الفصل 23: الحقيقة تحت وهج المصباح
الظلام خيم على الغرفة الصغيرة، لا يُرى منها شيء سوى ضوء مصباح زيتي خافت يتراقص فوق طاولة خشبية عتيقة، كأنّه يحرس الأسرار التي ستُكشف في هذه الليلة. في الزاوية، جلست أني، يداها مكبلة وساقاها مشدودتان بسلاسل معدنية، جسدها مشلول بالكامل، لكن عينيها تتحركان بقلق، تتبع ببطء ذلك الفتى الجالس أمامها.
رين. وجهه مضاء بنصفه، ملامحه كتمثال من الجليد، وسيم وباهت كأن الحياة لا تعرف طريقًا إليه.
ارتجفت أني. لم تكن تتوقع أن ترى هذا الوجه مجددًا… أو أن تكون في هذا الموقف.
من خلفه، في عمق الظلال، وقفا رجلان بملامح جامدة ونظرات ثاقبة. لم تستطع أني تمييز ملامحهما جيدًا، لكن حضور أحدهما يكفي لتبثّ الرهبة في المكان.
ليفاَي وأروين.
قطع الصمت صوت رين، هادئًا وعميقًا:
"آن الأوان، أني... لنختم هذا الفصل."
مدّ يده، ووضعها برفق على جبينها. أغلق عينيه، وكأنه يتظاهر بقراءة ذكرياتها، تمامًا كما خطط.
كان يظنها خدعة فقط… خدعة كي يقنع ليفاي وأروين. لم يتوقع أن يرى شيئًا.
لكن الصور بدأت تتدفق.
نيران. دماء. أصوات صرخات. وجهها… وهي طفلة.
فتح رين عينيه فجأة. اتسعتا بصدمة.
همس بصوت مرتجف: "أني... أنتِ..."
مرت لحظات صامتة قبل أن ينهض من مكانه، يداه في جيبيه، وعيناه مطأطئتان. لاحظت أني قلقًا غريبًا في وجهه، ليس بسببها… بل بسبب ما عرفه.
التفت نحو الظلال حيث وقف ليفاي وأروين، ثم تكلم بهدوء:
"اسمها أني ليونهارت. فتاة من دولة تُدعى مارلي…"
تبادل أروين وليفاي نظرات سريعة.
تابع رين كلامه ببطء، كأنه يختار كلماته بعناية، يخفي الصدمة في صوته:
"منذ طفولتها، تبناها رجل في مارلي… لم يكن والدها الحقيقي، بل جندي سابق علّمها القتال ليس بدافع الحب، بل بدافع الواجب. كل شيء في مارلي يسير بالواجب والانتماء. كانت أني مشروع جندية. نخبة. لا أكثر."
شد أروين قبضته، وسأل: "ما هي مارلي؟ وماذا تقصد بدولة؟"
أخذ رين نفسًا عميقًا: "مارلي... تقع خارج هذه الأسوار. بعيدًا، في قارة أخرى. نحن... نحن لسنا البشرية الوحيدة، كما ظننا. مارلي تحكم العالم تقريبًا، باستثناء هذه الجزيرة التي نعيش عليها — باراديس."
سأل ليفاي وهو يضيق عينيه: "ومن أنتم؟ نحن؟"
"نحن من يسمونهم في مارلي... الشياطين. شعب إلديان."
ساد صمت خانق.
أكمل رين، بنبرة أكثر مرارة: "مارلي ربّت جيلًا من الأطفال ليكونوا جنودًا وأسلحة. قالت لهم إن أهل الجزيرة وحوش يجب القضاء عليهم. وتم غسل أدمغتهم، من سن مبكرة. أني كانت إحدى هؤلاء. وكذلك راينر وبيرتولت."
ارتجفت عينا أني وهي تحدق في الأرض، تتفادى نظرات رين.
أروين همس وكأنه يخاطب نفسه: "ثلاثة… كانوا بيننا طوال الوقت."
أومأ رين: "مارلي تملك سبعة من العمالقة التسعة. عمالقة أذكياء، يمكن لحامليهم التحول في أي لحظة. كل عملاق يُورث من شخص لآخر، عبر الأكل… بطريقة بشعة."
سأل أروين ببطء: "أي تسعة؟ وما العمالقة الأخرى؟"
بدأ رين يعدد، بإيقاع ثابت: "العملاق المدرع… العملاق الأنثى… العملاق الضخم… عملاق الفك… العملاق العربة… والعملاق الوحش…"
تردد الصمت للحظة، قُطع فقط بصوت ليفاي الهادئ والحاد:
"قلتَ أن مارلي تمتلك سبعة من العمالقة التسعة… صحيح؟"
لم يرد رين على الفور. حدّق إلى الأرض ببرود، وكأن صدى السؤال أحيا في ذاكرته شيئًا دفينًا.
"نعم..." قالها أخيرًا بنبرة منخفضة، ثم رفع رأسه ببطء وتابع:
"العملاق السابع… المطرقة الحربية. ليس بيد الحكومة مباشرة."
انحنت حواجب إروين باهتمام، بينما ليفاي ضيّق عينيه بنظرة فاحصة.
"ما تعني بذلك؟"
تنهد رين بصوت بالكاد يُسمع، ثم تابع بصوته الرتيب:
"عائلة تايبر... عائلة نبيلة من الالديان، يعيشون بحرية داخل مارلي. هم الوحيدون بين شعبنا الذين لم يُعاملوا كعبيد، بل منحوا امتيازات مقابل... خدماتهم."
أخذ وقفة قصيرة، ثم أضاف بنبرة غامضة:
"لقد أقنعوا العالم بأنهم من أوقفوا العملاق المؤسس في الحرب العظمى. وبالمقابل... سمحت لهم مارلي بالاحتفاظ بالمطرقة الحربية."
سأل ليفاي ببطء: "إذن هذا العملاق لا يتبع أوامرهم مباشرة؟"
أجاب رين: "لا. إنه ملك لعائلة تايبر، ويُستخدم فقط عندما يكون ذلك في مصلحة العائلة. أفرادها يعيشون كأرستقراطيين ويتظاهرون بأنهم مجرد رموز. لكن الحقيقة أنهم أكثر دهاءً من حكومة مارلي نفسها."
لمعت عينا ليفاي بحدة: "هل من المحتمل أن يرسلوا هذا العملاق إلى الجزيرة أيضًا؟"
هز رين رأسه: "ليس بعد... عائلة تايبر تفضل التخفي والتحكم من بعيد. لكن… لو شعروا بأن التوازن مهدد… لن يترددوا."
أروين قاطعه: "وهناك اثنان لم تذكر أنهما في يد مارلي؟"
"العملاق المؤسس، والعملاق الهجومي. كلاهما… داخل الجزيرة."
أغمض أروين عينيه، وكأنه يُعيد ترتيب الأحجية في عقله. أما ليفاي، فتقدم خطوة، ونظر مباشرة إلى رين:
"وماذا عنك؟ ما هو عملاقك؟"
صمت رين.
خفض بصره، وتكلم بنبرة خافتة: "لا أعلم… لا أتذكر. فقط أرى نيرانًا ودماء… ظلالًا متكسرة."
لم يكن يكذب. كانت هذه هي شظايا الذكريات التي ورثها من مالك الحسد الأصلي… الألم فقط.
عاد ليسرد البقية:
"عندما مات مالك عملاق الفك الأصلي، أكل من قبل عملاق هاجمهم فجأة وحسناً عملاق فك غيرو معروف مكانه الان…قبل أن تنطلق أني وراينر وبيرتولت لتنفيذ مهمتهم… اقتحام سور ماريا… وسقوط شينغانشينا."
رفع نظره لأنِي.
"قبل أن تأتي إلى هنا، قابلت والدها… الرجل الذي ربّاها. قال لها إنه آسف. وإنه يريد منها أن تعود."
عيناها امتلأتا بوميض حزين، وارتجاف طفيف سرى في شفتيها.
تنهّد رين، ثم التفت مجددًا نحو أروين وليفاي:
"أني… لا تهتم لمارلي. ولا تهتم لهذه الجزيرة. هي فقط… تهتم لذلك الرجل. لذلك الأب الذي لا تعلم إن كان حيًا أو لا."
ثم تابع بصوت منخفض:
"أظن أنها نادمة. وربما… يمكننا أن نستخدم هذا."
سقطت كلماته كالصاعقة على قلب أني.
رفعت رأسها ببطء، تنظر إليه. ظهره أمامها، لكنه بدا كجدارٍ من العزيمة. للحظة… شعرت أنها تنظر إلى ملاك سقط في الظلام… لكنه ما زال يرفض الاستسلام.
أروين، بعد صمت طويل، أخرج قنينة صغيرة من سترته، ورماها نحو رين.
قال ببرود: "اجعلها تشرب هذا."
تناولها رين بصمت، وسكب السائل في فم أني المشلولة.
بدأ وعيها يذوب ببطء، والغرفة تدور أمام عينيها.
قبل أن تغيب، سمعت همسة من رين، قريبة… حزينة… خافتة:
"أني… لا تخونيني مجددًا."
ثم… ظلام.
****
نهاية الفصل 23 *
شباب وين شكرا على الفصل خاصتي (╯︵╰,)