كنت جالسة في الصف، والصف بأكمله يسير تحت مراقبة المعلم الذي كان يشرح بجدية، لكنني لم أكن أسمع شيئًا مما يقوله. كل تفكيري كان مشتتًا.
ماذا سأفعل في هذا العالم الجديد؟
هذا العالم لم يكن ملكي، لم يكن عالمي. لم أأتِ لأخذ شيء من أرين، ولا من أي شخص آخر. كل ما أريده هو أن أعيش… وأن أحمي نفسي من كل من يحاول إيذائي.
الوحدة… شعرت بها بقوة في هذه اللحظة. شعور غريب ومريح في الوقت نفسه. شعور لا يمكن للمغفلين الذين يمشون حولي فهمه. لم يكن العالم لأحد سوى لي، على الأقل شعرت بذلك داخليًا.
مع نهاية الحصة الأخيرة، وبدأ الطلاب في التحرك للخروج من الصف، لاحظت حركة غريبة بين الفتيات في الصف المجاور. أصوات صراخهم لم تكن خائفة، بل أشبه بالانبهار، بالدهشة من شيء لم يفهموه تمامًا.
ثم رأيت فتاة.
ممسكة بالقلم الذي كنت هاجمة بيه ايريك. عينيها اللامعتين تتوهجان بطريقة تكاد تخطف القلب.
صوتها ارتفع وسط الصخب:
"انظروا إلى هذا القلم العظيم! إنه منقوع بدم الأمير الوسيم… إيريك العظيم!"
الفتيات حولها تشبّثن بالقلم، يحاولن سحبه منها بقوة، بعضهن تلمس القلم، بعضهن تحاول لمسه فقط، وكأنهم يحاولون امتلاك جزء من "السلطة" التي يعكسها هذا الدم على القلم.
جلست أراقب المشهد ببرود.
مجانين… ماذا هذا الهوس؟
هذه الفتيات يصرخن كأن القلم قطعة سحرية، وكأن دم إيريك يمنحهن حياة أو سلطة غير مرئية.
كانت الفتات ممسكه بي القلم مبتسمة، بينما كانت الفتيات يصرخن من حولها:
"أريد أن أحتفظ به!"
"أريد أن أشمه!"
"أريد أن ألمسه فقط!"
ابتسمت بسخرية داخلية. هؤلاء جميعهم يعيشون في عالمهم الصغير، المهووس بأشياء لا معنى لها. أما أنا… لدي أهداف أكبر، وأسرار أعمق.
رفعت رأسي إلى النافذة، أطلعت على السماء البرتقاليا، وأغمضت عيني للحظة.
الغروب بدأ يرسم ألوانه على السماء، صبغها بظلال برتقالية ووردية، بينما الطلاب كانوا يتدفقون خارج المدرسة في ازدحام شديد. أصواتهم، ضحكاتهم، همساتهم، كل شيء كان يصنع موجة من الحياة التي لم أشعر بها من قبل.
وقفت على أطراف الطريق، أراقبهم وهم يرحلون، وحسرتي كانت تزداد. شعرت بالوحدة، بالانعزال، وكأن هذا العالم لا يرحب بي إلا لمجرد أن أكون نسخة من يونا الشريرة.
ثم رأيت أرين.
كانت تمشي بجانب إيريك، الذي كان يبتسم لها بطريقة تبدو مألوفة. نظرت إليه، قلبت عيني إلى الداخل، وفجأة شعرت بالازدراء تجاهه: مجرد حثالة. بغض النظر عن مكانته أو قوته، بالنسبة لي كان مجرد شاب من عائلة غنية، يفتقر إلى الشجاعة الحقيقية.
فجأة، لفت انتباهي صوت محرك سيارة فخمة.
وقفت سيارة سوداء فخمة أمام أرين مباشرة. الباب انفتح، وخرج منه شاب وسيم المظهر، طويل القامة، يرتدي بدلة سوداء أنيقة، كل حركة له كانت مثالية، كأنها مشهد من فيلم.
اندهشت، شعرت بالإعجاب، لم أستطع كبح دهشتي للحظة.
أرين لم تتأخر، قفزت نحوه دون تردد:
"داميان!"
داميان… الأخ الأكبر للعائلة، الوريث الحقيقي للثروة والنفوذ، كان يقف أمامها، نظراته حادة، هدوءه مرعب.
"اركبي في السيارة." قالها بصوت هادئ لكنه صارم، ثم التفت إلى إيريك بعيون حاد:
"اركب."
ثم لاحظ وجودي.
توقف عن الابتسام للحظة، نظر إليّ ببرود، وقال:
"يونا لا يوجد مكان لتجلسي فيه."
"خذِ السيارة، إجرِ الأمور كما تريدين."
وبدون كلمة أخرى، ركب السيارة، وانطلق محركها، تاركًا خلفه رائحة الوقود والفخامة، بينما الكل كان ينظر إليّ بازدراء.
وقفت وحدي، الهواء البارد يلامس وجهي، أراقب الجميع يرحلون. لم يكن هناك أحد إلى جانبي، لا سيارة، لا حماية، لا مساعدة… لا شيء سوى ظلال الغروب الطويلة التي تلتف حولي.
هنا أدركت الحقيقة: لا أعرف طريق العودة.
المدرسة كبيرة، الشوارع ملتوية، كل شيء جديد بالنسبة لي. شعرت بالقلق لأول مرة منذ أن استيقظت في هذا العالم.
ماذا سأفعل؟ همست لنفسي.
لقد حاولت أن أعيش كـ"يونا"، لكن الآن، حتى البقاء على قيد الحياة أصبح تحديًا.
وقفت للحظة، أنظر حولي، أحاول حفظ كل زاوية، كل شارع، كل إشارة قد تساعدني على العودة إلى المنزل… أو على الأقل إلى مكان آمن.
أشعة الشمس كانت تتلاشى، والظلال بدأت تزداد طولًا، وكأنها تحاول ابتلاع كل شيء. شعرت بالبرد يتسلل إلى عظامي، والوحشة تلتف حول قلبي.
بدأت أسير بين شوارع المدينة، أقدامي تتمايل بين الأرصفة واللافتات، أعين الناس تمر عليّ مرور الكرام، أراقب كل شيء وكأنني أتعرف على عالم جديد بالكامل.
المدينة كانت جميلة، أكثر مما توقعت. المباني الفخمة تعكس ألوان الغروب، الأضواء تلمع على النوافذ، رائحة الطعام تطوف في الأرجاء، والهواء يحمل لمسة باردة لطيفة، جعلتني أتوقف لثانية وأتنفس بعمق.
وفجأة، لفت انتباهي سيارة اجراء تتوقف على جانب الطريق. بدون تفكير، ركبت السيارة.
داخل السيارة، وجدت شابًا وسيم المظهر، طويل القامة، يرتدي بدلة سوداء، عيناه تلمعان ببرود وهدوء. التفت إليّ وسألني بصوت هادئ لكنه جاد:
"هل تريدين الذهاب إلى مكان ما، سيدتي؟"
ترددت للحظة. ماذا أقول؟ كيف أشرح أنني لا أعرف حتى أين أنا، أو كيف أعود؟
قلت له بكل برود:
"لا أعلم الطريق."
ابتسم ابتسامة خفيفة، لكنها لم تصل إلى عينيه، وقال:
"أوه… يبدو أنك ضائعة."
هل اتصل بي شرطه؟
ماذا هاذ سايسبب المتاعب فقط لالا تتصل بي شرطه.
صمتت للحظة، ثم قلت بصوت منخفض:
"حسنًا."
بدأ الشاب بتحريك السيارة ببطء، ودورانها بين الشوارع، بينما الغروب أصبح أعمق، والظلال أطول، وأضواء المصابيح تتلألأ في المدينة. كل شيء حولي أصبح أكثر وضوحًا… كل حجر، كل نافذة، كل صوت سيارة أو ضحك بعيد.
شعرت بشيء لم أشعر به منذ زمن طويل. شعور غريب بالحرية، بالهدوء، وكأنني أملك المدينة بأكملها، حتى لو كانت لحظات قصيرة.
"أتمنى لو كانت حياتي دائمًا هكذا…" همست لنفسي بصوت خافت.
أثناء التجول، رأيت إحدى الحانات على زاوية الشارع. الضوء الدافئ الذي يخرج منها، أصوات الموسيقى الخافتة، والضحكات القادمة من الداخل، جعلت فضولي يزداد.
أردت أن أقف هناك، أن أشاهد، أن أتنفس أجواءً مختلفة عن فخامة المدرسة، عن صخب الطلاب… أجواء حقيقية، حرة، مألوفة بطريقة غريبة.
السيارة توقفت بجانب الرصيف. الشاب أدار رأسه إليّ وسأل:
"هل تريدين النزول هناك؟"
نظرت إلى الداخل، إلى الناس، إلى الحياة التي تجري بحرية، شعرت بالانبهار… وبتردد صغير في الوقت نفسه.
"يبدو أنك قاصرة… كيف ستدخلين إلى هنا؟"
أيقنت من كلامه وهدوءه أن الثقة به ضرورية، اقتنعت وأومأت برأسي، ثم نزلت من السيارة، ودخلنا أخيرًا إلى الحانة معًا.
جلسنا عند طاولة دائرية، بينما الجو حولنا مليء بصخب الزبائن، ضحكاتهم، همساتهم، وصوت موسيقى خافتة يملأ المكان. اقترب النادل، وأخبرته:
"أريد زجاجتين من الكحول… واحدة لي، وواحدة لك."
ضحك الشاب بصوت مرتفع، وقال:
"هاهاهاها… حقًا أنت مختلفة عن باقي الفتيات. لم أرَ فتاة تطلب شيئًا كهذا من قبل."
وضعت يدي على الزجاجة، رفعتها، وبدأت أشرب. شعرت بسائل النار يملأ حلقي، حرارة تنتشر في جسدي، والدوار يبدأ بالتسلل تدريجيًا، يجعل كل شيء حولي يبدو أبطأ وأكثر وضوحًا في الوقت نفسه.
ابتسم الشاب مجددًا، وسألني:
"هل تستطيعين التحمل؟"
أجبت بثقة، رغم تزايد الدوخة:
"بالتأكيد."
شربت الزجاجة الثانية.
الدوار أصبح أكثر وضوحًا، والأصوات في الحانة تتردد بشكل متماوج في أذني، والضوء من المصابيح يتحرك وكأن كل شيء حولي يختلط، لكن شعورًا غريبًا بالحرية بدأ ينتشر داخلي، شعور لم أشعر به منذ زمن طويل.
وفجأة، حملني الشاب من جانبي، وضحك قائلاً:
"يا إلهي… أنت غبية حقًا! كيف يمكنك شرب زجاجتين كاملتين هكذا؟"
حاولت أن أبتسم، لكن الدوخة جعلت وجهي يفتقد التوازن، وبدأت أتميل قليلًا على الطاولة.
حينها وضعني في سياره وبداء يقود رغم شربه لي زجاجه كامله لم يعمل.
وفي تلك اللحظة شرطه اوقفتنه.
"نريد التحقق من نسبة الكحول!"
تجمّد الشاب للحظة، نظر إليّ بعينين متسعتين، وهمس لنفسه:
"يا إلهي… هذه مصيبة! لقد تورطنا… هذه الفتاة الغبية!"