كان الرماد هو الجليد هنا. يتساقط بلطفٍ قاتل، يغطي أنقاض مدينةٍ كانت يومًا تُسمى "كاثيريس". لم تكن السماء سوى سقفٍ من دخانٍ أسود دائم، تمزقه بين الحين والآخر صرخاتٌ ليست بشرية. الهواء ثقيلٌ برائحة اليأس، وهي رائحةٌ حامضةٌ كاللحم الفاسد الممزوج بمسكٍ فاسدٍ آخر.

لم يعد هناك بشرٌ هنا، فقط "الباقون". كائناتٌ تتحرك بأجسادها لكن عقولها ماتت منذ زمن. كانوا يتجولون بين الأنقاض، تائهين في دوامةٍ من ذكرياتٍ لم يعودوا يفهمونها.

المشهد الافتتاحي:

جلس "إلريك" تحت جذع عمود مكسور، يحاول بإصبعٍ مرتجف أن يرسم وجه ابنته على الأرض المتشققة. لكن الرماد كان يمحو الرسم بمجرد اكتماله. كانت هذه لعبتهم اليومية. هو يرسم والرماد يمحو. منذ سبع سنوات وهكذا.

ثم سمع الصوت.

لم يكن كصرخات الوحوش، ولا كأنين الرياح. كان صوتًا معدنيًا ثقيلاً، منتظماً... كأنه تنفسٌ ميكانيكيٌ لعملاقٍ من حديد.

رفع إلريك رأسه. هناك، في نهاية الشارع الرئيسي، حيث تتجمع الظلال حتى في منتصف النهار الوهمي، وقف شخصٌ.

لم يكن يعرف من أين جاء. لم يدخل من أي اتجاه. كان ببساطة... موجودًا فجأة.

كان طوله يتجاوز السبعة أقدام، مغطىً من رأسه إلى أخمص قدميه بدرعٍ من مادةٍ غريبة. لم تكن معدنية بالمعنى المعروف، بل كانت تشبه حجر الأوبسيديان الأسود المصقول، لكنها تنبض من الداخل بشرايينَ من نورٍ قرمزيٍ خافت، كأن قلبًا من نارٍ ينبض داخل الحجر. الخوذة كانت خالية من أي فتحات أو زخارف، ناعمة ومخيفة في آنٍ واحد. من على كتفيه الأيمن، تدفق عباءةٌ ممزقة من نفس الظلام الذي يتكون منه الدرع، تتحرك وكأن لها إرادتها الخاصة.

على ظهره، حمَل سيفًا غريبًا. لم تكن له حدائد تقليدية، بل كان شفرةً مستقيمةً من فراغٍ أسودَ أعمق من ظلام الليل، يبدو أنه يمتص الضوء والصوت من حوله.

كان هذا هو فاليران.

تقدم فاليران بخطواتٍ ثقيلةٍ ومتزنة، كل خطوة تصدر صوتًا معدنيًا على الأرض يصم الآذان في صمت المدينة المشؤوم. لم يلتفت لليمين أو لليسار، لم يبدُ أنه يلاحظ "الباقين" الذين توقفوا عن حركتهم ليشاهدوه، والرعب في عيونهم.

لكن إلريك شعر بشيءٍ مختلف. لم يكن رعبًا. كان... فضولًا غريبًا. للمرة الأولى منذ سنوات، توقف عن محاولة رسم ابنته.

ثم ظهرت هم.

خرجت من الظلال بين المباني، من تحت الأنقاض، حتى سقطت من السماء كقطرات مطرٍ حية. كانت مخلوقاتٌ طويلةً وهزيلة، بجلدٍ أشبه بالظل السائل، وعيونٍ بيضاءَ بدون بؤبؤ. أفواهها المفتوحة تصدر ذلك الصوت... صوت مصٍّ للطاقة، للضوء، للحياة. كانوا "مصاصي الظل"، الكائنات التي أنهت كاثيريس.

تقدموا نحو فاليران بأعدادٍ كبيرة، يزيدون عن المائة. كان همسهم يصم الآذان، صوتٌ يجعل العظام ترتعش.

لم يبطئ فاليران خطوه. لم يغير اتجاهه. استمر في مسيره وكأنهم غير موجودين.

أول مصاص ظل قفز تجاهه، ممدًا يديه الطويلتين ليمسك بالدرع.

لم يكن هناك صوت ضربة. فقط... اختفاء.

المخلوق تبخر عند ملامسته للدرع، تحول إلى دخانٍ أسودَ تمتصه شرايين النور القرمزي في الأوبسيديان.

توقف الهمس.

تقدم الآخرون بحذرٍ هذه المرة، محيطين به من كل الجهات.

رفع فاليران يده اليمنى ببطء، وأمسك بمقبس السيف "فورغوتن" على ظهره.

في اللحظة التي لمست فيها أصابعه المعدنية المقبس، صمت العالم.

كل الأصوات توقفت. حتى رياح كاثيريس المتعبة توقفت عن الهبوب. الرماد توقف عن السقوط في دائرة نصف قطرها مائة يارد حوله.

ثم سحب السيف.

لم يكن هناك صفعة فولاذ، ولا وميض ضوء. كان هناك... صمت. صمتٌ أكثر عمقًا من أي صوت سمعوه من قبل. سمعوا غياب الصوت.

السيف كان شفرةً من العدم. نظروا إليه وشعروا بأن جزءًا من عقولهم يُمسح، ذكريات طفولتهم تتلاشى لثانية ثم تعود.

ثم بدأ فاليران يتحرك.

لم تكن رقصة قتال، ولا فنون قتالية. كان كالقاطع الذي يفصل الصورة من الواقع. كل حركة له كانت تمحو مصاص ظل من الوجود. لا دماء، لا صراخ، لا غبار. كانوا يختفون ببساطة، وكأنهم لم يكونوا موجودين أبدًا.

في أقل من دقيقة، كان الشارع خاليًا. لم يعد هناك أي أثر للمخلوقات. حتى رائحتهم الكريهة اختفت.

أعاد فاليران السيف إلى غمده على ظهره. وعادت الأصوات إلى العالم. عادت الرياح تهب، والرماد يتساقط.

تقدم نحو إلريك، الذي كان يرتجف تحت العمود المكسور.

توقف فاليران أمامه. الخوذة السوداء الخالية من الملامح تتجه نحوه. ثم حدث شيء غريب.

تحدث صوتٌ من داخل الخوذة. لم يكن صوتًا بشريًا، ولا صوتًا آلية. كان كصدىٍ يأتي من قاع الكون.

"أين... المركز؟"

كانت الكلمات ثقيلةً كالجبال، كل كلمة تشعر إلريك وكأنها تضغط على جمجمته.

ارتعش إلريك، ثم أشار بإصبعه المرتجف نحو مركز المدينة، حيث كانت المكتبة الكبرى تقع يومًا.

لم يقل فاليران "شكرًا". لم يهز برأسه. استدار ببساطة ومشى في الاتجاه المشار إليه، تاركًا إلريك وحيدًا مرة أخرى.

لكن شيئًا ما تغير. النظر إلى عيني فاليران - أو غياب العيون - جعله يتذكر. تذكر وجه ابنته بوضوح، لأول مرة منذ سنوات.

بينما كان الظل الأسود يبتعد في شارع الرماد، همس إلريك لكائن الليل:

"من أنت؟"

لم يلتفت فاليران، لكن الكلمات وصلت إلى إلريك واضحةً كالجرس:

"أنا... ليس مهمًا. أنا مجرد ضرورة."

واستمر في مسيره، تاركًا أول بصمةٍ له في عالمٍ كان يعتقد أنه نسي معنى الأمل.

2025/10/26 · 3 مشاهدة · 763 كلمة
جايرو
نادي الروايات - 2025