الفصل 303
الهدوء الكئيب سيطر على قسم الألغاز، لم يعد أحد يتحدث، كل ما يُسمع كان أنينًا مكتومًا وبكاءً متقطعًا وصرخات متألمة لأرواح ممزقة.
فجأة، وسط هذه الأجواء الثقيلة، انشق الهواء بصوت خافت، ودوامة خفيفة من الضوء الأزرق التفت في إحدى زوايا القسم المظلمة.
بوووف !!
ظهر ألبوس دمبلدور فجأة من العدم، يقف منتصبًا بجسده الطويل، بردائه الأرجواني المطرز بنجوم صغيرة باهتة.
كانت عيناه تتأمل المكان بحذر، عصاه السحرية مشدودة في يده اليمنى، وقلبه يشعر بأن شيئًا مروعًا قد حدث بالفعل.
لكنه لم يحتج وقتًا طويلًا ليعرف.
فبمجرد أن تقدم خطوتين، سمع بكاءً... صوت نحيب يكاد يُمزق جدران القسم الصامت.
بدأ دمبلدور يركض، رغم عمره، رغم الإرهاق، لكنه أسرع نحو مصدر الصوت.
ركض كأن قلبه يُمسك بسلاسل تُجرّه نحو الكارثة.
وما إن اقترب، حتى رأى المشهد...
الجميع كان هناك.
هيرميون منحنية تبكي، وجهها مغطى بدموعها، هاري واقف في صمت قاتل، رون مطأطئ الرأس، ونظرة الذهول لا تزال مطبوعة على ملامحه.
وفي المركز... جسد آلبرت بلاك ممدد على الأرض، بلا حراك.
وفي جواره، سيريوس راكع على ركبتيه، يمسك بجسد ابنه وكأن لمسة واحدة قد تعيده للحياة.
وجهه مغطى بالدموع، ويداه ترتجفان بشدة.
توقف دمبلدور في مكانه، عاجزًا عن الحركة للحظة.
وكأن الحزن الذي حل على هذا المكان قد قيد خطواته.
" ما الذي...؟" قالها، لكن كلماته لم تكتمل.
اقترب منهم، وخطواته أصبحت أبطأ، أكثر ثقلًا.
انحنى قليلًا وركع بجانب سيريوس، وضع يده المرتجفة على جبين آلبرت البارد.
وفور لمسه، شعر بما لا يريد أن يشعر به.
كان الجسد بارداً... خالياً من الحياة.
أغمض دمبلدور عينيه لثوانٍ، ثم تنهد تنهيدة طويلة جدًا، لم تكن مجرد زفير حزن، بل كانت صرخة صامتة من داخله، اعتراف بأنه فشل.
همس بأسى:
"آه، آلبرت... لو أنني فقط أنهيت الأمر مبكرًا... لو لم أتركك تأتي إلى هنا..."
ثم التفت نحو سيريوس، وصوته أكثر هدوءًا لكنه حاسم:
"علينا العودة إلى هوجورتس، يا سيريوس... لا يمكننا البقاء هنا."
لم يرد سيريوس، فقط نظر إليه بعينين دامعتين، ثم نظر مجددًا إلى وجه آلبرت، وكأن فكرة الابتعاد عنه مرة أخرى تشق صدره.
لكن دمبلدور وضع يده بلطف على كتفه، فهز سيريوس رأسه، وأخذ نفسًا عميقًا كأنما يحاول انتزاع روحه، ثم حمل جسد ابنه بين ذراعيه بحذر وكأن لمسة واحدة قد تؤذيه أكثر.
وقفت هيرميون خلفه، تمسك بطرف عباءته وتبكي بهدوء.
تحرك الجميع خارج القسم، بأرجل ثقيلة، قلوب مثقلة، أرواح تجرها الخيبة والصدمة.
لكن حينها... وبينما كانت هيرميون تسير خلف سيريوس مباشرة، مدّت يدها لتلمس مجددًا يد آلبرت الباردة.
أرادت أن تودّعه للمرة الأخيرة... أن تشعر به قبل أن تفقده للأبد.
وفجأة...
وووووووشش !!
دائرة من الضوء الأبيض الغامض اتسعت حولها فجأة، وابتلعت كلًا من هيرميون، سيريوس، وجسد آلبرت في لحظة واحدة.
واختفوا... أمام أعين الجميع.
صرخ هاري:
" سيريوس !!!"
لكنهم كانوا قد اختفوا بالفعل.
---
في لحظة أخرى، في مكان مختلف تمامًا...
في وسط الفناء العظيم لهوجورتس، حيث كان الهدوء يعم، انفتحت دوامة سحرية في الهواء، وخرج منها سيريوس بلاك، ممسكًا بجسد آلبرت، وخلفه هيرميون التي سقطت على ركبتيها من شدة الصدمة.
دمبلدور تبعهم فورًا من قسم الألغاز، وظهر هو الآخر في الفناء.
وبنظرة واحدة، عرف أن ما حصل في تلك اللحظة... ليس من صنع أحد، بل من قوة غامضة، تفوق أي فهم.
وجد سيريوس نفسه واقفًا في وسط الفناء العظيم لمدرسة هوجورتس، يحمل بين ذراعيه جسد ابنه المسجى. بجانبه، ظهرت هيرميون على ركبتيها، تلهث من فرط المفاجأة والانتقال المفاجئ.
كانت الدموع لا تزال تنساب على خديها، لكنها لم تعد تعرف إن كانت تبكي حزنًا أم ذهولًا.
نظرت حولها وهي تتنفس بسرعة، ثم التفتت نحو سيريوس وسألت، وصوتها يرتجف كأنها لا تصدق ما حدث:
"سيريوس... هل أنت من فعل هذا؟ هل نقلتنا؟!"
كان صوتها خافتًا، لكنه مليء بالتوتر.
نظر إليها سيريوس، وعيناه تائهتان بين ملامحها ووجه آلبرت. قال بصوت مبحوح:
"لا... لم أكن أنا..."
ثم تابع، وكأنه لا يصدق نفسه:
"أنا حتى لم أُمسك عصاي."
سكت كلاهما، وعادت أنظارهما إلى آلبرت، الذي لا يزال جسده ساكنًا، وملامحه هادئة كأنما في نوم عميق.
حينها… تقدم دمبلدور الذي كان خلفهما، بخطوات واثقة وسريعة، ووجهه مليء بتركيز مقلق.
اقترب منهم، وعيناه مثبتتان على آلبرت، ثم انحنى فجأة، ووضع يده على جبينه مرة أخرى.
في تلك اللحظة، قال كلمات لم يتوقع أحد أن يسمعها:
"ربما... آلبرت لم يمت بعد."
جاءت الجملة كصاعقة.
رفعت هيرميون رأسها فجأة، وحدقت فيه وعيناها تتسعان من الدهشة.
صرخ سيريوس:
"ماذا قلت؟!"
ردد دمبلدور بهدوء، لكن هذه المرة كان صوته أكثر ثباتًا:
"قلت… ربما لم يمت بعد."
انحنى أكثر، ثم التفت نحو سيريوس وقال:
"قلت إنك لم تكن من نقلهم، أليس كذلك؟"
أومأ سيريوس برأسه، وهو لا يزال في حالة صدمة، غير قادر على النطق.
ثم التفت دمبلدور نحو هيرميون، وسألها:
"وأنتِ، هل أتقنتِ النقل الآني؟"
أجابت وهي تمسح دموعها المرتبكة:
"لا... لم أتعلمه بعد... لا يمكنني فعل ذلك أصلًا."
ابتسم دمبلدور ابتسامة صغيرة، لكنها كانت محملة بالأمل، وقال:
"إذن لم يكن أي منكما... بل هو... آلبرت."
ساد الصمت للحظة، كان وقع كلماته كأنه أمل جديد يُلقى في بحر يأس مظلم.
تابع دمبلدور، بنبرة فيها إعجاب خفي وإحساس بالدهشة:
"إنه في غيبوبة... جسده بلا شك تأذى... لكنه ما يزال يقاتل. إرادته لا تزال متقدة.
الانتقال الآني لم يكن صدفة، كان غريزيًا... حماية لكم من الخطر. من فولدمورت.
حتى وهو بين الحياة والموت... لم يتخلَّ عن من يحب."
ساد الصمت للحظة أخرى، ثم قال سيريوس، وهو ينظر إلى وجه ابنه:
"هذا هو آلبرت... دائمًا يتصرف أولًا لحماية من يحب... حتى لو كان الثمن حياته."
دموع جديدة سقطت على وجنة آلبرت من عيني سيريوس، بينما وضعت هيرميون يدها على كتفه بلطف، وهمست:
"أرجوك... لا تمت... عد إلينا، آلبرت... أرجوك."
وفي لحظة مفاجئة، انفتحت دوامات أخرى من الضوء حولهم في أنحاء الفناء.
بوووف !!
بووووف !!
واحدًا تلو الآخر، بدأ الجميع بالظهور.
كانوا نفس من كانوا في قسم الألغاز…
هاري، نيفيل، تونكس، لوبين، مودي، كينجسلي، رون، جيني، ولونا.
وجوههم جميعًا عابسة، محملة بالدهشة والقلق في آنٍ واحد.
ركض هاري نحو آلبرت، وانحنى بجانبه:
ـ "ماذا حدث؟ كيف... كيف وصل إلى هنا؟!"
أجاب دمبلدور دون أن يلتفت:
"لقد نقلهم بنفسه، عبر النقل الآني. هو من أنقذهم."
قال كينجسلي بدهشة:
ـ "مستحيل... هذا سحر على مستوى لا يُصدق. فتلك تلدائرة البيضاء من الصعب اتقانها حتى شخص مثلي "
اقتربت جيني من هيرميون، واحتضنتها وهي تبكي، بينما وقف رون بجانب سيريوس، يضع يده على كتفه مواسيًا.
جلس دمبلدور على ركبتيه، ثم أخرج زجاجة صغيرة من جيب عباءته. كانت تحتوي على سائل فضي يلمع.
همس لنفسه:
"سأحتاج إلى مساعدته... سيفروس..."
ثم التفت إلى الجميع وقال بصوت عالٍ:
"خذوه إلى الجناح الطبي في الحال. سنفعل ما بوسعنا."
حمل سيريوس جسد ابنه مجددًا، لكن هذه المرة، في قلبه بصيص أمل…
.
.
.
في تلك اللحظة، بينما كان الجميع يمشي نحو الجناح الطبي ... كان آلبرت لا يسمع حرفيا اي شيء داخل فضاء مميت حيث لا صوت ولا لون سوى البياض الممتد بلا نهاية…
شعر آلبرت بلمسة دافئة فوق كتفه، لم تكن لمسة غريبة أو مخيفة… بل كانت مألوفة بطريقة مؤلمة.
استدار بسرعة، وعيناه تتسعان بدهشة لا تُوصف.
قال بذهول، وصوته يختلط بارتعاش قلبه:
"أ-أمي؟!"
كانت تقف أمامه سيدة في ريعان شبابها، بشعر أسود كالحرير يتمايل مع نسيم غير موجود، ترتدي ملبسًا أبيض ناصعًا كأن النور نفسه نُسج منه، ووجهها مشرق بابتسامة تغمر كل من يراها بالطمأنينة.
وجنتاها كانتا لامعتين، يتلألأن وكأن الضوء ينبع من داخلهما، وابتسامتها، التي كشفت عن أسنان ناصعة، بدت وكأنها حكاية حب مكتوبة على ملامحها.
لم ينتظر آلبرت لحظة…
انقض نحوها وعانقها بقوة، كأن خوفه من فقدانها مرة أخرى دفعه ليُغرق وجهه في كتفها، وهو يهمس بصوت يملأه الحنين:
"أمي… أمي…"
عانقته هي الأخرى بحنان أمٍ لم تنسَ لحظةً من عمره، وبدأت تداعب شعره برقة، بينما قالت بصوت دافئ يحمل موسيقى الحنين:
"لا تحزن يا بني… كيف حالك؟ وكيف حال والدك؟"
رفع رأسه ببطء، ومسح دموعه التي تجمّعت فوق وجنتيه، ثم قال بابتسامة ممزوجة بالألم والرضا:
"أبي بخير… وأنا أيضًا… رغم أنني ميت… سأأتي إليكِ في النهاية…"
لكنها لم ترد عليه بالكلمات المعتادة… بل وضعت يدها بلطف على كتفه مرة أخرى، ونظرت في عينيه بعزم قاطع وقالت:
"لا تقل هذه الكلمات… أنت لن تذهب إلى أي مكان، يا آلبرت… أنت مقدر لك أن تعيش أكثر من هذا."
تفاجأ من حديثها، لكنه قبل أن يسألها عن المقصود، لاحظ أن نظراتها انتقلت إلى اليسار، نحو نقطة في الفضاء الأبيض.
التفت آلبرت معها، ليرى طاولة طويلة، بيضاء ككل شيء حوله، وتحتها… كان هناك شيء يتحرك…
يتبع ....