الفصل 34: بزوغ نيران الحرب
كان الهواء مشبعًا بشيء ثقيل لا يُرى، كأن الطبيعة بأكملها تحبس أنفاسها في انتظار الكارثة.
في لحظةٍ خاطفة، شقّت السماء صاعقة، نازلة كرمح من لهب، وسقطت على أرض السهل العشبي لتفجّر سحابة ترابية كثيفة حجبت الرؤية. ارتعدت الأرض تحت الأقدام، وتبعثر الغبار والحصى، بينما ارتفعت دوامة من الرياح المحمّلة بالتراب في عنان السماء.
من داخل الدخان، برزت ملامح عملاقٍ مألوف — عملاق الأنثى.
كل شيء تجمّد.
الجنود، العمالقة، حتى النسيم.
عيون زيك اتسعت، لم يكن هذا ضمن حساباته. خفَّ الضغط في قدمه خطوة واحدة. كانت كافية ليراه رين.
تراجع.
لم يكن تراجعًا عن ضعف، بل عن حيرة. زيك لم يكن يعلم أن أني ستقف ضده، لا في هذا الوقت، ولا بهذا الشكل.
رين كان على ركبتيه، يتنفس ببطء وسط السهل، الدم يسيل من حاجبه ويغطي نصف وجهه، لكنه لم يكن مهتمًا بجراحه. سبعة عمالقة يحيطون به الآن، يتحركون بحذر حوله، يدرسون خطواته كذئاب تطوق فريسة تعرف أنها قد تعض قبل أن تموت.
في الخلف، وقفت أني — عملاق الأنثى — حاميةً ظهره. لم تنظر إليه، بل كانت عيناها مثبتتين على زيك، دون أن تتحرك. جسدها لم يكن في وضع قتال شرس، بل وقفة فاصلة... أشبه بإعلان:
"إن اقتربت منه، سأمزقك."
لم تستطع أن تتكلم، لكنها لم تكن بحاجة للكلام. كانت أني دائمًا كذلك، تقول الكثير في الصمت.
رنّت دفعة غاز خلف رين، قفز قليلًا للخلف، ثم وقف بتوازنٍ شبه مكسور فوق صخرة مكسوة بالأعشاب. رفع ناظره ليراقب العمالقة السبع الذين يشبهون بعضهم في البنية، لكن كل منهم يتحرك بإيقاع مختلف. هذه ليست مجرد دمى. هم مدرَّبون. مدرَّبون على قتله.
ثم تحركوا.
انفجر السهل فجأة، خطواتهم تهز الأرض، وجوههم مشوّهة بحقد صامت، أفواههم مفتوحة كأنهم جائعون لرائحته وحده. أحدهم اندفع من اليمين، والثاني من الأمام، والبقية كوّنوا دائرة كأنهم يحاولون دفعه باتجاه فم مفتوح كبير.
رين لم يتراجع.
باندفاع خاطف، انطلق بين اثنين، شفرته تنغمس في عين أحدهم، انفجار دموي خلفه، لكنه لم يتوقف، أكمل دورانه في الهواء، وذراعه الأخرى تجرح كتف عملاق آخر.
لكنهم لا يسقطون بسهولة. واحدٌ منهم أمسك بساقه، كاد يسحبه لأسفل، لكن رين أطلق دفعة مضاعفة، وتحول لجسد خفيف يتمايل فوق الرياح، ثم هبط أرضًا في انحناءة مثقلة. أنفاسه متقطعة، صدره يرتفع وينخفض كأن الهواء ذاته لم يعد كافيًا.
في الخلف، عملاق الأنثى لم تتحرك إلا عندما حاول زيك التقدم.
اندفعت أني، قبضتها تندفع كصخرة نيزكية نحو وجه العملاق القرد. زيك تصدى لها بذراعه، لكن أني لم تكن تضرب فحسب، كانت تدفعه بعيدًا. ضربة بعد أخرى، وجهه يرتج، صدره ينضغط تحت ثقل قبضاتها.
كان القتال صامتًا، بلا صيحات ولا كلمات، فقط أصوات اللحم المضروب والعظام المتكسرة، بينما السهل يهتز.
---
على مسافة من ساحة القتال، حيث لا تصل زئير العظام إلا همسًا، كانت بيك فينجر في هيئة عملاق العربة تتخذ موقعًا منخفضًا خلف مرتفع عشبي. على ظهرها، تثبّتت براميل ضخمة برباطات معدنية متينة، إحداها تحمل أثقل ما في المهمة: بيرتولت.
في داخل البرميل، جلس بيرتولت منحنيًا، كتفاه ملتصقتان بجدار الخشب. كان الجو خانقًا، لا بسبب ضيق المكان فقط، بل لأن قلبه يضيق أكثر مع كل دقيقة تمر.
“أني تقاتل زيك...”
“لماذا؟ لماذا الآن؟ هل انقلبت علينا؟ هل عرفت شيئًا لم نعرفه؟”
جفف عرقه بكُم قميصه، لكن يده كانت ترتجف. سمع دويًا في الخارج، ثم اهتزازًا طفيفًا في البرميل، ربما ناجم عن خطوة عملاقٍ قريب. أو عن شيء أسوأ.
من فتحة صغيرة في البرميل، دخل ضوء خافت وصوت مألوف، ناعمٌ على خلاف خشونة الموقف.
"بيرتولت،" جاء صوت بيك فينجر، هادئًا كالعادة، "ما زلت على قيد الحياة هناك؟"
ردّ بصوت مبحوح:
"نعم... أسمع كل شيء."
توقف لحظة، ثم سألها:
"أنتِ... هل كنتِ تعرفين؟ عن أني؟"
"لا. لكنها لم تفعل شيئًا بعد يستحق الذعر."
"تقاتل زيك."
"تحمي رين، ربما. أو تجرّب قوة زيك. أو تفعل شيئًا لن نفهمه الآن... أني ليست كتابًا مفتوحًا يا بيرتولت، لا لك ولا لي."
سكت قليلًا، ثم تابعت بصوت خافت:
"ابقَ ساكنًا. عندما يحين دورك، ستكون الأرض من نار. استرح حتى ذلك الحين."
بيرتولت لم يرد. فقط أعاد رأسه إلى الجدار، مغلقًا عينيه بقوة.
“كل شيء ينفلت... راينر بعيد. أني تقاتل زيك. وأنا... محبوسٌ هنا، أنتظر أن أصبح وحشًا.”
---
في أحد أطراف السهل، تحت ظل جدار من الصخور، كان ليفاي ينظف سيفه من الدماء بقطعة قماش ممزقة. إلى جانبه، جلس أروين يراقب المشهد عبر منظار قديم، يركز على كل تحرك في الساحة.
"أنظر إلى تحركات العمالقة السبع،" قال أروين، "كأنهم يرسمون دائرة محكمة حول رين."
ليفاي أومأ، ثم قال:
"وزيك تركهم يتعاملون معه وحده. يختبره."
"وهذا يعني...؟"
"زيك لا يريد قتل رين مباشرة. يريد أن يرى الحد الأقصى لقوته."
في تلك اللحظة، جاء صوت أرمين عبر جهاز الاتصال، متوترًا لكنه حادًّا:
"القفص اكتمل. موقع زيك هو المركز. والعمالقة الباقين ينتظرون على حدود الساحة. أعتقد... أعتقد أن هناك موجة ثانية من العمالقة لم تُطلق بعد. أو ربما... خطة أخرى."
أروين لم يردّ، فقط ضغط على زر الاتصال، ثم نظر نحو السهل وقال بهدوء:
"الجنود مستعدون؟"
"كثير منهم خائفون، لكنهم واقفون."
"إذن لننتظر... لنرَ إن كانت الرياح ستهب من الشرق أم من داخل رين."
---
صوت أقدام الجنود كان يطغى على صوت أنفاسهم. في وسط الفوضى، وقف أروين بثبات فوق مرتفع صخري صغير، يراقب خريطة المعركة ترتسم أمامه في الواقع، لا على الورق. أمامه، كانت التشكيلات تتكشف؛ رين وأني يجابهون النواة، في حين تتزايد أعداد العمالقة حول الجيش كأمواج متلاحقة.
اقترب أرمين، وجهه متجهم والعرق يقطر من جبينه رغم الرياح الباردة.
قال بصوت مرتجف:
"أروين، هذا ليس هجومًا، هذا طوق. زيك يرسم الحدود حولنا بعمالقة بطيئين، ليمزق أي محاولة انسحاب. نحن في قلب المصيدة... والبوابة خلفنا، مغلقة فعليًا."
أروين لم يرمش حتى، فقط حدّق في الأفق.
"التحرك الآن ضرورة، لا خيار. إن بقينا سنُستنزف حتى آخر رجل."
رفع يده فجأة، وصاح بصوت يخرق الضجيج:
"قسّموا القوات إلى ثلاثة محاور!"
اندفع الجنود لتنفيذ الأوامر، صوته يتردد في أذهانهم كحبل نجاة.
"المحور الأول يبقي العدو مشغولًا عند البوابة، فليجعلوهم يظنون أننا نخطط للفرار من الخلف!"
"المحور الثاني... يتسلل من الجانب الأيسر، يفتح الطريق نحو العمق. من هناك، نضرب قلبهم."
ثم التفت إلى ليفاي، الذي كان واقفًا بهدوء لا يدل على الاستعداد، بل على الغليان.
"المحور الثالث بقيادتك يا ليفاي... مهمتكم: الوصول إلى زيك."
لم يجب ليفاي، فقط شد قفازيه، عينيه تنظران نحو دخان بعيد في الأفق.
---
في قلب السهل العشبي، وسط الهزات والصرير، وقف زيك داخل جسده العملاق، حاجباه مرفوعان قليلًا.
كان يراقب الوضع من الأعلى. من هناك، رأى كل شيء: تحرك الوحدات، تسلل ليفاي، وتقدم أني المفاجئ.
لكن ما أثار قلقه لم يكن ذلك.
بل كان رين.
“ذلك الفتى... لماذا لا يسقط؟ حتى بعد هجوم سبعة من نخبة العمالقة؟”
رأى آثار الدم على جسده. رأى كيف ينزف كتفه وساقه، وكيف أن نصلًا انكسر في يده اليسرى.
ومع ذلك، كان يقف.
“هل هو من نوع إيرين؟ أولئك الذين لا يعرفون معنى السقوط؟”
“أم... أنه شيء آخر؟ شيء أقدم، أعمق؟”
صرخة أني قطعت عليه أفكاره. اندفعت نحوه مجددًا، مخالبها تجرح صدره.
لكنه في عقله لم يكن يركّز عليها. كان ينظر إلى ذلك السيف في يد رين، المكسور في نصفه، كيف لا زال موجهًا للأمام، كيف كان يضيء للحظة قصيرة، كأن قلب الفتى يمر من خلاله.
“...هناك عنصر مفقود في هذه المعادلة. كان يجب أن ينهار... وكان يجب أن تكون أني معنا، لا ضدي.”
صرخ بصوت عالٍ:
"اقتلوه الآن!"، أمرٌ وُجه إلى السبعة السريعين.
لكن لا أحد منهم وصل بعد. لأن شيئًا جديدًا بدأ يتكوّن...
---
هدوء مفاجئ.
كأن الأرض، رغم صراخها وزئيرها، أخذت شهيقًا طويلًا.
ثم، في لحظة صامتة، بدأت الأرض تحت قدمي رين تهتز.
أني خلفه، ظهرها مجروح ويدها اليمنى تنزف بخيوط لحم مفتوح.
ورين، المنحني، يرفع رأسه ببطء.
فتح عينيه، وظهرت فيهما نظرة... كانت جديدة حتى على نفسه.
نظر أمامه إلى زيك، وإلى السبعة المحيطين به.
ثم إلى السماء، حيث دخان البارود يصعد كعقارب ساعة تقرع النهاية.
رفع سيفه المكسور، وقال بصوتٍ لم يُسمع، لكنه وصل إلى قلب من رآه:
"آن الأوان..."
من خلفه، رفعت أني قبضتها.
ومن فوق المرتفع، صاح أروين بصوته الذي كان صدى للتاريخ:
"ابدأوا الهجوم!"
وانطلقت صفارات القتال.
> "في الأرض التي ظنّوها هادئة... ارتجف الهواء، ومادت التربة.
في وجه الذين حسبوا النصر بديهيًا، وقفوا... بأجسادٍ مكسورة، وقلوبٍ لا تموت.
هنا، حيث يُكتب الفصل الأول من نهاية العصر... بدأ كل شيء."
---
نهاية الفصل الأول من ارك استعادة جدار ماريا
اتمنى ان تقدرو تعبي ومحاولتي لتغيير القليل في القصة لكي لا تملو