الفصل 32 : بداية النهاية
في عمق العالم الغامض، حيث لا زمان ولا مكان، حيث يطفو وعي رين فوق بحر من الظلال والذكريات، انفجرت نافذة النظام أمام عينيه:
[تحذير: تدخل عقلي مجهول. تحليل الهوية...] [تم التعرف: تجسيد إرادة أول مالك للعملاق المهاجم. تجسيد إرادة العملاق المؤسس.]
تقلصت عيناه، ولكن لم يُبدِ دهشةً، فقط برودة جليدية نحتت وجهه. وفجأة، دون سابق إنذار، هبَّ إعصار من الضغط الذهني عليه، ضغط لم يكن ماديًا، بل كأن السماء بأكملها ركعت على كاهله. ركبته اليمنى ارتجفت، ثم سقط على الأرض، يده تغرز في سطحٍ غير مرئي، وقلبه يكاد يتوقف.
— هذا ليس... ضغطًا عادياً.
عيناه رمشتا بصعوبة، والظلام يتسرب إلى أطراف وعيه. ومع ذلك، كان إيرين هناك، يحدّق فيه، يده ممدودة دون أن يتحرك، وكأن الزمن قد توقف عليه.
الغريب أن إيرين لم يتأثر، كأن الهجوم العقلي لم يمسه.
تنفس رين، بصوتٍ خافت، أشبه بآخر زفرة لجسدٍ على حافة النهاية. ومع تلاشي الوعي، همس:
"...أكمل المسير عني."
لكن الجملة لم تكن مجرد كلمات، كانت نداءً من قاع الجحيم، جملة مشبعة بالخذلان، الإنهاك، ونذر عاصفة قادمة.
فجأة، اشتعلت عيناه بحمرة قرمزية داكنة، كشفق ينذر بالموت. تصدعت الأرض من حوله، وظهر خلفه ظل... لا، كيان.
شيطان.
ضخم، مرعب، كأن الظلال تجمعت منذ بدء الخليقة لتشكّله.
ضحكات ملتوية، كأنها نُسجت من صراخ المعذبين، تموجت في الأفق.
وأمام هذا الكيان، تجسد "الملك"— إرادة العملاق المؤسس— راكعًا، جسده يهتز، عيناه تمتلئان بالخوف الخالص. كان شكله شاحبًا، وكأن قرونًا من الذنب تنخر في روحه، ووجهه ارتجف تحت نظرات رين.
أما العملاق المهاجم، فتجسيده كان واقفًا، شامخًا، لا يتراجع، يقاوم الظلام بصلابة مذهلة. لكن الموجة انطلقت.
دوامة من العتمة انطلقت من الكيان الشيطاني، اجتاحت كل شيء، وابتلعت الوجود ذاته.
الملك صرخ، العملاق المهاجم صمد... ثم سقط. وفي لحظة خاطفة، عاد كل شيء إلى العدم.
ذلك الكيان الغامض، اقترب من رين، تراجع إليه... اندمج معه، وبينما يغمره الظلام، همس في أذنه:
"...أنت مدين لي... يا وريث الخراب."
واختفى الصوت، تاركًا خلفه صمتًا يخرق العظام.
ببطء، اختفى رين من ذاك العالم، وجهه مرهق، عيناه مطفأتان.
ثم— فجأة— عادت الحياة.
إيرين شهق، ونظر حوله. الجميع واقفٌ مكانه، ولا أحد بدا كأنه لاحظ شيئًا. ميكاسا حتى كانت تنظر للأمام بهدوء، كأن اللحظة لم توجد قط.
نظر إلى رين، الذي كان يسير للأمام بهدوء، بخطوات ثابتة، كأن شيئًا لم يحدث.
"...رين."
قالها إيرين بصوتٍ خافت، ووجهه مشوش، تتداخل في رأسه مئات النظريات، مشاعر مختلطة من القلق، الرهبة، والدهشة. كيف لم يتأثر؟ ماذا كان ذلك الكيان؟ ومن هو رين حقًا؟
استدار له رين للحظة، وعيناه ما تزالان تغوصان في العدم، قبل أن يهمس بجفاف بارد:
"عندما يحين الوقت... ستفهم."
ثم تنهد، تنهدًا خافتًا كأنها نفخة ريح، وعاد ليمشي.
في اللحظة التالية، توقف صوت الخيول، وصدى الأقدام.
أروين، واقفًا على صهوة جواده، نظر إلى الأفق، نحو الجدار العظيم.
"استمروا نحو جدار ماريا!"
صرخ بها، وصوته شق السماء.
---
مع انقسام الجيش وفقًا للخطة، كانت الصورة واضحة:
فريق فوق الأسوار، يقوده أروين وأرمين، بدأوا بتفتيش المنطقة، كل حركة محسوبة، كل خطوة تفضح الصمت.
فريق إيرين وميكاسا، اندفع نحو فتحة منطقة "شينغانشينا"، حيث يجب إغلاق البوابة.
أما الفريق الثالث—فريق ليفاي—فبدا كأنهم يعتنون بالأحصنة.
لكن عيني ليفاي، تلك العينين الحادتين، كانتا ترقبان الأفق...
نحو ذلك المكان البعيد، حيث تتجه رين وآني متخفية.
همس ليفاي في نفسه:
"هذا الهدوء... لا يعجبني. وكأن العاصفة تختبئ هناك."
كان يعلم. يشعر بشيء خاطئ. ليس خوفًا، بل حدس مقاتل لا يخطئ.
الرياح اشتدت.
وها هي مهمة استعادة جدار ماريا تبدأ حقًا.
أصوات الخيول، الحديد، وصوت الأرض تحت سنابك الأمل، كلها أعلنت:
بداية النهاية قد اقتربت.
ومع ابتعاد ظل رين وآني عن الأنظار، تسارعت دقات المصير.