---
الفصل 33 - العملاق الوحش ، وهدير الهاوية
نهاية ارك نحو جدار ماريا
الريح الباردة تهب فوق السهل العشبي، تتراقص أطراف الحشائش الطويلة بانسياب غامض، وكأنها تتنفس مع الأرض نفسها. وفي قلب ذلك السكون، ظهر رين ممتطيًا جواده، وحده، يسير ببطء ثابت نحو ظلٍ واقف على التلة المقابلة.
زيك.
واقِف هناك، ذراعيه خلف ظهره، ووجهه يحمل ملامح من الهدوء والتأمل، وكأنه لم يكن ينتظر مقاتلًا بل زائرًا عابرًا. تحت السماء الرمادية، التقت عينا رين بعينيه.
توقف الحصان، وترك رين لجمامه، ثم خطا وحده على العشب.
"إذًا... كنت هنا." قالها رين بصوت منخفض، كأنما يجرّ الكلمات من مكان سحيق في قلبه.
زيك لم يتحرك. لم يبتسم. فقط نظر إليه بعينين عميقتين، وقال:
"لقد تأخرت، كنت أظن أنك ستصل أبكر من هذا."
ضحكة صغيرة خرجت من رين، بلا أثر للمرح.
"كنت مشغولًا بجثث تركتموها في كل مكان."
صمت بينهما، عميق ومكثّف.
"أنت تعلم الكثير يا رين. أكثر مما ينبغي." قال زيك، نبرة صوته مزيج بين الفضول والحذر.
"وأنت تخفي الكثير، أكثر مما تستطيع احتماله." رد رين، ناظرًا إلى السماء فوق زيك، كأنه يرى شيئًا آخر خلفه.
زيك أطلق تنهيدة طويلة، ثم نظر بعيدًا، صوب الأفق.
"أتعلم؟ كل هذا مجرد فوضى. نحن والجنود والملك… حتى أولئك الذين داخل الجدران، كلنا نركض خلف وهم. أو ربما نحن مجرد أدوات لوهمٍ أكبر."
"لا تتظاهر بالحكمة، يا قرد." رد رين ببرود. "فكل من يقتل الأبرياء ثم يتحدث عن الخلاص… يستحق الحرق."
تأمل زيك وجه رين قليلًا، قبل أن يقول:
"ومع ذلك، نحن متشابهان. ألسنا كذلك؟ كِلانَا اختار أن يرى الصورة الكاملة… بينما الجميع لا زالوا يحلمون."
"أنا لا أحلم، أنا أستعد للنهاية." أجابه رين وهو يخطو للأمام.
عندها، تغيرت نظرة زيك.
"هل ظننت حقًا أني لم أتوقعك؟ لقد كنت تراقب… وأنا كذلك."
ارتفعت يد زيك ببطء، نظر إليها، ثم قال:
"لقد انتهى وقت الحديث."
"أخيرًا." تمتم رين، بينما كان يضيق عينيه بتركيز.
عض زيك يده، وسُمِع صوت تمزق اللحم. في اللحظة التالية، ضَربت صاعقة ذهبية السماء، انطلقت من الأعالي وهبطت في قلب السهل بصوت يشبه النهاية.
ثم توالت الصواعق، واحدة تلو الأخرى، تُضرب الأرض من حول زيك، عشرات منها، لم يكن الغرض منها التحول فحسب، بل الحصار.
الضوء الذهبي كان يحترق في كل اتجاه. من بين الدخان واللهيب، ظهر عمالقة عديدون، يشكلون دائرة عملاقة، حصن من اللحم والنيّة القاتلة، يمنع كل مَن في الداخل من الخروج… وكل من في الخارج من الدخول.
الجيش انقسم.
فوق الأسوار، صرخ الجنود بفزع. صواعق، ثم عمالقة. سقط أحدهم عن البرج من الرعب.
أما إروين، فكان ينظر إلى الأفق بهدوء متجمد، بينما قال:
"الخطة الثانية… بدأت."
أرمين نظر خلفه، حيث تراجع ليفاي، وأغمض عينيه لوهلة.
صوت رين في ذاكرته:
"حين تصل إلى شينغانشينا، ابحث داخل الجدار قرب البوابة… راينر لن يكون بعيدًا."
فتح عينيه بسرعة، ثم صرخ:
"القائد إروين! الجدار فوق البوابة! لا شيء هناك… وهذا هو الأمر الغريب!"
إروين لم يتردد لحظة، رفع يده، وأمر الجنود بصوت قاطع:
"ابحثوا فوق البوابة! فتشوا المنطقة كلها الآن!"
وما إن بدأوا بالتحرك، حتى دوّى صوت تحطّم مفاجئ… صخرة كبيرة تنزلق من أحد الأجزاء المتآكلة.
ومن خلفها… راينر.
خرج من الجدار بجسده المدرع، قبض على جندي ودمّره في لحظة واحدة.
لكنه لم يَكُن مستعدًا لما حدث بعد ذلك.
قفز ليفاي نحوه كقذيفة مسننة، غرس الشفرة في معدته، يداه تتحركان بسرعة البرق، ثم زرع رمحًا رعديًا في صدره.
"توقّعناك." قالها ليفاي، يقف فوق جسده المُنهار، وصوته أشبه بالسكين.
تراجع بضع خطوات، أخرج أداة التفجير، ورفعها أمام راينر:
"أنت في عداد الموتى، يمكنني تفجيرك متى أردت."
راينر، الذي بالكاد استطاع أن ينهض، نظر إلى وجه ليفاي… ورأى فيه شيئًا آخر.
نظرة رجل لم ينسَ كلمات شريكه البارد.
"إذا أصبته في موضع معين، يمكنك إيقاف تحوله."
لم يكن ليفاي بحاجة لتفاصيل أكثر. كان يكفيه أن يثق برين.
---
وسط السهل المرتفع، حيث احترق العشب وتحطّم الحجر، وقف رين وحده. أنفاسه هادئة، لكن العالم من حوله كان على وشك الانفجار.
أمام عينيه، وعلى بعد خطوات قليلة فقط، وقف زيك ييغر متحولًا إلى العملاق الوحش. طويل، مشعر، عيونه تلمع خلف الظلال، وصوته لا يُسمع، لكن حضوره وحده يُشعرك بالرهبة… وكأنه سيدُ هذا الجحيم.
لكن زيك لم يكن وحده.
في لحظة، ومع صاعقة تحوّله، انفجرت الأرض من حوله بسبع صواعق أخرى، وظهرت من كل منها كتل ضخمة من اللحم. سبعة عمالقة، طوال، نحيفون، ولكن سريعي الحركة. بدا وكأنهم صُمموا خصيصًا للصيد. أجسادهم مائلة للأمام، عيونهم مفتوحة على اتساعها، أنيابهم تلمع تحت ضوء الغروب، وعضلات أرجلهم ترتجف من الحماس.
واحد منهم كان يمتد أكثر من أربعة أمتار عن العمالقة العاديين، رقبته طويلة كالأفعى، ويداه ترتجفان باشتياق للتمزيق.
الثاني امتلك أطرافًا ممدودة كالخيزران، يمشي بسرعة لا تناسب حجمه، ووجهه مائل، كأنه ينصت لأمر ما.
الثالث كان صامتًا تمامًا، لكن كل خطوة منه تترك أثرًا غائرًا في الأرض، كأن وزنه أكبر مما يبدو.
الرابع لديه ابتسامة مشقوقة من الأذن للأذن، وذقنه مشوه، وكأنه ضاحك أبدي.
الخامس كان أشبه براقص مجنون، يتحرك باستمرار، ويغير مكانه كأنه يحاول أن يُربك فريسته.
السادس كان يزحف بسرعة، مستخدمًا يديه الطويلتين مثل الوحوش المفترسة، وعيناه تتقاطعان مع رين كل بضع ثوانٍ.
السابع بدا طبيعيًا للوهلة الأولى، لكن من ظهره خرجت كتل عضلية كالأجنحة، وصريره العالي كان أشبه بصوت طحن العظام.
هؤلاء يحاصرون رين وحده.
لكن المشهد لا ينتهي هنا.
خارج الدائرة القريبة، كان هناك المئات من العمالقة العاديين، منتشرون عبر التلال المحيطة بالسهل، يطوّقون الجيش من الجهات كلها. أجسادهم تتحرك في بطء مرعب، لكن عيونهم كلها تنظر إلى الجنود داخل الحصار… منتظرين الأمر.
زيك لم يتكلم، لكن الجميع كان يعلم أن مجرد إشارة منه… ستنقض تلك الوحوش كالعاصفة.
الجيش في خطر، السهول مقفلة، والخلاص مستحيل.
لكن وسط هذا الجحيم، وقف رين… ظهره منتصب، نظراته ثابتة، لا أثر للخوف في ملامحه.
تسللت همسة من بين شفتيه، هادئة، لكنها كالشرارة التي تسبق الحريق:
"آني."
ارتجفت أذن زيك.
ثم سمعها…
صفير يخترق الهواء.
من فوق التلال، من جهة المدينة، اندفعت ظل بشري بسرعة جنونية، يقطع الرياح، يتوهج شعره الأشقر تحت الشمس، ووجهه مليءٌ بالهدوء، كمن يعرف تمامًا ما يفعل.
آني ليونهارت.
كانت تطير كأنها سهم موجّه نحو قلب العاصفة.
نظر رين نحوها، لم يتفاجأ، فقط قال بصوت منخفض وهو يتراجع نصف خطوة:
"أهلاً بك."
زيك حاول أن يتحرك، أن يصرخ، لكن كل شيء كان أسرع منه.
مرت آني بجانب رين، عينها الزرقاء التقَت بعينه.
"الوداع، أيها القائد زيك."
ثم، وبدون تردد… عضّت يدها.
وفي أقل من لحظة، صاعقة ذهبية ضربت الأرض بجوار زيك، وتبعها ضوء أبيض أعمى كل من كان يراقب.
---
"حين ترتجف الأرض من وقع الأقدام، ويهتز الهواء من صرخة لم تُولد بعد…
حين تتشابك الإرادات، ويُستدعى شيطان النهايات من سباته الأبدي…
هناك، في ظلال جدار ماريا، لا عودة للخلف…
الدماء سُكبت، والخيانة تنفست، والحقيقة على وشك أن تُكسر…
ولأول مرة... سيتحرك الزمن بإرادة رين."
---
احترمو فن الكتابة والقصة المحبوكة ، تفاعلو