الفصل 44 – صحوة في الرماد
كان الضوء خافتًا... شاحبًا كذكرى قديمة تتلاشى في الضباب. تسللت خيوطه الباردة عبر زجاج نافذة متسخ، لتنثر وهجًا رماديًا فوق السقف المتصدّع. في تلك اللحظة، فتح رين عينيه. لم يكن متأكدًا إن كانت هذه صحوة أم مجرّد كابوس جديد، لكن الألم الذي اجتاح جسده أكد له أن الجحيم لم يعد حلماً... بل صار واقعًا.
رائحة الأدوية الكيميائية اخترقت رئتيه مثل سكاكين زجاجية. كل شهيق كان معركة، وكل زفير نداء استغاثة. حاول تحريك يده، لكنه شعر وكأن ضلوعه مربوطة بحبال من نار. الضمادات الكثيفة كانت تخنقه، تحاصره كما لو أنه دُفن حيًا في تابوت مشفى بارد.
همس، وصوته بالكاد خرج من فمه الجاف:
"مـ... مشفى؟"
صوت مألوف، ساخر كعادته، شق سكون الغرفة:
"أهلاً بك مجددًا في الجحيم."
استدار رين ببطء، والعرق يتصبب من جبينه رغم البرودة. كان ليفاي جالسًا على كرسي خشبي قديم، يتأرجح بصمت كما لو كان جزءًا من المشهد المرسوم خصيصًا لتعذيبه. يقلب سكينًا صغيرة بين أصابعه، عيناه الضيقتان تخترقان رين بلا رحمة، كما لو كان شبحًا تجرأ على العودة.
حاول رين الجلوس، فصعقه ألم في صدره كطعنة خنجر. أنين مكتوم تسرب من بين شفتيه وهو يعود مضطرًا إلى وسادته المهترئة.
"كـ... كم من الوقت...؟"
لم يجب ليفاي فورًا. بل أدار تفاحة بيده، ثم قطع منها شريحة ببطء، وكأنه يزن الزمن بالسكاكين.
"أربع سنوات."
توقف الزمن.
"ماذا؟!" قالها رين، وعيناه تتسعان كأن صاعقة مرت بهما. نبضه تسرّع، وقلبه رفض التصديق.
"أجل." قالها ليفاي ببرود، وهو يرفع قطعة التفاح نحو الضوء الشاحب. "نمت كالجميلة النائمة... لكن للأسف، لا قبلة ولا أمير. فقط موت مؤجل."
رمى الشريحة في فمه، ثم تابع بنبرة مريرة:
"حتى التفاح صار عملة نادرة. ربما علينا شن حرب عالمية للحصول على فطيرة."
أدار رين وجهه نحو النافذة. ضوء الشمس الخافت بالكاد اخترق الزجاج المتسخ. لم يستطع تذكر الكثير... آخر ما بقي في ذاكرته كان لهبًا أحمر، وعملاقًا بلا رحمة، وسقوطًا لا نهاية له. ثم... لا شيء. ظلام دامس. موت مؤقت.
"الآن..." قال ليفاي، ناظرًا إليه من تحت جفنيه، "العالم كله يرتجف منا."
"ماذا تقصد؟"
"نملك ثمانية من أصل تسعة عمالقة. مارلي تتوسل لأي قوة على وجه الأرض لتساعدها. تخشى أن نبتلعها قبل أن تُكمل صلاتها."
رين، رغم الألم، تمسّك ببصيص وعيه. "يعني... لم يهاجمونا بعد؟"
"الخوف... يشلهم." قالها ليفاي بنبرة قاتمة.
وفجأة، فُتح باب الغرفة بعنف. دخلت هانجي، ووجهها يشع بحماسة تشبه الجنون. كانت تحمل كومة أوراق متفحمة، وقد التصق رمادها بمعطفها الطويل.
"لكنهم يتجمّعون!" صاحت. "كالنمل حول قطعة سكر! كل يوم نسمع عن تحالف جديد، جيوش تتشكّل، ووعود عظيمة بـ'إنقاذ البشرية من وحوش باراديس'!"
رمت الأوراق على سرير رين، فتطاير بعضها، وهبطت صفحة سوداء على صدره الملفوف. نظرت إليه وقالت بنبرة درامية:
"لقد أصبحنا الكابوس الجماعي لهذا الكوكب!"
رنّت كلماتها في رأسه، وهو يحدق بيديه الملفوفتين. نزع جزءًا من الضماد، فظهر جلده... وردي باهت تتخلله خطوط سوداء دقيقة، كأن شجرة شيطانية تنمو تحته.
"إذن..." تمتم، "نحن الآن أبطال العالم... أو وحوشه."
اقترب ليفاي، وصوته انخفض حتى صار أشبه بهمسة:
"بالمناسبة... إيرين، أني، ويومير... يعملون كحراس في زنزانة سرية."
"زنزانة؟ لماذا؟"
"لأن الأغبياء من نبلاء باراديس قد يبيعونهم مقابل كلمات فارغة. ومارلي؟ تحلم بخطف أحدهم وكأنها ستربح يانصيب."
ابتسم ابتسامة مفترسة، وأضاف:
"زيك، بيك، بيرتولت، راينر... كلهم في قبضة أيدينا. حتى العملاق الهارب؟ عُثر عليه. الآن... نحن السجّانون."
ضحك رين، ضحكة جافة متشققة:
"يا للسخرية... كنا نطاردهم، والآن نحرسهم."
ساد صمت غريب. ثم لاحظ ليفاي التغيّر في وجه رين، النظرة الزجاجية التي غزت عينيه، ذلك التحديق في الفراغ وكأن روحه علقت بين ماضٍ لم يُغفر، ومستقبل يُرعبه.
وقف ليفاي، أعاد سكينه إلى جيبه، وتوجه إلى الباب. عند العتبة، توقف، ثم التفت بنظرة ثابتة:
"استرح. سنفكر في هذا الجنون لاحقًا."
فتح الباب، ثم قال أخيرًا:
"أهلاً بعودتك... أيها المجنون."
---
وصلت للنهاية؟ رهيب!
اكتب تعليق بسيط أو حتى "متابع معك" وخلني أعرف رأيك!
إذا وصلنا 10 تعليقات، أنزل فصل إضافي هدية لكم!
تفاعلكم هو وقودي!