استيقظت يونا ببطء شديد، كأن جسدها يرفض أن ينهض من ثقل الأمس. نفس الملابس ما زالت تلتصق بجسدها، نفس الرائحة الكريهة للكحول تتصاعد من قماشها، وكأنها وصمة لا يمكن غسلها. رفعت يدها إلى جبينها، شعرت بالصداع يضغط عينيها من الداخل، همست بصوت متعب:
"آه… رأسي… هذا هو السبب الذي يجعلهم يمنعون القاصرين من الشرب… إنه عذاب."
فتحت الباب بخفة، دخلت الخادمة، كما تفعل كل صباح. لم يكن في ملامحها تعاطف، بل مجرد واجبٍ تؤديه. قالت بصوت بارد:
"سيدتي… حان وقت الإفطار. يجب أن تنزلي إلى قاعة الطعام."
حدّقت يونا بها للحظات وكأن عقلها لم يستوعب الجملة. تمتمت أخيرًا:
"ماذا؟… اه حسنن
بدأت أغيّر ثيابي ببطء، كأن كل قطعة أثقل من الأخرى. رأسي كان مثقلاً برائحة الكحول التي لم تزل عالقة في شعري وملابسي. كنت أريد أن أبقى في غرفتي، أن أغلق الباب وأختبئ من كل شيء، لكن صوت الخادمة كان صارمًا حين قالت:
"سيدتي… الإفطار جاهز، يجب أن تنزلي."
لم يكن في الأمر خيار. تنهدت وأخذت خطوات بطيئة نحو الدرج. كل درجة كنت أنزلها كانت تحملني إلى عالم لا يشبهني… عالم لم أُختر أن أكون فيه.
وصلت إلى قاعة الطعام، وكانوا هناك: أرين، ثيو، داميان، والأب. ضحكاتهم العالية اخترقت أذني قبل أن أخطو إلى الداخل. ضحكاتهم كانت كخناجر؛ لم أكن جزءًا منها، ولم يكن لي مكان بين تلك الأصوات. لكن حين دخلت، سقط الصمت فجأة. كأن حضوري وحده جريمة.
جلست على المقعد المقابل لهم. لم أطلب منهم الإذن، ولم أبتسم، فقط جلست. كنت أعرف أن وجودي يكفي ليعكر صفوهم.
أرين، كعادتها، حاولت كسر الجدار. قالت وهي تبتسم بخفة، ابتسامة تحمل شيئًا من القلق:
"أختي… لماذا تأخرتِ البارحة في العودة؟ لقد قلقت عليكِ."
أخفضت رأسي قليلًا، كلماتها كانت دافئة لكنها ضعيفة أمام هذا الجو الخانق. لم أجد جوابًا سوى جملة باردة، قلتها وكأني أتحدث إلى نفسي:
"لا أعرف… لقد نسيت الطريق."
ساد صمت قصير. ثم، كما توقعت، جاء صوت ثيو قاسيًا، ممزوجًا بسخرية مقصودة:
"لا تعرفين الطريق؟ كفى هراء. ألم تكوني دائمًا تخرجين وحدك؟ ألم تهربي من القصر مرات بلا عدّ؟ تريدين أن نصدق أنكِ تائهة؟ أحقًا تظنين أننا حمقى؟"
ضحكته تلك كانت أخطر من كلماته. ضحكة تحمل احتقارًا باردًا، ضحكة تقول لي: أنتِ لا شيء.
أرين انتفضت فجأة وقالت:
"توقف يا أخي! قالت إنها نسيت الطريق، وانتهى الأمر. لماذا تهاجمها دائمًا؟"
لكن صوتها لم يكن كافيًا. كان ضعيفًا مثل نسمة تمر فوق صخرة.
ثم التفت الأب نحو أرين، تجاهلني كأنني لست موجودة، وصوته صار أكثر دفئًا فجأة:
"أرين… كيف حالك في المدرسة؟"
أجابته بفرح، وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال منذ زمن:
"أبي… لقد حصلت على علامات ممتازة في جميع المواد، وكنت الأولى في الصف."
أطال النظر إليها بعينين يملؤهما الرضا، ثم مدّ يده وربت على رأسها برفق:
"هذه هي ابنتي."
حينها شعرت بشيء ينهار داخلي. كلمة "ابنتي" علقت في أذني، لكنها لم تكن لي.
انتقل الأب إلى ثيو:
"وأنت؟"
رفع ثيو رأسه بثقة، وقال وكأنه يقدم انتصارًا شخصيًا:
"لقد أصبحت الأول في الجامعة."
ابتسم الأب، صوته صار فخورًا:
"هذا هو المتوقع منك. لو واصلت على هذا المستوى، سأعطيك ما طلبته منذ زمن."
كنت أراقبهم، شعور غريب يلتف حول قلبي. ليس غيرة فقط… بل شعور أنني دخيلة بين غرباء، أنني جالسة على مائدة لا تخصني.
ثم جاء دور داميان، الذي قال بهدوء:
"لقد حصلنا على تعاون مع الشركة التي يديرها السيد لي."
رفع الأب حاجبيه بدهشة، ثم ضحك قليلًا:
"هذا إنجاز كبير. سمعت أن هذا الرجل لا يتعامل بسهولة."
ضحك داميان بدوره:
"لكني أقنعته. منذ الصغر وأنا بارع في المفاوضات، أليس كذلك؟"
ارتسمت ابتسامة على وجه الأب وهو يقول:
"صحيح… كنت ذكيًا دائمًا."
انتظرت… انتظرت أن يلتفت إليّ، أن يسألني مجرد سؤال تافه: كيف حالكِ؟ هل تناولت طعامكِ؟ أي شيء… لكن لا شيء جاء.
ثم قال بصوت هادئ، وهو يوزع نظره بين الثلاثة:
"أنتم أطفالي وهاذا المتوقع منكم كانت نظراته فخورة ."
كانت تلك الكلمة مثل سكين، "جميعكم"… وأنا جالسة هنا، هل كنت ضمن "الجميع"؟ أم أنني مجرد ظلّ لا يُحسب؟
رفعت أرين رأسها فجأة، بجرأة لم أكن أتوقعها:
"أبي، لماذا لا تسأل أختي؟ إنها جزء منا أيضًا."
للحظة، نظرت إليه… أردت أن أرى ردة فعله، أردت أن أصدق أنّ قلبه سيحنّ. لكن ما رأيته كان أسوأ مما توقعت. نظر إليّ نظرة جامدة، عينيه كالجليد، ثم قال ببرود مطلق:
"أختك؟… وماذا سنجد عندها؟ إنها مجرد فتاة حقيرة، تتسكع ثملة مع رجال غرباء."
خطواتي على الأرضية الباردة كانت أبطأ من أن تُسمع، لكن في داخلي، كل خطوة كانت مثل ارتطام المطرقة بالحديد. أردت أن أغادر، فقط أن أبتعد عن الطاولة التي اختلطت عليها الضحكات والطعون، عن المكان الذي لا يراني فيه أحد سوى كظل زائد.
لكن صوت ثيو لحقني قبل أن أُمسك بمقبض الباب:
"ماذا؟ ألم تقولي أنك لا تعرفين الطريق؟ كيف تعرفين طريق المدرسة ولا تعرفين طريق المنزل؟"
ضحكة ثيو كانت مليئة بالاحتقار، مثل خنجر يُدار ببطء داخل صدري.
توقفت. لم ألتفت إليه. الهواء صار ثقيلاً لدرجة جعلت رئتيّ ترفضان التنفس. شيء غريب اجتاحني، ليس غضبًا ولا خوفًا… بل ارتعاشة غامضة، كأن شيئًا لا يخصني تمامًا، شيئًا أقدم مني، استيقظ داخلي.
"كيف استطاعت يونا الأصلية أن تتحمل هذه العائلة المقرفة؟"
الجملة لم تكن مني. خرجت من بين أسناني كأنها انبثقت من ذاكرة لا أملكها. جسدي ارتجف، يداي بردتا حتى شعرت أن أطرافي تتحجر.
حينها نرا يونا عيونها أصبحت ميتا كما لو تذكرت شيأ من حياته في عالمه ظهرت صورة ضبابية، فتاة صغيرة، لها شامة أسفل فمها. كانت تبكي، عيناها واسعتان تتلألآن بالدموع، يدها تضغط على معدتها كأن الألم يعصرها.
"لا يا أبي… أرجوك… لا تفعل…"
ارتجعتُ، عدت إلى الحاضر، والجميع يراقبني. عيونهم كأنها تنتظر مني الانهيار. لكن عينيّ كانتا سوداويين، بلا بريق، كأنني جثة تمشي.
لم أقل كلمة. فقط فتحت الباب، وسرت في الممر الطويل. السجادة الحمراء تحت قدمي بدت كبحرٍ من الدماء يبتلعني ببطء. كنت أسمع أنفاسي تتقطع، وصوت قلبي أبطأ من العادة، باردًا… بلا معنى.
حين وصلت إلى الباب الخارجي، كان السائق واقفًا عند سيارته، ينتظر.
ابتسم بخجل :
– "صباح الخير آنستي."
كلماته بدت كأنها تأتي من بُعد آخر. ابتسامته كانت مثل شيء غريب لا ينتمي لهذا العالم. نظرت إليه للحظة، ثم دخلت السيارة بصمت.
الجلوس في المقعد جعلني أستعيد إحساس جسدي. رائحة الجلد، وصوت المحرك، والبرد القادم من الزجاج. كل شيء بدا عادياً، لكنه لم يلمسني.
وضعت رأسي على النافذة الباردة، عيني مفتوحتان لكني لم أرَ شيئًا. داخلي كان يردد
ربما يونا الاصليه عاشة حياه مليئه بي المعنا وتجاهل ونكران لكن هل هيا حقن اسواء من حياتي هههه تضن انهو لابأس بي العيش هاكذ ما دمت أعيش في أمان