الفصل 12 - تحت ضوء القمر
-------
تسللت العربة الخشبية عبر الطريق الترابي، تتهادى ببطء تحت ضوء القمر الفضي، حتى وصلت أخيرًا إلى مشارف القرية.
كانت القرية ساكنة، يغمرها صمت غريب. لا ضجيج، لا صوت بشري، فقط نسيم خفيف يمر بين البيوت البسيطة ويُحرّك ستائرها بهدوء.
تطلّعت ليزا حولها وقالت بصوت منخفض:
"لماذا يبدو المكان... خاليًا هكذا؟"
أجاب مورو من مقعده الأمامي، بينما يترجل من العربة:
"لقد تأخر الوقت، من الطبيعي أن لا تجدِ أحدًا في الخارج الآن."
ثم أشار بإبهامه إلى أحد الأبنية القريبة التي ينبعث منها ضوء خافت.
"هناك نُزل قريب، سأذهب لأرى إن كنا نستطيع المبيت فيه هذه الليلة."
أومأت ليزا بصمت، بينما بقي الآخرون داخل العربة.
في الخلف، كان ويلث جالسًا، يحدّق إلى السماء الصافية، حيث النجوم تتناثر بكسل فوق السحاب. تمتم في داخله:
"هل هكذا ستكون النهاية؟"
لكن سرعان ما هزّ رأسه، وعيناه تتجهان إلى ذراعه المفقودة،
"لا... لن ينتهي الأمر هكذا."
كان الإصرار يتوهج في عينيه، كأن خسارته لم تكن سوى بداية لطريق جديد.
أما ريو، فقد كان في عالم آخر تمامًا. مستلقٍ في زاوية العربة، نائمًا بعمق، يشخر بصوت هادئ كطفل لا يعبأ بما يدور من حوله.
نظر مورو إليه بتنهيدة ثقيلة وهو يبتعد نحو النُزل، وفكر بسخرية:
"ينام ويأكل، وفي النهاية يظهر بقوة لا تُصدق... هذا غير عادل، أشعر بالغيرة فعلاً."
بينما اختفى مورو في زقاق ضيق باتجاه النُزل، التفتت ليزا نحو ويلث، وقالت بصوت متردد:
"عمي... ماذا سنفعل الآن؟"
أجابها بهدوء، وعيناه لا تزالان تراقبان الأفق:
"لا بأس يا ليزا. سأعيدك إلى العشيرة كما وعدت."
ترددت قليلًا، ثم قالت:
"حسنًا... لكن، ماذا عنك؟ هل تريدني أن أتحدث مع جدي بالنيابة عنك؟ بإمكاني أن—"
قاطعها ويلث بلطف، وهو يلوّح بيده:
"لا داعي، ليزا... أعتقد أن هذه الصفحة قد طُويت. أنا أفكر في الانضمام إلى الوحدة الخاصة."
اتسعت عيناها بدهشة، ونظرت لا شعوريًا إلى ذراعه المبتورة، لكنه ابتسم قائلاً:
"لا تقلقي... ما زالت لدي واحدة أخرى."
كانت ابتسامته دافئة، صادقة، لدرجة أن ليزا لم تستطع إلا أن تبتسم بدورها.
وفجأة، تحرك شيء خلفهم.
ريو بدأ يستيقظ.
فتح عينيه بتثاقل، تمطّى، ثم تثاءب بصوت مسموع وهو يقول بنعاس:
"همم... هل وصلنا؟"
أجابت ليزا مبتسمة:
"نعم، لقد دخلنا القرية للتو."
جلس ريو، يمرر يده في شعره الفوضوي، ثم نظر إلى ويلث وسأله:
"هل كل شيء على ما يرام؟"
رد ويلث وهو يراقبه باهتمام:
"أخبرني، من أين أتيت يا ريو؟"
رفع ريو حاجبه في استغراب، لكنه قال ببساطة:
"من قرية صغيرة في الجنوب. لماذا تسأل؟"
أخفض ويلث عينيه قليلاً وفكر:
"بهذه القوة... وبهذه اللامبالاة؟ مستحيل أن يكون مجرد فتى قروي."
تابع بسؤال أكثر عمقًا:
"ومن علّمك القتال؟"
صمت ريو للحظة، ثم ابتسم ابتسامة غامضة، وقال:
"تعلمت وحدي... يمكن القول إن لدي طريقتي الخاصة."
ضحك ويلث، وهز رأسه بإعجاب:
"أفهم. لكل منا أسراره."
نزل ريو من العربة بهدوء، يقف تحت نور القمر، والسيف يتدلّى من خصره. غمده كان مهترئًا، وملابسه قديمة، لكن وقفته... كانت مهيبة. الريح حرّكت شعره الأسود الطويل كأن الطبيعة بأكملها تحترمه.
نظر إليه ويلث مطولًا، ثم فكّر:
"هذا الفتى... سيُحدث فوضى في هذا العالم."
قال له:
"ريو... نزال بيننا، في يومٍ ما، ما رأيك؟"
لم يجب ريو، بل ابتسم ابتسامة كسولة، كأنها تقول: "حين يحين الوقت، سترى."
...
في الجانب الآخر من القرية، وقف مورو أمام نُزل يبدو وكأن الزمن قد تخلّى عنه منذ قرون. يافطته المتهالكة تتدلّى بحبل مهترئ، وكأنها تتوسل السقوط.
زفر مورو تنهيدة طويلة، ثم دفع الباب الخشبي، فأصدر صريرًا أشبه بأنين عجوز يتلو دعاءه الأخير.
دخل بخطًى هادئة، لتستقبله رائحةٌ عجيبة، مزيجٌ من الرطوبة القديمة، ورائحة طعامٍ لم يُطبخ بعد، مع لمسة خفيفة من العرق المُختمر.
خلف منضدة متشققة، جلس رجل أصلع ممتلئ، تترنّح كُرشه كأنها بحرٌ صغير في عاصفة هادئة. كان يعبث بأظافره الطويلة بسكين صغيرة، وعيناه نصف مغمضتين كأن النوم لم يُفارق روحه منذ أسبوع.
رفع رأسه ببطء وحدّق بمورو، ثم قال بصوت أجشّ:
"ماذا تريد؟"
أجابه مورو، وهو يخلع قفازه بنبرة هادئة:
"غرفتان، لليلة واحدة."
قطّب الرجل حاجبيه، وشرع يحكّ ذقنه المُبعثرة كأنما يُحضّر لخطبة اقتصادية، ثم قال:
"غرفتان؟ هذا يعني سريرين، بطانيتين، شمعتين، وربّما زبونين يستهلكان الهواء والماء! لا بدّ أن أفرض السعر مضاعفًا."
قال مورو بتعجّب:
"لمَ ذلك؟ ألا تكفي قيمة الغرفتين؟"
أجابه الرجل وقد اتّسعت ابتسامته بشيءٍ من الخبث:
"اليوم ليلة بدر يا فتى، والنُزل يطلّ على القمر مباشرةً. تلك إضاءةٌ طبيعية رومانسية! خدمةٌ لا تُقدّر بثمن... لكنها تُحسب."
تنهّد مورو عميقًا، وأخرج من حزامه بعض القطع النقدية، فوضعها على الطاولة دون أن ينبس ببنت شفة.
تقدّم صاحب النُزل وعدّها واحدة تلو الأخرى، ثم قال وهو يضغط على كُرشه بيده:
"ينقصها القليل."
رفع مورو حاجبه، وقال بنبرة خافتة فيها شيء من الضيق:
"ما الذي ينقصها؟"
ردّ الرجل، وقد اتّسعت ابتسامته أكثر:
"ضريبة الاستقبال، وضريبة المفاجأة، وضريبة استخدام الأرضية."
"استخدام الأرضية؟!" قال مورو وقد كاد أن يفقد صبره.
"أجل، قدماك تسيران فوق خشبيتي المقدّسة، ولا بد من تعويضٍ عن الاستهلاك!" ثم همس، "ولا تنسَ ضريبة الضيق النفسي، أبدو متوتّرًا منذ دخلت."
ظلّ مورو صامتًا لبرهة، ثم نظر إلى السقف، وفكّر ساخرًا:
"يا لَسخافة ما أواجه! هل انتهى بي المطاف إلى التفاوض مع كرْشٍ ناطق؟ أيّ قدر هذا؟! لو كنت نائمًا على كومة من التبن في زريبة، لكان الأمر أرحم."
ثم قال ببرود:
"اسمع، هذه النقود كلّ ما أملك. إن أعجبتك، فأعطني غرفتين، وإن لم تُعجبك، فسأبيت على عتبة بابك، وأُفسد عليك الليل بالشخير!"
صمت الرجل للحظة، ثم أطلق ضحكة خشنة، وقال:
"لك طريقة مميزة في الإقناع... حسنًا، خذ المفتاحين، الدرج من هناك، لكن إياك والدرجة الرابعة... أحيانًا تُقرر أن تنهار."
تناول مورو المفتاحين بيدٍ ثابتة، وبدأ بالخروج و التوجه الي المجموعة، وهو يتمتم في سرّه:
"ما أصعب أن يُضطر المرء لقتال البخل بشجاعة المحاربين! حقًا... هذا النُزل ليس مسكونًا بالأشباح، بل بالطمع ذاته!"
-------