كان الجو في مركز الشرطة خانقًا، جدرانه الرمادية تُشعرك وكأنك في زنزانة مغلقة حتى لو كنت تجلس على مقعد عادي. أصوات الأجهزة، خطوات الضباط، رنين الهواتف… كلها امتزجت في ضجيج متواصل.
في تلك اللحظة، انفتح باب المكتب الكبير ببطء، ودخل شاب بملامح صارمة ووجه يشبه يونا إلى حدّ مخيف. شعره مسرّح بعناية، عيناه تحملان برودة البحر في ليلة شتاء، بدلة سوداء باهظة الثمن، وأسلوب مشيته وحده كان يكفي لفرض الصمت على المكان.
توقفت أنفاس الشرطية لوهلة، ثم اعتدلت واقفة وقالت باحترام:
"سيدي ثيو… ما الذي جاء بك؟"
لكن الشاب لم يلتفت إليها، بل ركّز نظره مباشرة على الكرسي حيث كانت يونا نائمة، رأسها متدلٍ، شعرها الكستنائي ينساب على كتفها كأنها غارقة في سبات عميق. عينيه اتسعتا للحظة، امتزج فيهما الاستغراب بالاستياء، قبل أن يخرج صوته العميق قائلًا:
"…يونا؟"
اقترب بخطوات بطيئة حتى وقف أمامها، ثم نظر إلى الشرطية بعينين تقدحان شررًا:
"ماذا تفعل أختي هنا؟"
ترددت الشرطية، لكن صوتها ارتجف وهي تقول:
"سيّد ثيو… لم نكن نعلم أنها شقيقتك. لقد كانت في حالة سُكر واضحة، فظننا أنها قاصر ضائعة أو متورطة في أمر مشبوه…"
لكن قبل أن تُكمل، قاطعها بنبرة ملؤها التقزز والاحتقار، وهو يرمق يونا كأنها لطخة عار:
"كعادتها… هذه الحقيرة لا تجلب لعائلتنا سوى العار."
ساد صمت ثقيل في القاعة. الشرطية لم تجرؤ على الرد، فقط أطرقت رأسها. أما جي هون، فقد فتح عينيه بدهشة وصاح:
"ماذا؟! هذه الفتاة… ابنة عائلة غنية؟"
ابتسم ثيو بسخرية وهو يضع يده في جيبه، وقال للشرطية:
"حرروا الأوراق فورًا. أنا من سيتولى أمرها."
لم يجرؤ أحد على الاعتراض. حمل ثيو يونا من على الكرسي وكأنها مجرد حقيبة مهملة، ورغم نومها الثقيل بسبب الكحول، ظهرت على وجهه علامات الاستهجان والاشمئزاز. تمتم وهو يتجه نحو الباب:
"ستدفعين الثمن، أيتها الحمقاء."
خرج وهو يحملها، تاركًا خلفه جواً من التوتر والارتباك.
أما جي هون، فقد جلس مذهولًا، يحاول استيعاب الموقف. نظر إلى الشرطية، وقال بحدة:
"أنتم… أنتم لم تقولوا إن هذه الفتاة من عائلة كبيرة! لقد جعلتموني في ورطة لا علاقة لي بها!"
ردت الشرطية بفتور:
"لقد أخبرتنا بنفسك أنك لا تعرفها. لا تلقي اللوم علينا."
ضرب بيده على الطاولة وهو يصرخ:
"لكن… هذا ظلم! لقد عانيت بسببها، والآن يأخذها أخوها وكأن شيئًا لم يحدث!"
اقتربت منه الشرطية، وقالت بلهجة عملية:
"حسنًا، يمكنك المغادرة الآن. لكن تذكر… قيادة السيارة تحت تأثير الكحول جريمة. لن نعيد لك مفتاحك بسهولة."
ابتسم بسخرية، ثم انحنى قليلًا نحوها، خافضًا صوته:
"أوه… حقًا؟ هل نسيتِ ما رأيته بأم عيني؟ تلك الفتاة ذات الطبع الحاد… ماذا تظنين أنها ستفعل لو علمت أنكِ من صادرت سيارتي؟ ستخسرين وظيفتك قبل أن تفكري بالاعتراض."
صمتت الشرطية، وجهها شحب، ثم زفرت بتوتر. مدت يدها إلى درج مكتبها وأخرجت مفتاح السيارة ببطء، وضعته على الطاولة أمامه، وقالت:
"خذها… ولكن إن ضبطناك مرة أخرى تحت تأثير الكحول، لن يشفع لك اسم أي أحد."
التقط المفتاح بابتسامة انتصار، ثم ن
في السيارة التي تسير وسط ظلام الليل، جلس ثيو متكئًا على مقعده الخلفي، ووجهه يزداد عبوسًا كلما نظر إلى الفتاة النائمة بجانبه. كان صوته منخفضًا أول الأمر، ثم أخذ يرتفع شيئًا فشيئًا وكأن الغضب يتدفق في عروقه. قال لمساعده وهو يحدّق في زجاج النافذة:
"ماذا جلب هذه الغبية إلى مكان كهذا؟"
انحنى المساعد قليلًا، وكأنه يخشى من حدة صوته، وأجاب بصوتٍ متردد:
"سيدي... لا أعلم تمامًا. ربما كانت مع صديقاتها..."
قاطع ثيو ضاحكًا ضحكة ساخرة قصيرة:
"صديقاتها؟! لا تقل نكات سخيفة... هذه لا تملك أصدقاء. إنها مجرد فتاة ضعيفة، وحيدة، عديمة الفائدة. من ذا الذي سيرغب في الاقتراب من مثلها؟"
ثم أدار وجهه نحو يونا، وقد بدا احتقاره واضحًا في عينيه الباردتين، وأردف:
"في المستقبل... سأطردها من العائلة. نعم، سأرميها إلى الشوارع حيث تنتمي. سيكون مشهدًا ممتعًا حين تراها تتسول أو تتسكع بلا مأوى. هي وصمة عار على اسمنا."
لم يكتفِ بذلك، بل استرسل بصوتٍ يزداد قسوة:
"بسبب هذه اللعينة خسرنا أمنا. مجرد التفكير في الأمر يثير اشمئزازي. لو كان بيدي الأمر... لجعلتها تختفي من هذا العالم. تبا لوجودها، تبا لوجهها الذي يذكرني دائمًا بتلك الليلة السوداء."
ضحك ضحكة خافتة، لكنها كانت مليئة بالسمّ:
"هل تتخيل يا ريكو؟... فتاة في مثل عمرها تشرب الكحول في مكان عام! هذا ليس مجرد عيب، بل خيانة لشرف العائلة. يجب أن تموت مثل هذه لتُحفظ براءة الفتيات الأخريات."
كان يونا، رغم مظهرها الميت من أثر التعب والخمر، قد استيقظت منذ لحظات، وسمعت كل كلمة خرجت من فمه. عيناها كانتا نصف مفتوحتين، تحدقان في الفراغ، لكن قلبها كان يتلقى الطعنات بلا رحمة. لم تُبدِ أي رد فعل، لم تتكلم، ولم تبكِ. اكتفت بالصمت، وكأن روحها انفصلت عن جسدها للحظة.
وصلت السيارة إلى بوابة القصر الضخم، حيث فتح الحارس الحديد الأسود الثقيل ليدخل الموكب. الأضواء الصفراء المتدلية على جانبي الطريق عكست ملامح القصر الفاخر، لكنّ برودته أشبه بمقبرة.
أوقف المساعد السيارة، نزل بسرعة، ثم فتح الباب الخلفي، وحمل يونا بين ذراعيه. جسدها كان خفيفًا، كأنه مجرد عبء لا حياة فيه. عبروا بهدوء إلى داخل البهو الواسع، حيث بدا كل شيء ساكنًا، حتى عقارب الساعة على الجدار لم تصدر أي صوت.
في تلك اللحظة، انحدرت خطوات بطيئة من أعلى الدرج الكبير. كان رجلاً بالغًا، شعره أسود قاتم كالفحم، وجهه قد علته بعض التجاعيد الدقيقة التي لم تزد ملامحه إلا قسوة. عيناه كانتا فضيتين، حادتين كالسيوف، وملابسه الرمادية الفضفاضة أوحت بأنهم أيقظوه من نومه.
وقف الرجل عند منتصف الدرج، ناظرًا بحدة إلى ثيو، ثم ألقى نظرة سريعة على يونا بين ذراعي المساعد. صوته جاء أجشًّا، مثقلًا بالصرامة:
"ما الذي يحدث هنا؟ ولماذا هذه الفتاة معك؟"
ارتسمت على وجه ثيو ابتسامة ساخرة ممزوجة بالاحتقار، وقال وهو يشيح برأسه جانبًا:
"أبي... لن تصدق ما رأيته الليلة."
لم يرد الأب، بل صمت للحظة، ثم أشار بيده إلى المساعد قائلاً:
"خذها إلى غرفتها
صعد بالسلالم وهو يحمل يونا التي بدت وكأنها دمية بلا روح.
في تلك اللحظة، ظل ثيو واقفًا أسفل الدرج، عيناه مشتعلة بحقد مكتوم، وهو يتمتم بصوت منخفض لم يسمعه أحد سواه:
"لن تفلتِ هذه المرة يا يونا... ستدفعين ثمن كل لحظة أذلتني بها أمام الناس. سأجعلكِ نادمة على مجرد وجودك."
أما الأب، فقد بقي صامتًا، عيناه تتبعان خطوات ابنته الضعيفة حتى اختفت في الممر الطويل، قبل أن يعود ببصره نحو ثيو، متأملاً ملامحه المشحونة، لكنه لم يقل شيئًا...
وكأن الصمت في ذلك القصر كان أثقل من كل الكلمات.
---
هض قائلًا:
"هذا ما كان يجب أن يحدث منذ البداية."