أين أنا…؟"
ذلك السؤال تمتمت به شفتي وأنا أفتح عيني ببطء. كان آخر ما أتذكره هو جسدي البارد الملقى على أرضية زقاق مظلم، معصمي النازف من أثر السكين، ورائحة الدم التي ملأت أنفي. لقد انتحرت… كنت متأكدة أنني انتحرت. كان ذلك هو مخرجي الأخير من حياة العصابة، من المطاردة المستمرة، من الخوف الذي صار جزءًا من أنفاسي.
لكن لماذا… لماذا أفتح عيني الآن؟
الغرفة التي وجدتها حولي لم تكن مألوفة. كانت أنيقة، جدرانها مطلية بلون عاجي ناعم، والسقف مرسوم عليه نقوش ذهبية متشابكة. على يساري نافذة واسعة تتدلى منها ستائر مخملية، وعلى يميني خزانة طويلة بسطح لامع يشبه الزجاج.
اقتربت بخطوات مترددة، وضعت يدي على سطح الطاولة البارد… "مبرد؟! هذا يبدو وكأنه أثاث فاخر، سعره لا يمكن أن يكون بسيطًا أبداً…"
لكن المفاجأة لم تكن الأثاث. المفاجأة كانت حين انعكس وجهي على سطح المرآة الكبيرة بجانب الخزانة. توقفت أنفاسي.
الشعر الكستنائي الحريري يتدلى على كتفي. عينان واسعتان بلون أرجواني براق تحدقان بي بدهشة. بشرة شاحبة ناعمة، جسد نحيل رقيق يكاد يذوب وسط الفستان الفخم الذي يغطيه.
هذا… هذا ليس وجهي.
"سيدتي يونا، لقد حان وقت الدراسة."
تجمدت في مكاني عند سماع ذلك الصوت. باب الغرفة فتح بهدوء، لتدخل خادمة ترتدي زيًا أبيض وأسود، منحنية بخضوع. كلماتها طعنتني كالسهم.
"يونا…؟" همست لنفسي، وعقلي يغلي.
الذكريات اندفعت فجأة كأنها سيل جارف. صفحات الرواية التي كنت أقرأها قبل موتي، "الفَتاة المحبوبة"، تلك القصة الكورية التي تتحدث عن البطلة المثالية التي يحبها خمسة رجال، كلهم وسيمون، كلهم أقوياء. البطلة التي تُنقذ، وتُحمى، وتُعانق.
أما الشريرة… الشريرة لم يكن لها نصيب سوى الكراهية. يونا كيم. الأخت الكبرى للبطلة. المغرورة، المتعجرفة، التي ينتهي بها المطاف مذلولة… مقتولة على يد أحد عشاق البطلة.
قلبي بدأ يخفق بجنون. "لا… لا يمكن… لا يمكن أن أكون أنا… يونا؟"
أمسكت رأسي بكلتا يديّ. تذكرت نهاية يونا جيدًا، كيف تحولت إلى أداة سخرية ثم ضحية، وكيف لم يكن لها مفر من الموت.
"سأموت… سواء في جسدي السابق على يد العصابة… أو في هذا الجسد على يد هؤلاء الرجال… هل قدري هو الموت فقط؟!"
الخادمة وقفت بانتظار ردي، دون أن ترفع رأسها. "سيدتي…؟"
حسنن لن اشتت نفسي الآن يجب أن أذهب لي المدرسه.
حينما غادرت الغرفة بعد أن أنهت الخادمة مساعدتي على ارتداء الزي الرسمي، نظرت إلي نظرة سريعة وكأنها تريد أن تقول شيئًا لكنها ابتلعت كلماتها. تجاهلتها، وأخذت حقيبة المدرسة.
كان الشعور غريبًا…
أنا، التي كنت أهرب من زوايا الشوارع المظلمة، وأحمل سكينًا صغيرة في جيبي تحسبًا لهجوم من أفراد العصابة… الآن أخرج من قصر ضخم، محاطة بخدم وحُرّاس، كأنني شخص مختلف تمامًا.
خطواتي على الرخام اللامع كانت غريبة على أذني. هل هذه هي حياتي الجديدة؟
أردت أن أضحك. من كان يتوقع أن أعيش يومًا ما حياة "طبيعية"… أذهب إلى المدرسة مثل باقي الفتيات.
وضعت يدي على صدري وهمست بخفوت:
"أنا ممتنّة لهذه الفرصة… حتى لو كان قدري الموت، على الأقل سأجرّب طعم الحياة الطبيعية مرة واحدة."
وصلت السيارة الفاخرة التي أقلّتني إلى المدرسة. ما إن نزلت حتى التفتت أعين الطلاب إليّ. بعضهم ضحك، آخرون تبادلوا همسات. كانت النظرات حادّة… سخرية واضحة.
آه… صحيح. في الرواية الأصلية، يونا مكروهة حتى من زملائها. كل ما يرونه فيها هو الغرور والأنانية.
لكنني لست يونا الحقيقية.
تنفست بعمق، رفعت ذقني عاليًا، وسرت بين الصفوف بثبات، متجاهلة همساتهم كأنها لا تعنيني.
وفجأة… توقفت قدماي.
كانت هناك، تقف وسط ساحة المدرسة.
فتاة بشعر وردي طويل يتلألأ تحت أشعة الشمس. عيناها بلون أحمر كرزي، فيهما دفء يجذب الجميع حولها. ضحكتها كانت مثل لحن موسيقي، والطلاب… كلهم يلتفون حولها. فتيان وفتيات، كلهم كانوا ينظرون إليها وكأنها نجم في سماء مظلمة.
أرين.
البطلة الأصلية للرواية.
شعرت بشيء يضغط على صدري. ليس غيرة، بل إدراك مرّ لحقيقة أعرفها مسبقًا:
كل هؤلاء… سيكرهونني أنا. سيحبونها هي.
وهذا لم يكن بسبب أرين نفسها فقط، بل بسبب "يونا" التي كنت قد أصبحتُها.
في الرواية الأصلية… سبب الكراهية بين يونا وأرين كان بسيطًا لكنه مميت.
الاب أحب أرين. يونا أصبحت تغار، تحقد، وتستعمل كل الوسائل لتدمير أرين. التي احبها والدهما… حتى الأخوان… كانوا يكرهون يونا لأنهم اعتبروها سبب موت أمهم.
أغمضت عيني لثانية. إذن… هذا هو العبء الذي أحمله. أنا لست فقط الشريرة التي تموت، بل أنا أيضًا الفتاة التي اتُهمت بقتل أمها.
ابتسمت بسخرية.
"حقًا… لماذا آباء الروايات وقِحون لهذه الدرجة؟ كيف يمكن أن يرموا طفلة بالذنب لمجرد أن أمها كانت ضعيفة؟"
همست بالكلمات، لكن ضحك داخلي لم يكن خاليًا من الألم.
عندما فتحت عيني، كان المشهد أمامي أوضح. أرين وسط دائرة من الأصدقاء، ضحكتها تنير المكان… بينما أنا أقف وحيدة، محاطة بنظرات الشفقة والعداء.
حسنًا… يبدو أن القصة بدأت.
دخلت الصف.
الأصوات توقفت للحظة، وكأن الهواء نفسه توقف عن الحركة. جميع العيون التفتت نحوي. بعضهم همس، آخرون نظروا باستهزاء، لكنني تجاهلتهم وجلست في مقعدي.
كان ذلك هو أول اختبار حقيقي… كيف أتعامل مع حياتي الجديدة كـ"يونا".
لكن قبل أن ألتقط أنفاسي، حدث ما لم أتوقعه.
فتح باب الصف بعنف، ودخل شاب طويل القامة، شعره أسود فاحم، وعيونه بلون أزرق جليدي يكاد يخترق من يراه. خطواته كانت ثابتة، لكن جسده مشدود كمن يستعد للهجوم.
وقف لحظة عند الباب، وجال بنظره على الصف كله… ثم ثبّت عينيه عليّ.
في لحظة واحدة، ساد الصمت.
ثم… انقضّ نحوي.
أمسكني من ياقة قميصي بقوة، شدّني من مقعدي، صوته يزمجر كوحش محاصر:
"أيتها الحقيرة! هل تظنين أننا نسينا؟! أنتِ من أحضر القتلة الذين حاولوا اغتيال أرين! ألا زلتِ تتجرئين على الظهور أمامنا؟!"
الصف كله شهق بصوت واحد.
همسات بدأت تتصاعد:
– "إنه إيريك…"
– "لقد فقد عقله…"
– "كيف يمسك بيونا أمام الجميع؟"
نظرت إليه ببرود. لو كانت "يونا" الأصلية هنا لارتجفت، لبكت، لتوسلت.
لكنني لست يونا.
أنا كنتُ جزءًا من عصابة، عشتُ في عالم لا يرحم، ورأيت الموت عشرات المرات. هذا المشهد… مجرد لعبة أطفال أمام ما مررت به.
بهدوء، مددت يدي إلى المكتب أمامي. كان هناك قلم معدني صغير، قبضت عليه، وبدون أي تردد وضعته بجانب عنق إيريك.
ابتسمت ابتسامة باردة، وقلت بصوت منخفض لكنه مسموع للجميع:
"ماذا تعتقد نفسك لتدخل الصف وتمسك بي بهذه الطريقة؟"
عينيه اتسعتا قليلًا، لكنه لم يتراجع. الصف كله بدأ يهمس بصدمة. بعضهم ابتعد، بعضهم نظر إليّ وكأنني وحش.
صوت فتاة من الخلف ارتفع مرتجفًا:
"آه… م-ماذا… إنها تضع قلمًا على عنق إيريك…! يا إلهي، إنها متوحشة!"
إيريك ضحك بخفوت، رغم أن عرقه بدأ يتصبب من جبينه:
"هل أنتِ جادّة يا يونا؟ هل تريدين الموت بالفعل؟"
لم أجب. بدلًا من ذلك… دفعت القلم قليلًا، بقسوة باردة. قطرة دم سالت من عنقه، خط أحمر رفيع امتد على بشرته البيضاء.
الصف كله ارتجف، أصوات ذعر ترددت هنا وهناك.
"لقد نزف…! يونا جرحت إيريك!"
"هل فقدت عقلها؟!"
"إنها حقًا وحش…"
وقفت طالبة من مكانها، وضعت يدها على فمها وهي تحدّق بي بصدمة:
"كيف يمكنها فعل ذلك… مع إيريك؟! إنه… إنه إيريك!!"
إيريك… الاسم تردّد في عقلي.
أجل، تذكرت الآن. في الرواية الأصلية… إيريك كان أحد الرجال الخمسة الذين أحبوا أرين بجنون. ابن صاحب سلسلة الفنادق العالمية، وريث نفوذ وثروة هائلة. كان دائمًا يتصرّف كالمدافع عن أرين، كظلها الذي لا يبتعد.
لكن أمام قوة عائلة يونا وارين… لم يكن يساوي شيئًا.
أجل، صحيح أن والده يملك فنادق فخمة، لكن مكانة عائلة يونا وأرين الاجتماعية أعلى بمراحل.
داخل المعلم وقال.
ماذا يحدث هنا؟
ابتسمت وأنا ما زلت أضغط بالقلم:
"لا تعبث معي مجددًا… إيريك. وإلا فقد لا يكون قلمًا في المرة القادمة."
همست الكلمات في أذنه، ثم سحبت القلم فجأة، وألقيته على الطاولة.
خطوة واحدة للخلف، وجلست بهدوء على مقعدي، كأن شيئًا لم يحدث.
إيريك رفع يده إلى عنقه، نظر إلى الدم الملطخ بأصابعه، وعيناه اشتعلتا كالنار.
"أيتها اللعينة…" صوته كان غليظًا، مشبعًا بالغضب.
"سوف تموتين في المرة القادمة. أقسم أنني سأجعل نهايتك بشعه."
الصف كله شهق من تهديده. البعض نظر إلي بخوف، البعض الآخر باحتقار.
أما أنا… فقد ابتسمت.