، وأن الخطر... لم يكن جيروم، بل الطفل نفسه.
هل كانت تفقد صوابها؟
كثيرًا ما سألت مارثا نفسها هذا السؤال وهي تحدّق في وجه الطفل البريء وهو نائم.
هل كان السبب أنها لم تنجبه؟ هل هذا هو ما جعلها غير قادرة على محبته بما يكفي؟
تساءلت مرارًا إن كانت تظلمه بكرهها وخوفها من كايين الذكي والمترقّب، الذي حلّ محل جنينها الذي لم يولد.
لكن قلقها لم يلبث أن تحوّل إلى واقع.
في أحد الأيام، وبينما كانت في الخارج تغسل الملابس مع النساء الأخريات، عاد جيروم إلى المنزل مبكرًا وهو صاحٍ هذه المرة، لكنه فجأةً ضرب الطفل.
وفي ذلك اليوم، طُرح كايين أرضًا واصطدم بجدار الكوخ، مما سبّب التواءً شديدًا في ركبته اليسرى.
ورغم أن الإصابة كانت شديدة لدرجة أنه لم يستطع المشي بشكل طبيعي بعدها، إلا أن كايين، ما إن فتح عينيه، حتى حدّق في مارثا بصمت.
وكانت نظرته... تبعث القشعريرة في الجسد.
وفي اليوم التالي، عاد جيروم إلى البيت مخمورًا، وبدأ في ضرب مارثا بعنف لم يسبق له مثيل.
ورغم أن بعض التابعين والنساء المجاورات تدخّلوا في النهاية لانتزاعه عنها، إلا أن مرفقها الأيسر قد تحطّم تمامًا في ذلك اليوم.
ربما كان الأمر محض صدفة.
لكن حين فتحت مارثا عينيها المنتفختين من الألم، كان أول ما رأته وجه كايين... يبتسم لها لأول مرة.
***
" كم شيئا تعتقدين انه فهم يا أمي ؟"
ردّدت مارثا كلمات كايين وهي شاردة الذهن.
"كنت أظن أنه إذا رأى طُعمًا مناسبًا، فسيبدأ البحث من الأماكن التي يعرفها. ترى ماذا فاتني؟ ربما كان عليّ أن أترك والدي وشأنه، كما قال بالأمس؟"
الطريق إلى قمة الجرف كان وعرًا، والهواء باردًا.
كانت قدماها تتقدمان رغمًا عنها، وكأن شيئًا خارج إرادتها يقودها.
"لكن إن مات أبي بسرعة، ألن يبدأو بالتفتيش في أماكن لا داعي لها؟"
"قتلي لأسلان بسهولة جعلني أشعر بالغثيان. أردت فقط شراء يومٍ إضافي... لكن يبدو أنني طمعت كثيرًا."
كانت الدموع تنهمر من عينيها دون توقف، وقدماها تواصلان السير نحو حافة الجرف.
"لهذا السبب أحتاج إليك، أمي. إن فعلتِ هذا، سينتهي كل شيء."
لطالما تخيّلت مارثا أن حياتها القاسية ستنتهي يومًا ما، لكنها لم تتخيّل أبدًا... أن النهاية ستكون بهذا الشكل.
"على الأقل كنتِ مفيدة مرة واحدة، أمي."
وكان آخر ما فكّرت به قبل أن تطأ قدمها حافة الجرف... هو وجه كايين، وهو يبتسم لها للمرة الثانية.
***
دُفعت الباب بقوة. بانغ !-
استفاق أسلان من غفوته وهو مستند إلى الجدار، وقفز واقفًا، بينما كان بارت قد انتصب واقفًا بالفعل يراقب الداخلين بحدّة.
وقبل أن يسألهم عمّا يجري، تقدّم أحد الرجال، بوجه متجهّم، وأصدر أمرًا:
"استعد. أحدهم سقط من الجرف."
سقط من الجرف؟ الجرف العالي غربًا؟
لا يمكن أن تكون نهايته جيدة.
هذا ما خطر في بال أسلان.
لكن الجو المشحون الذي دخل به الرجال لم يكن طبيعيًا أبدًا...
يبدو أن الشخص الذي سقط لم يكن عاديًا على الإطلاق.
بسرعة، جمع أسلان بعض الأدوية الطارئة، ومسكنات الألم، والضمادات، ثم خرج من الكوخ برفقة بارت.
وعندما وصلا إلى أسفل الجرف، كان عدد لا بأس به من الناس قد تجمع حول المكان.
حتى قبل أن يقترب من المصابة، أدرك أسلان أن لا جدوى من محاولة إنقاذها.
كانت الضحية، التي التوت أطرافها في اتجاهات شتى، ممددة وسط بركة من دمها، ورائحة الدم تملأ المكان.
ولم يتعرف عليها إلا عندما اقترب بما فيه الكفاية: كانت مارثا.
وكان جيروم، بوجهه المتجهم، واقفًا بصمت يحدّق بها وهي على ذلك الحال المروع.
وبينما خيّم الصمت على الجميع، أسرع أسلان نحو مارثا وركع بجانبها.
لكنه مهما فكّر، لم يجد ما يمكن فعله.
كان جمجمتها مهشّمة كما لو أنها سُحقت، ورغم أنها كانت لا تزال تتنفس، إلا أن بقاءها حيّة بدا مستحيلاً.
كانت حدقتاها، المفتوحتان على اتساعهما، تتحركان بلا تركيز، ووميضهما عشوائي.
اقترب بارت بهدوء وجلس بجانب أسلان، ثم ناوله كيسًا صغيرًا من الأعشاب التي أحضراها.
نظر أسلان إلى وجه بارت للحظة، ثم أخذ الكيس، وأشعل قدّاحة، فاشتعلت الأعشاب ببطء، وبدأت رائحة دوائية ثقيلة تنتشر في الهواء.
"...ما هذا؟"
سأل جيروم بصوت مكتوم.
فأجابه أسلان، "عشبة ذات تأثير مسكن... قد تخفف من ألمها قليلًا."
"..."
ولم يقل أحد شيئًا بعدها. فقط بقوا بجانبها بصمت.
ومع مرور الوقت، توقّف تنفّسها تمامًا، واتسعت حدقتاها وجمدتا.
أغلق جيروم عيني مارثا بيده، وظل يضع كفه فوق جفنيها طويلًا دون أن يتفوّه بكلمة.
وعندما تكلم أخيرًا، خرج صوته قاتمًا جدًا:
"...من الذي عثر عليها؟"
"هانز من فريق البحث. كان في إجازة اليوم وكان يقطع الحطب..."
"احبسوه في الحظيرة."
ترددت شهقة خافتة بين الرجال.
وانهار هانز، الذي شحب وجهه، راكعًا أمام جيروم وهو يرتجف.
"الزعيم، أ-أنا بلّغت الجميع فور أن رأيتها ! لماذا ...؟"
"إذًا أخبرني، من الذي دفع مارثا من فوق الجرف."
"...ماذا؟"
تجاهل جيروم دهشته ، وقال ببرود:
"إن لم يدفعها أحد، فأنت الفاعل."
"هذا مستحيل..."
"ما الذي كنت تفعله بحق الجحيم؟"
نهض جيروم ببطء، وألقى نظرة على رجاله.
وبمجرد أن لمح بعضهم غضبه المتأجج، كما لو كان على وشك قتل أحدهم، أمسكوا بهانس المرتجف وتراجعوا بخوف.
حدّق جيروم بهم قليلاً، ثم وجّه نظره إلى أسلان، الذي كان لا يزال جالسًا إلى جانب مارثا.
كانت نظراته حادّة إلى درجة جعلت أسلان يتجمّد في مكانه كما يتجمّد فأر أمام أفعى.
"من يسمّون أنفسهم معالجين... لا فائدة منهم على الإطلاق."
تفوه جيروم بكلماته كما لو كان يبصق مرارةً يمضغها، ثم استدار وغادر المكان.
أما من تبقى عند أسفل الجرف، فقد وقفوا عاجزين عن الفعل، يتبادلون النظرات الحائرة.
فالحقيقة خلف الحادثة لم تعد تهم، إذ لم يعد بالإمكان التنبؤ بمكان سقوط غضب ذلك الزعيم السيء الطبع في المرة القادمة.
أسلان أيضًا كان يفكر في كلمات جيروم الأخيرة، حين سُمع فجأة صوت سقوط شخص أرضًا.
كان كايين.
كان جسده يرتجف بالكامل، ووجهه شاحبًا كما لو رأى شبحًا.
في البداية، ظنّ أسلان أن سبب حالته هو صدمة موت والدته، فتمتم ساخرًا في داخله:
"إذًا هذا الحثالة يملك جانبًا إنسانيًا بعد كل شيء."
لكنّه سرعان ما أدرك أنه كان مخطئًا.
فكايين لم يكن ينظر إلى جثة والدته، بل إلى شيء آخر.
بل أدق، كان يحدق في شيء يقف بجوار أسلان...
"...بارت؟"
كان بارت وكايين يحدّقان في بعضهما.
ولما التفت أسلان نحوه دون تفكير، صُدم لدرجة أنه حبس أنفاسه للحظة.
وجه بارت كان دائمًا باردًا، أما الآن، فقد بات عديم التعابير تمامًا.
ومع ذلك، كان هناك غضب مكبوت قوي يُبث منه بهدوء، غضب لا يمكن مقارنته حتى بصخب جيروم وعنفه.
ربما كانت عيناه السبب.
في عينيه، اللتين انعكس فيهما ضوء الظهيرة بوميض فضي غريب، كان يكمن برود جليدي يجعل من يُشاهد تلك النظرة يشعر كأن الهواء ذاته يتجمد.
وليس من المستغرب أن يرتجف كايين تحت وطأة تلك النظرات القاسية.
وبعد أن حدّق في كايين طويلاً بعينيه الحادتين كسكاكين مسنونة، فتح بارت فمه أخيرًا.
خرج صوته هادئًا، لكنه مشحون بالغضب المقيد بإحكام، لدرجة جعلت القشعريرة تسري في جسد أسلان.
"هل كان من فعلك أن تتحوّل أرواح هذا الجبل إلى هذا المصير؟"
"...أنت، من تكون؟"
"كنت أراقب لأرى أي خلل قد يؤدي إلى أفعال كهذه، لكن ما حدث تجاوز حدود المعقول ، ما الذي كنت تأكله طوال هذه المدة ؟ هل تدرك معنى ما تفعله ؟"
تستهلك؟ ماذا يعني؟
أسلان، الحائر من الكلام الغامض، نظر باستغراب.
لكن كايين... بدا وكأنه فهم تمامًا.
اتسعت عيناه فجأة بدهشة حقيقية، وبدت بياضهما جليًّا، وكأن الخوف قد شلّ وجهه.
"مـ... مـاذا؟ كـ... كيف...؟!"
بدأ كايين يتراجع إلى الوراء، يتصبب عرقًا، ولا يزال جالسًا على الأرض.
في تلك اللحظة، لاحظ بعض قطاع الطرق أخيرًا الجوّ المشحون، وتدخلوا بخوف.
كانوا هم أولئك اللصوص الذين كانوا يراقبون أسلان منذ الصباح.
أكمامهم، وضيقوا طوقهم بحركات وجوه قاتمة.
لكن، بعدما غادر معظم قطاع الطرق مع جيروم، بدا أن القليل من اللصوص المتبقين، باستثناء بعض النهبين، كانوا مرتبكين بشأن ما يفعلونه بأسلان وبارت.
في تلك الأثناء، تمكن كايين المتمايل من النهوض وبدأ يعرج مبتعدًا.
كانت تلك فرصتهم الوحيدة الآن، فكر أسلان.
وبالنظر إلى مزاج جيروم الأخير، لم يبدو أنه ينوي الحفاظ على سلامة أسلان وبارت بعد الآن.
ويبدو أن بارت يفكر بنفس الطريقة.
"استعد يا أسلان. علينا مغادرة هذا المكان فورًا."
صَدم.
وفي لحظة، لوّح بارت بذراعه وضرب الرجل الواقِف أمامه.
لا، لم تكن ضربة باليد... لقد انغرزت جبين الرجل بشكل واضح على هيئة قيد اليد.
"...!"
"ذلك الوغد!"
"اقتلْه!"
هاجم قطاع الطرق المحيطون جميعهم مرة واحدة.
وفي وقت قصير، تمكن بارت من إسقاطهم جميعًا وهم يتأوهون على الأرض.
صَدم، دقّ.
كانت حقًا ضربة رائعة.
كان من الصعب تصديق أن رجلاً يبدو هزيلًا قادر على إسقاط قطاع الطرق بكل سهولة.
فقط كان يتفادى اللكمات المتساقطة عليه كالعاصفة، ثم يوجه لكمة... لا، قيدَ يدٍ إلى نقاطهم الحيوية على أقصر مسار.
وكان المدهش أن بارت لم يبدو وكأنه يستخدم أي هالة على الإطلاق.
كان فعلاً يحرك الأصفاد الثقيلة والسلاسل بكفاءة، محطمًا رؤوس قطاع الطرق.
سرعان ما لم يبقَ أي قطاع طريق واقفًا في أسفل الجرف.
تركوا جميعًا أثر الأصفاد على رؤوسهم كما لو كان ختمًا.
قوة الأصفاد التي يمكنها بسهولة سحق الرسغ كانت فعلاً هائلة.
حتى بارت، المستخدم لها، بدا مندهشًا من القوة التدميرية.
حدق في معصمه للحظة، ثم تمتم بإعجاب
"ظننت أنها مجرد مزحة سيئة، لكن هذا الصديق أكثر استعدادًا مما توقعت."