في اليومين التاليين، عمّ المسكن صمت ثقيل، كأن الهواء نفسه صار أثقل من أن يُستنشَق. كانت نظرات العبيد الستة تتجنبني دائمًا، حتى حين كنت أمرّ بجانبهم بهدوء. لم يعد أحد منهم يرى فيّ سوى شبح الموت، السيف الذي سيهوي عليهم إذا أخطأوا أو حاولوا أن يحلموا بالحرية.
لوكاس حاول أن يحافظ على رباطة جأشه، لكنه لم يخفَ عليّ ارتجاف مشاعره. لم يكن خوفًا مني بقدر ما كان حزنًا ممزوجًا بالغضب، غضب مكبوت يعرف أنه لا يستطيع إظهاره أمام ارترو أو حتى أمامي. سامرو ظلّ كما هو، عيونه تخفي الكثير، لكن داخله كان يغلي. كنت أعلم أنه يفهمني أكثر من أي أحد، ويفهم لماذا تركت الأمور تصل إلى هذا الحد.
أما بوهانكوك، فقد تغيّرت أكثر من غيرها. تدريبي القاسي جعلها تتعلم كيف تخفي مشاعرها خلف قناع بارد، لكنها لم تعد تثق بي تمامًا. نظراتها نحوي كانت مزيجًا من الحذر والاحتقار الصامت، ومع ذلك استمرت في تنفيذ أوامري. بعد حادثة الإعدام، لم أعد أدربها بنفسي، بل تركت المهمة لسامرو، ربما لأحمي ما تبقى من إنسانيتها من جحيم وجودي.
أيامي انحصرت في خدمة ارترو، تنظيف جناحه، تنفيذ أوامره، ونقل كلماته الباردة التي تحمل الموت أينما ذهبت. كنت قريبًا من الشيطان أكثر من أي وقت مضى. ومع كل أمر يصدره، كنت أرى كيف يتلاعب بنا نحن العبيد وكأننا قطع شطرنج على لوحه ملعونة.
حين أخبرني عن البطولة القادمة، شعرت ببرودة الموت تسري في عروقي. قالها بابتسامة خفيفة، كأنه يتحدث عن حفلة مسلية:
قتال حتى الموت بين العبيد
فهمت عندها أن شراءه للسبعة من المزاد كان مخططًا منذ البداية. كان الإعدام الذي نفذته مجرد خطوة محسوبة، خطوة لاختبارنا جميعًا وكسرنا أكثر. في هذه البطولة، لن يكون هناك مكان للهروب، ستختبر الدماء وتسيل حتى آخر قطرة.
قوانينها كانت بسيطة ووحشية: فريق من ستة، يقاتل حتى يبقى واحد حيّ فقط. عدد المشاركين: مئة وأربعة عشر عبدًا. لا تضاريس، لا حيل، مجرد ساحة مكشوفة يتلاقى فيها الموت مع الموت.
حين أدركت ذلك، شعرت بالقشعريرة تلتهم ظهري. ارترو لا يرى فينا سوى لعبة مسلية، لعبة يضع فيها الأرواح على المحك ليتسلى.
في اليومين الأخيرين قبل البطولة، زاد التدريب على العبيد الستة. كنت أراقبهم من بعيد وهم يتصببون عرقًا ويتحطمون نفسيًا. لم أحاول أن أشجعهم أو أخفف عنهم. لا جدوى من ذلك. بدت على وجوههم نظرات اليأس الحقيقي، ذاك اليأس الذي يلتهم الروح ويجعل الموت يبدو أهون من الحياة.
وحين حان وقت إخبارهم بالخبر، وقفت أمامهم بوجه جامد. أخبرتهم بما ينتظرهم، وأني سأكون مجرد ناقل للأوامر، أما التفاصيل فسيأخذونها من لوكاس. رأيت في أعينهم انكسارًا تامًا، كأنهم أدركوا أن الموت أصبح حقيقة لا مفر منها.
اللّعنة
.
منذ دخلت هذا العالم وأنا ألعن… ألعن النظام، ألعن التنانين السماوية، ألعن نفسي… وألعن القدر الذي وضعني هنا بين كل هذا الجحيم.
في الليلة الأخيرة قبل البطولة، كان المسكن يغرق في صمت خانق، لا يُكسره سوى صوت أنفاس متقطعة هنا وهناك. جلست في غرفتي أنظر إلى السقف، عقلي يتلاعب بي، يستعيد كل الوجوه التي رحلت وكل الوعود التي قطعتها. عيني اليسرى التي فقدت بصرها ما زالت تؤلمني أحيانًا، لكنها أصبحت رمزًا للوعد الذي أقسمت عليه: سأحرق هذا العالم مهما كان الثمن.
طرقات خفيفة على الباب قطعت شرودي.
– “ادخل.”
فتحت بوهانكوك الباب ودخلت بصمت. كانت ملامحها جامدة، لكنها لم تنجح في إخفاء القلق في عينيها. قالت بصوت خافت:
– “هل سيموتون جميعًا غدًا؟”
سكتّ لثوانٍ. نظرت إليها، ثم قلت ببرود مقصود:
– لا اعتقد ذالك مصيرهم محكوم بالموت هنا
شدّت قبضتها، وكأنها تحبس شيئًا بداخلها، ثم استدارت لتغادر. وقبل أن تغلق الباب، همست بصوت يكاد لا يُسمع:
– “أتمنى أن ينجو جميعاً .”
تكلمت بصوت عالي
الامل هو سم كما هو اليأس
ابتسمت بسخرية مريرة بعد خروجها. حتى هي، رغم كرهها، ما زالت تتمسك بأمل ضعيف.
في الصباح، كان العبيد الستة مصطفّين في ساحة التدريب، وجوههم شاحبة لكن أعينهم مشتعلة بخوف ممزوج بإصرار غريزي على البقاء. لوكاس وقف أمامهم، صوته كان قويًا رغم أنه يخفي توتره:
– “اسمعوا جيدًا. في البطولة غدًا، لن يكون هناك رحمة. القواعد واضحة: أنتم فريق واحد، وإذا سقط أحدكم فلن يستطيع أحد إنقاذه. تذكروا تدريباتكم، استعملوا عقولكم قبل سيوفكم. هذا كل ما أستطيع قوله.”
سامرو كان يقف في الظل يراقب بصمت، عيناه تتحدثان بدلًا منه: “ابقَ حيًا. مهما كان الثمن.”
مع غروب الشمس، تم اصطحابهم إلى الساحة الكبرى داخل الماريجوا، حيث ستُقام البطولة في اليوم التالي. هناك، رأيت العبيد الآخرين، وجوه من مختلف الأجناس والأعمار، كلهم مقيدون، وكلهم يعرفون أن بعضهم سيصبح جثثًا مع شروق الشمس.
ارترو كان حاضرًا في المدرجات، جالسًا بهدوء كأنه يشاهد عرضًا مسرحيًا، شامروك إلى جانبه بابتسامة باردة. شعرت بضغط هاكيه وهو يراقب الجميع، يبحث عن نقطة ضعف، عن لحظة انهيار.
تقدمتُ نحو العبيد الستة، وقفت أمامهم. قلت بصوت منخفض لكن مسموع:
– “غدًا لا تقاتلوا من أجل الفوز، بل قاتلوا من أجل أن تعيشوا. من يسقط، فليسقط وهو متمسك بسيفه. لا أريد أن أرى عيونًا خاوية.”
نظروا إليّ بصمت، لم يجب أحد، لكنني شعرت بمشاعرهم: الخوف، الإصرار، الغضب، كلها امتزجت في داخلهم لتشكل نارًا قد تنفجر في الحلبة.
رفعت رأسي إلى السماء المظلمة، وأقسمت بصوت لا يسمعه أحد سواي:
“باسم فيرنر
باسم كل عبد سقط لن أنسى.
غدًا سيبدأ الدم في السيلان، لكنه مجرد بداية لطوفان قادم.”
ومع حلول الليل، دخلت إلى غرفتي. أغلقت الباب، وأغمضت عيني.
غدًا لن يكون مجرد قتال حتى الموت.
غدًا سيكون خطوة جديدة في طريق الجحيم
الفصل التالي: “يوم الدم”
بدأت البطولة مع شروق شمس قاتمة، وكأن السماء نفسها حزينة على ما سيجري. تم اصطحاب العبيد الستة إلى الحلبة، بينما نحن أُمرنا بالعودة إلى المسكن. الحلبة محاطة بتنانين سماوية يضحكون بملل، وسي بي زيرو يقفون مثل تماثيل بلا مشاعر. أما أنا، فقد عدت إلى سريري، أحاول السيطرة على عاصفة أفكاري التي تمزق رأسي.
كنت أعلم أن الموت ينتظرهم هناك، لكن رغم ذلك… تمنيت لو استطاعوا النجاة.
فتح باب غرفتي فجأة، ودخل سامرو ولوكاس. كانت الغرفة بالكاد تتسع لنا نحن الثلاثة، ومع ذلك ثقل الجو فيها جعلها أضيق من خلية سجن. لوكاس، بجسده الأكبر وسنه الخامسة عشرة، جلس بصمت على الأرض. سامرو وقف إلى جانبي، عيناه تعكسان ما في داخلي.
شعرت بهاكي التنبؤ بوجود ثلاثة أشخاص خارج الغرفة. كانت الفتيات الثلاث يتنصتن علينا، ومشاعرهن تتسرب نحوي كطعنات: خوف، ازدراء، وغضب. أكثرها كانت من بوهانكوك؛ كانت تحتقرني وتكرهني بشدة.
سأل لوكاس بصوت هادئ مكسور:
– “هل تعتقد أنهم سينجون؟”
أجبت ببرود متعمد، رغم الألم الذي حاولت دفنه في داخلي:
– “لا. هذا مستحيل. لقد وُلدوا ليموتوا. مصيرهم هو إمتاع النبلاء… والموت.”
ساد الصمت، ثقيلًا مثل سيف على الرقاب.
كلماتي لم تكن إلا قناعًا؛ لوكاس وسامرو يعرفان الحقيقة، يعرفان أن خلف هذا البرود نارًا لا تنطفئ. كان يجب أن أكون الشيطان في نظر الجميع… حتى تنجح خطتنا.
مشاعر الفتيات الثلاث بالخارج تغيرت فجأة. ازداد الخوف، وامتزج بالغضب الذي أصبح حقدًا. بوهانكوك تحديدًا شعرت بهاكيها يتفجر كبركان صغير. لم أهتم؛ فليكرهونني. الكراهية أفضل من الضعف.
قال لوكاس، محاولًا إخفاء ارتجاف صوته:
– “ثلاث سنوات… ستكون طويلة.”
أومأت برأسي. نعم، ثلاث سنوات حتى تنفيذ الخطة. كنت قد أخبرتهم أننا سنهرب بعد ثلاث سنوات، وعليهم أن يستعدوا لذلك اليوم.
– يجب أن نفك أقياد الكايروسكي من أيدينا أنا وسامرو.
– يجب أن يتقن لوكاس وبوهانكوك هاكي التنبؤ.
– أما هاكي التصلب… فلا طريقة لتعلمه الآن. حتى سامرو، الذي يعرف أسرارًا أكثر مني، لا يعلم عنه شيئًا.
كل شيء يعتمد على الصبر… والصبر في هذا الجحيم هو أصعب قتال.
تبادلنا النظرات الثلاثة. لم نحتج للكلام. نحن نفهم بعضنا دون كلمات.
أما خارج الغرفة، شعرت ببوهانكوك تقبض يديها. الكراهية التي تحملها نحوي الآن… ربما ستجعلها أقوى.
في تلك الليلة، لم ينم أحد.
كلنا كنا ننتظر وصول الخبر:
هل سيعود أحد منهم حيًا؟
أم ستُضاف جثث جديدة إلى قائمة الدم الطويلة؟
وصل سامرو في المساء، خطواته بطيئة وصمته أبلغ من ألف كلمة. بمجرد أن رأيته، عرفت أن الجواب لم يكن رحيمًا. قلبي انقبض، رغم أن عقلي كان يعلم مسبقًا أن النتيجة لن تكون غير ذلك.
تحدث أخيرًا بصوت منخفض:
– “لم ينجُ أحد.”
كانت الكلمات بسيطة، لكنها سقطت عليّ كحجر ثقيل سحق صدري. تمنيت، بل تمسكت بأمل ضعيف أنهم سيعيشون… لكن الأمل كان سمًا بطيئًا.
وراء الباب، انهارت الفتيات الثلاث لأول مرة. دموعهن اختلطت بالخوف الذي يسكن قلوبهن. هذا هو الموت الحقيقي… ليس موت الجسد، بل موت الروح التي تعجز عن الصراخ.
كنت أراقبهن بصمت، عيناي جامدتان، لكن داخلي يصرخ. كنت السبب الوحيد لبقائهن على قيد الحياة، أبعدت بوهانكوك عن ارترو بكل ما أستطيع، وكل ذلك لم يكن إلا لعبة يستمتع بها ذلك الشيطان، وهو يراقب محاولاتي اليائسة.
حتى الختم، لم يضعه على أجسادهن. كان هذا لطفًا مسمومًا منه، لكنه كان حظًا لهن. محظوظات… لكن لا يعرفن ذلك.
لم أقل شيئًا. تركتهن ينهارن. الألم الذي يواجهنه اليوم سيجعلهن أقوى غدًا، وسيزرع فيهن جذور الحقد الذي سنحتاجه.
عدت إلى غرفتي، أغلقت الباب ببطء، واستلقيت على سريري.
ثلاث سنوات…
فقط ثلاث سنوات يجب أن نصمد فيها، حتى يأتي اليوم الموعود.
اليوم الذي سينهار فيه هذا الجحيم، وسأفي بكل قسم قطعته باسم فيرنر وباسم كل من سقط.