بعد ثلاثة أشهر
كان لوبر يركض كالريح، جسده يلمع كشهاب في الظلام
اضطر تشانغ يونغ إلى الدفع بقوة تشي الموت في ساقيه لمجاراة سرعته
الأرض المتجمدة تحت أقدامهم تصدعت مع كل خطوة، وكأنها تئن تحت وطأة وجودهم
بعد دقائق من الركض السريع، ظهرت أمامهم غابةٌ من الأشجار الميتة.
جذوعها السوداء الملتوية تشبه عظاماً عملاقة مغروسة في الجليد، أغصانها العارية تمتد نحو السماء كأصابع متشنجة
الضباب هنا كان أكثر كثافة، والهواء مشبعاً برائحة التعفن القديم.
"غابة الأشجار الميتة." لوبر توقف فجأة، عيناه الذهبيتان تتفحصان الظلام بين الجذوع. "هنا تعيش أرواح أولئك الذين خانوا ذويهم في الحياة. احذر، فهم يحبون اللعب مع الزوار."
"هاه ، هذا المكان يبدو...غريبا ، لما أشعر بحضور خفيف لقانون الفراغ؟"لم يستطع تشانغ يونغ إلا أن يفتش حوله في حيرة
"لأن هذه الأشجار ليست مجرد أشجار،" قال لوبر، عيناه الذهبيتان تضيئان في الظلام"بعض هذه الأشجار هي بوابات ، و أنصحك أن لا تدخل إحداها ، لأنها في الأغلب تؤدي الى نيفلهايم ، عالم الجليد ، وهو طريق بلا عودة"
تشانغ يونغ حدّق في لوبر، عيناه تضيئان بفضول حذر. "إذن... كيف نعبر دون أن نُجر إلى نيفلهايم؟"
لوبر لفّ شعره الأبيض حول إصبعه بلا مبالاة. "ببساطة، لا تلمس أي شجرة، ولا تتبع أي صوتٍ يناديك." ابتسم ببرود، لكن عينيه حملتا تحذيراً قاتماً. "الأرواح هنا ستُحاول خداعك، ستتخذ أشكال أحبائك، أو أعدائك أو حتى نفسك."
بدأ الاثنان بالسير بحذر بين الجذوع السوداء. كل خطوة كانت تُحدث صدعاً خفيفاً في الجليد الأسود تحت أقدامهم، كما لو أن الأرض نفسها تراقبهم
فجأة، سمع تشانغ يونغ همسةً خلفه
"تشانغ...يونغ"
التفت بسرعة. هناك، بين الأشجار، وقف سو مينغ بملابس ممزقة، دماءٌ سوداء تسيل من جرح
عيناه —اللتان كانتا دائماً مليئتين بالحياة—بدتا الآن فارغتين، تشعان بلونٍ أشبه بالصدأ
"وهم واقعي للغاية..." همس، قبضته كانت تشتد ، و لكن مع معرفة أن هذا مجرد وهم ، فقد تقدم للأمام
لوبر وضع يداً على كتفه. "مهمن كان من رأيت ، فهو مجرد شبح جائع."
أماء تشانغ يونغ برأسه و تقدم للأمام"أهناك شخص يظهر بالنسبة لك؟"
"لا داعي لتقلق علي ، مستوى روحي مرتفع ليتأثر بسرعة"لوبر ضحك، لكن ضحكته هذه المرة كانت خالية من المرح المعتاد
لم يستطع تشانغ يونغ إلا أن يسأل"مالذي تقصده بمستوى روحك؟"
نظر لوبر إليه باستغراب"ألا تعلم؟ هناك خمس مستويات للروح ، هناك الروح العادية ، و هي تلك الأذرع التي تخرج من الأرض ، ثم هناك الأرواح البدائية ، و هو مستوى تلك الأرواح الهائمة ، ثم هناك الأرواح المقفرة ، و هي نفس مستوى العملاق الذي قابلته ، أنا تقريبا في نفس ذلك المستوى كذلك ، ثم هناك الأرواح الملكية ، ثم أخيرا الأرواح المقدسة ، هذا المكان ، هيلهايم هو أفضل مكان لتدريب الروح عن طريق قتل الأرواح الأخرى او امتصاص الهالة المحيطة بدرجة كافية"
تشانغ يونغ حدّق في لوبر، عيناه تتسعان قليلاً. "إذن... كلما قتلت أرواحاً هنا، كلما تعززت روحي؟"
لوبر ضحك، شعره الأبيض يهتز مع حركة رأسه. "بالضبط! لكن لا تفرح كثيراً، فالأرواح هنا ليست سهلة مثل تلك التي قابلتها في السهل , الأرواح بالمستوى الملكي هي بحجم نيدهوغ ،و لا تقلق من الأرواح المقدسة ، في هذا العالم بأكمله ، توجد واحدة فقط و هي الحاكمة هيل بحد ذاتها"
"هكذا إذا"نظر تشانغ يونغ بعيدا و لكنه لم يستطع إيقاف الأصوات التي مازال يسمعها
استمرا في السير، لكن الأصوات لم تتوقف:
"سيد آشورا! أنقذنا!"كانت تلك أصوات رجاله، الذين انفجروا بسبب السماء الجهنمية
مع ذلك أغمض تشانغ يونغ عينيه و مشا للأمام ، لقد وعد نفسه بأنه ان كان في سبيل النجاح ، سيستعمل أي طريقة بدون ندم
"أنت فاشل... لم تنقذ أحداً."تانغ سان ، بجسدٍ محطم من نصفه الأسفل.
"لا تتخلى عنا"ظهر شكل وو روشيان بين الأشجار بينما كان هناك وتد مغروز في القلب
"كل شيء هو بسببك"ظهر تاتسومي من تحت الأرض ، بعيون مليئة بالغضب و الإنتقام
كل خطوة جلبت شخصا ما من ذاكرة تشانغ يونغ لكنه أغمض عينيه للحظة ، حتى لو سمع ، فلن يتحرك من مكانه
بعد ثلاثة أشهر وسط تلك الغابة ، بينما لم يكن هناك أدنى أثر للجوع ، كان يتطلب الأمر الصبر أكثر من أي شيء
وصلوا أخيراً إلى حافة الغابة ، أمامهم امتدّ شاطئ الظلال ، حيث رمال سوداء دائمة التحرك، كأنها مكونة من ذرات ظلام سائلة
"الجزء السهل انتهى." لوبر تنفّس بعمق. "هنا، الرمال ستُحاول ابتلاعنا. إذا غرزت قدمك فيها، ستسحبك إلى الأسفل إلى الأبد."
تشانغ يونغ حدّق في الرمال المتحركة، ثم نظر إلى لوبر. "هل لديك خطة أفضل من مجرد الركض؟"
أشار إلى الأفق حيث كانت الرمال السوداء تموج وكأنها حية. "الطريقة الوحيدة لعبور شاطئ الظلال هي ألا تلمس الرمال أبداً. لحسن الحظ، الأمر بسيط ، علينا القفز في الهواء"
نظر تشانغ يونغ الى لوبر كما لو كان معتوها"هل تمزح معي الآن؟"
لوبر ضحك بضحكة عالية المعتادة، شعره الأبيض يتطاير في الهواء الراكد. "أبداً! ربما لو كان في مكان آخر لكان صعبا ، فقط ركز تشي الموت في قدميك واقفز ، ثم سأرشدك لما يجب أن تفعله تاليا"
تشانغ يونغ تردد للحظة، ثم أغمض عينيه. شعر بتشي الموت يتدفق عبر جسده الروحي، مركزاً في أسفل قدميه ثم قفز ، بدون ثقة كان أطلق أجنحة العنقاء للهبوط البطيء
"حسنا حسنا ، تسك ، أنا أغار من الأجنحة ، و لكن ينقصك عنصر لإضافته لجعلها حقا أجنحة تسمح لك بالطيران ، على الأقل ستطير في هذا المكان ، ركز جيدا ، المكان مليء بتشي الموت أليس كذلك؟"
أومأ تشانغ يونغ بهدوء"أجل المكان مفعم به"
ابتسم لوبر بهدوء"الآن ، كما تتحكم بالطاقة الروحية ، لا تتحكم بوزنك كله ، و لكن تحكم بالمنطقة أسفل قدميك ، ينبغي أن تستطيع هذا القدر ، و تماما كما تصبح الطاقة الروحية صلبة عندما تريد ، تحكم بتشي الموت تحت قدمك لتنشأ منصة لك و اقفز ثانية"
تشانغ يونغ أغمض عينيه، محاولاً التركيز على تشي الموت تحت قدميه
شعر بالطاقة السوداء الكثيفة تتجمع، ثم ببطء بدأ يشعر كما لو أنه يقف على سطح صلب لكن عندما فتح عينيه فقد ذلك الشعور بالصلابة - لم يستطع المحافظة عليها لوقت طويل
"جيد جداً!" صاح لوبر وهو يصفق"لقد تمكنت منها ، هذه القدرة على التحكم بهذا القدر ممكنة فقط في منطقة غنية بتشي الموت أشبه بهذا المكان"
أماء تشانغ يونغ و أعاد التركيز ، ثم قفز تشانغ يونغ وهذه المرة شعر بالفرق
تشي الموت تحت قدميه دفع به للأعلى، وكأنه يقفز على منصة غير مرئية ، قبل أن يهبط، شكل منصة أخرى، وهكذا بدأ يتحرك فوق الرمال السوداء كالريح
لوبر ضحك وهو يتبعه بسهولة، خطواته الخفيفة لا تلمس الرمال أبداً. "أرأيت؟ الأمر بسيط! فقط لا تتوقف او تفقد التركيز وإلا..."
صرخة مفاجئة قطعت كلماته. من بين الرمال، انبثقت أيدي سوداء نحيلة، تحاول الإمساك بقدم تشانغ يونغ. أحدها كاد يلمس كعبه، لكنه قفز في اللحظة الأخيرة.
أسرع!" لوبر بدا جاداً للمرة الأولى منذ بداية الرحلة. "الرمال ستحاول ابتلاعنا!"
زاد تشانغ يونغ سرعته، قفزاته أصبحت أسرع وأبعد. الرمال تحته كانت تموج كحيوان جائع، الأيدي السوداء تظهر وتختفي بسرعة مخيفة.
بعد شهر من القفز المستمر ، حتى مع التحكم فقط بتشي الموت الذي كان موجودا خارج جسده و لم ينتمي له ، كانت حالته الذهنية متعبة من القفز المتواصل
قفزاته أصبحت أقل ارتفاعاً، لوبر لاحظ ذلك، وعيناه الذهبيتان تضيئان بالقلق.
"لا تستسلم الآن!" صاح وهو يقترب منه. "نحن قريبون، فقط شهر آخر و سوف نصل!"
لكن تشانغ يونغ كان قد وصل إلى حدّه. جسده الروحي بدأ يهتز، كشعلة على وشك الانطفاء. الأيدي السوداء من الرمال استشعرت ضعفه، فانقضت بأعداد أكبر، كأمواج من الحشرات الجائعة
"لوبر!"زمجر تشانغ يونغ، عيناه الزرقاوان تشتعلان بإرادة أخيرة"إذا لم تفعل شيئاً الآن، فسوف يسحبونني!"
لوبر، الذي كان يطفو برشاقة كالريشة فوق الرمال، توقف فجأة. ابتسامته الواسعة تلاشت، وحل محلها تعبير جاد نادر"تسك، أنت متعب جداً. حسناً، سأحملُك."
قبل أن يتمكن تشانغ يونغ من الاعتراض، انقض لوبر نحوه بسرعة البرق، وأمسكه من خصره كالقطّة التي تحمل جراءها"تمسك جيداً!"
ثم، كالسهم المنطلق، انطلق لوبر فوق الرمال، سرعته تضاعفت عشرات المرات، الرمال تحتهما غلت كالماء المغلي، والأيدي السوداء تمططت محاولة اللحاق بهما، لكنها فشلت.
بعد أسابيع من الركض المتواصل، بدأت الرمال السوداء تختفي، وحل محلها نهرٌ عريض من مياه سوداء ثقيلة، كالزيت المتدفق ببطء.
على الجانب، امتد جسرٌ عظمي هش، يبدو وكأنه مصنوع من عظام كائنات عملاقة
"نهر جول وجسر جولاربرو!"أعلن لوبر وهو يضع تشانغ يونغ على الأرض."هنا حيث نكاد نصل الى وجهتنا حيث البوابة ، الأموات يأتون من الجانب الآخر الى هنا ، لذلك وجهتنا هي الذهاب في الإتجاه المعاكس ، ثم التعامل مع غارم و في النهاية يمكنك العبور الى البوابة"
لوبر خطا أول خطوة على الجسر العظمي، وصوت طقطقة حاد دوّى تحته
تشانغ يونغ تبعه بحذر، عيناه تتحركان على طول النهر الأسود المظلم، حيث أشكال باهتة لأجساد غارقة كانت تنجرف ببطء تحت السطح، بعضها يرفع رأسه نحوهم بعينين فارغتين قبل أن يختفي مجدداً في القاع.
و في الطريق كان هناك عدد من الأرواح التي تعبر الجسر بجانبهم في الإتجاه المعاكس ، و لكنهم لم يهتموا بهما
تقدما للأمام لكن فجأة، ارتجّ الجسر برمّته، وصوت عميق كزمجرة وحش انطلق من الضفة الأخرى
من بين الضباب، ظهرت هيئة طويلة القامة، درعها أسود مائل إلى الرمادي كأنه صُنع من ظل متحجّر، ووجهها مخفي خلف خوذة ذات قرون منحنية
كانت تحمل رمحاً طويلاً يلمع بوميض بارد، وعيناها الحمراوان اخترقتا الظلام
"من يجرؤ على عبور جولاربرو دون إذني؟" جاء الصوت حاداً، لكنه كان يحمل صدى غريباً كأنه آتٍ من أعماق كهف قديم.
لوبر أمال رأسه، ابتسامته المعتادة عادت ببطء. "مودغود، حارسة الجسر. لم أتوقع أن نلتقي بهذه السرعة."
تشانغ يونغ أنشأ سيفا مظلما في يده بسرعة، وهو يهمس: "هذه ليست روحاً عادية، أليس كذلك؟"
لوبر ألقى نظرة جانبية نحوه. "إنها حارسة جولاربرو منذ آلاف السنين، ربما لن نواجه مشاكل جمة منذ أنك مازلت مرتبطا بعالم الأحياء"
مودغود تقدمت خطوة، والرمح في يدها يقطر هالة قاتلة باردة كجليد نيفلهايم. حتى العظام تحت أقدامهم أصدرت صريراً ثقيلاً، وكأنها تحذرهم من خطوتها.
"لوبر…" قالت باسمه ببطء، وكأنها تتذوق الحروف، "ما الذي يجعلك تجرؤ على جلب روح غريبة إلى أرض الموتى؟"
لوبر رفع حاجبه، يضع يده على خصره وكأن الموقف لم يكن مهدداً إطلاقاً. "أوه، لا داعي للدراما. نحن لا نأتي للعبث، فقط نحتاج العبور… في الاتجاه الآخر، كما تعلمين، صديقي هنا مازال حيا و على الأغلب مازال لديه الكثير في الحياة ، مازال لم يعش ما قدر له"
"الاتجاه الآخر" أعادت مودغود كلماته بصوت منخفض، ثم انحنت قليلاً للأمام، وعيناها الحمراوان تتوهجان أكثر. "هذا يعني أنك تنوي تحدي غارم قبل الوصول إلى البوابة"
لوبر أطلق صفيراً قصيراً، وكأنه يعلّق على نكتة داخلية يعرفها وحده. "بالطبع، غارم موجود دائماً حيث يفترض أن يكون. لكنني أظن أنكِ لن تمنعينا من المرور لمجرد ذلك… أليس كذلك يا مودغود؟" ثم أضاف غمزة
الحارسة لم تتحرك، لكن قبضتها على رمحها اشتدت، وصوت احتكاك المعدن بالعظم دوّى خافتاً. "العبور عبر جولاربرو ليس قراراً تتخذه أنت، يا ابن الساحرة، الطريق الذي تطلبه يقطع على خط حياةٍ لم يُكتب له الانكسار بعد وهذا يثير فضولي."
رفع لوبر يده و أطبقها و جعلها تتحرك كالفم"بلا بلا بلا ، لا داعي لكل الرسميات ، نحن سنمر"ثم امسك بيد تشانغ يونغ و سحبه معه
حدقت في لوبر لثوانٍ طويلة، عيناها الحمراوان تبحثان في ملامحه كما لو كانت تزن قرارات ألف عام. ثم، ببطء، خفَّت قبضتها على الرمح، وأزاحته إلى جانبها.
"أنت… كما كنت دائماً، يا ابن…." نبرة صوتها كانت حذرة، كأنها تمشي على خط فاصل بين الاحترام والتحذير ، ثم التفتت نحو تشانغ يونغ، وعيناها تلمعان بفضول قاتم. "أما أنت....يا لك من كارثة ، كل تلك الكارما الكارثية ، انت لست محظوظا على الإطلاق"
تشانغ يونغ لم يرد، لكنه شدّ قبضته على سيفه المظلم، حواسه كلها في حالة تأهب.
مودغود أغمضت عينيها للحظة، ثم فتحتها من جديد، وصوتها أصبح أكثر عمقاً، وكأنه يخرج من قلب الجسر نفسه"يا لها من مهزلة ، سأكون متعاطفة لمرة واحدة"
مودغود جانباً ببطء، وحركت رمحها لتفتح لهما ممرًا ضيقًا على الجسر العظمي، دون أن تزيح عينيها عن تشانغ يونغ
كانت نظرتها ثابتة، تحمل شيئًا بين التحذير والشفقة، كما لو كانت ترى فيه نهايته قبل أن يخطوها.
بعد بضع خطوات، عندما صار الضباب خلفهما، قال لوبر وكأنه يتحدث عن أمر عابر"لا تدعها تربكك. مودغود تحب التلاعب بالكلمات أكثر من القتال."
لكن تشانغ يونغ لمح في عينيه بريقًا خافتًا، وكأن لوبر يعلم أن الحارسة لم تقل ما قالت عبثًا.
أمامهما، بدأت الضفة الأخرى للجسر تتضح أكثر: أرضٌ مكسوة بالثلج الرمادي، وفي الأفق البعيد تلوح أطراف أعمدة حجرية سوداء شاهقة ، بدت كما لو كانت مغروزة في شقوق على الأرض ، و التي كانت مرتبطة بكهوف
تشانغ يونغ لاحظ أن الضباب هنا أثقل، وأن الصوت بدا مكتومًا، حتى وقع خطواتهما كان يتلاشى بسرعة غريبة
"أهذا هو المكان الذي سنجد فيه غارم؟" سأل بنبرة حذرة
لوبر أومأ، لكن ابتسامته هذه المرة كانت باهتة، بلا أي أثر لسخريته المعتادة. "غارم لا يختبئ. إن كان مستيقظًا، ستراه قبل أن تسمعه."
ثم ألقى نظرة خاطفة إلى الخلف نحو الجسر، وكأنه يتأكد أن مودغود ما زالت تقف هناك.
كانت الحارسة تراقبهما من بعيد، الرمح بيدها، لكن لم تحاول اللحاق بهما، عيناها الحمراوان بقيتا معلقتين على لوبر للحظة أطول، قبل أن تستدير وتختفي في الضباب
كلما اقتربا، بدأت الأصوات تتسرب من الظلام: دقات قلب بطيئة، أنفاس ثقيلة، وصوت حفيف معدني كما لو أن سلاسل هائلة تتحرك على صخر.
تشانغ يونغ شعر بقشعريرة تتسلل إلى عمق روحه. "هذا الصوت…"
ثم أدار لوبر رأسه نحو تشانغ يونغ، وابتسامته عادت أخيرًا، تلك الابتسامة التي تحمل شيئًا من التحدي.
"حسنًا، صديقي، هل أنت مستعد لمواجهة كلب هيل الشخصي؟"
لكن قبل أن يجيبه، اهتزت الأرض تحت أقدامهما، و من الظلام، خرجت عينان بحجم دروع الجنود، تتوهجان بلون أحمر قاتم، يرافقهما هدير طويل جعلهما يرتجفان
من بين الضباب ، ظهرت قوائم أرجل ، أشبه بأرجل الكلاب او الذئاب ، و كانت مقيدة بقيود ، بسلاسل حديدية
العيون الجمرية الضخمة انخفضت إلى مستوى الأرض، وصوت النبض العميق تزايد حتى صار أشبه بقرع طبول الجحيم. ومن قلب الضباب، ظهر ، غارم، الكلب الحارس لهيلهايم
كان حجمه كجبل صغير، فراؤه أشبه بالليل الممزق، يتخلله تشققات حمراء متوهجة كحممٍ مقيّدة. من فمه الضخم تقطر لعاب أسود كالحِمض، وكل نفس يخرجه كان يبعثر ضباب هيلهايم كعاصفة
عند عنقه كانت سلاسل ضخمة صدئة، تغوص أطرافها في الصخر من حوله، تتحرك وتجرّ الأرض نفسها حين يزفر
"أتمزح معي؟! هذا الشيء هو كلب؟ حتى سيربيروس لا يضاهيه"
ضحك لوبر بخفة، ضحكة قصيرة لكنها حادة وسط الهدير والضباب. "غارم ليس مجرد كلب، إنه حارس البوابة، سلاسل مصيره مرتبطة بمصير هيلهايم نفسه."
اقترب الوحش، كل خطوة له جعلت الأرض تنشق وتتهشم، وأعمدة من الضباب الأسود اندفعت إلى الأعلى
السلاسل الضخمة التي تكبّله كانت تصدر صريراً أشبه ببكاء المعدن العتيق، ومع كل حركة بدا وكأنها على وشك الانفجار والتحرر
'أحيانا أنسى قوة المخلوقات في الميثولوجيا'
تشانغ يونغ رفع سيفه المظلم، عيناه تشعّان بحدة، لكنه شعر بثقل غير طبيعي يجثم على صدره. مجرد النظر في عيني غارم كان كافياً ليشعر أن روحه تنضغط
غارم رفع رأسه الضخم، وزأر زئيراً اخترق السماء الرمادية
الزئير كان أشبه بإعصارٍ من الظلال، دفع الضباب بعيداً وأرسل موجة صادمة جعلت الأرض وراءهما تتصدع الأموات الذين كانوا يسيرون من الخارج و الموتى حديثا تحوّلوا إلى غبار أسود وتناثروا في الهواء.
تشانغ يونغ بصق على الأرض، يحاول أن يثبّت روحه في مكانها. "آخر خطوة قبل العودة الى الحياة ، لن أتراجع عنها!"
خلف الكلب غارم ، امتد قوس كبير ضخم ، تشع بضوء لؤلؤي جميل ، كانت هذه بوابة هيلهايم ، التي تربط بين عالم الأحياء و الأموات
غارم زمجر مرة أخرى، وهذه المرة بدأت السلاسل التي تقيده تتصدع، كأن وجودهما هنا أطلق شيئاً كان مكبوتاً منذ زمن سحيق.
لوبر لف شعره الأبيض حول أصابعه بقلق غير معتاد. "هذا ليس جيداً... يبدو أن غارم لم يكن بهذه العدائية منذ ألف عام."
"هل تقول أننا محظوظون؟" سخر تشانغ يونغ بينما كان يعدل قبضته على سيفه المظلم.
"أكثر مما تظن!" لوبر قفز فجأة إلى الوراء عندما أطلق غارم زوبعة من النار السوداء من فمه. الأرض حيث كان يقف قبل ثانية تحولت إلى حفرة من الحمم المتوهجة.
تشانغ يونغ استدار بسرعة، أجنحة العنقاء تنبثق من ظهره لتجنب هجوم آخر. "أي خطة؟"
"فقط تأكد ألا تموت"
قبل أن يتمكن تشانغ يونغ من الرد، انطلق لوبر كالبرق، جسده يلمع بضوء أزرق شاحب ، غارم التفت نحوه بسرعة مذهلة لكائن بهذا الحجم، لكن لوبر كان أسرع - قفز فوق الرأس الضخم وكأنه يرقص على الريح.
"الآن!" صرخ وهو يشير إلى البوابة
تشانغ يونغ لم يضيع الوقت. اندفع للأمام، سيفه يشق طريقاً في الهواء الكثيف. لكن غارم لم يكن ليخدع بهذه السهولة ،ذيله الضخم ضرب الأرض بقوة، مسبباً زلزالاً صغيراً جعل تشانغ يونغ يفقد توازنه
الوحش التفت بسرعة مذهلة، عيناه الحمراوان تتوهجان بالغضب. فتح فمه الواسع، وفي داخله بدا وكأنه نفق يؤدي إلى الظلام الأبدي نفسه.
"انتبه!" لوبر صرخ، لكنه كان بعيداً جداً.
في اللحظة الأخيرة، أدرك تشانغ يونغ أنه لن يتمكن من تفادي الهجوم. بدلاً من ذلك، جمع كل تشي الموت الذي يمكنه حشده في سيفه وضرب مباشرة في عين غارم اليسرى.
الوحش عوى بصوت مزق الضباب نفسه، وتراجع خطوتين ضخمتين، لكن هذه الضربة كانت أشبه بالوخزة بالنسبة له
لوبر استغل الفرصة، وقفز فوق ظهر غارم الضخم، يداه تشعان بضوء أزرق غامق. "هذا سيجعله غاضباً حقاً!" صرخ وهو يغرس يديه في فراء الوحش.
فجأة، ارتجف جسد غارم بأكمله، والسلاسل التي تقيده بدأت تهتز بعنف. الأرض حولهم انشقت، وشقوق زرقاء متوهجة ظهرت في الأرض، وكأنها تستعد لابتلاعهم.
"ماذا فعلت؟!" صرخ تشانغ يونغ وهو يحاول الحفاظ على توازنه.
لوبر ابتسم ذلك الابتسام المجنون الذي يعرفه تشانغ يونغ جيداً. "فقط أطلقت بعضاً من طاقتي القديمة في جسده! هذا سيعطينا بضع دقائق إضافية!"
غارم هز رأسه بعنف، محاولاً التخلص من لوبر، لكن الضرر كان قد وقع، بدأ جسده العملاق يرتجف
تشانغ يونغ لم يضيع الوقت. أطلق أجنحة العنقاء وانطلق نحو بوابة هيلهايم لكن غارم - حتى وهو يعاني - اختفى كما لو انتقل عبر الفراغ محاولاً سحق تشانغ يونغ في منتصف الهواء.
شعر تشانغ يونغ بضغط هائل في الهواء، وكأن الفراغ نفسه انكمش حوله، ثم، فجأة، ظهر الوحش العملاق فوقه مباشرةً، كتلة من الظلام واللهب الأسود تنقض بسرعة
غارم هبط بقوة، مخالبه الضخمة تشق الهواء بشراسة. تشانغ يونغ لم يكن لديه وقت للتفادي
طاخ!
أجنحة العنقاء انحنت تحت الضغط، وكادت تنكسر، لكنها صمدت في اللحظة الأخيرة، مبطئةً من سقوطه. مع ذلك، ارتطم بالأرض بقوة، وشعر وكأن عظامه تتكسر ، ما عدا أنه كروح ، لا يملك عظاما
رفع تشانغ يونغ سيفه المظلم تحت قدم غارم محاولا دفعه بعيدا ،تشانغ يونغ كان مضغوطًا بشدة"لوبر! أين أنت أيها ال-..."
مع ذلك تحولت نظرة تشانغ يونغ الى الصدمة ، التفت تشانغ يونغ، ورأى، من خلال الضباب الكثيف، أن لوبر يقف بجانب البوابة مباشرة لكن مر ضوء أبيض حول جسده من الرأس الى القدمين
شعره الأبيض تحول إلى لون أسود لامع مع خصلات خضراء، عيناه الذهبيتان أصبحتا خضراوتين، وابتسامته الملتوية تحمل شيئًا من الخداع والمرح المظلم.
"يرجى أن تدعوني بلوكي،" قال لوبر بصوت يغلفه السحر والغموض، وهو يمد يده نحو تشانغ يونغ، "و… شيء آخر، لقد كان من السهل قيادتك الى هذه النقطة ، يا لك من بشري مغفل، لكن شكرا لك على إلهاء غارم من أجلي ، لن أفوت هذه الفرصة ، منذ أن عدت الآن...لقد حان الوقت ليغدراسيل لتغرق في الظلام"
تشانغ يونغ تجمد للحظة، قلبه يدق بسرعة، لكنه شعر بغضب غريب يتصاعد داخله. "ماذا؟! أنت… لماذا؟"
ضحك لوبر ، أو بالأحرى "لوكي" كما كان قد عرف نفسه ، ضحكة واحدة طويلة و مجنونة"أوه، لا تكن دراميا هكذا! لقد استفدت أيضاً، أليس كذلك؟ لقد أصبحت أقوى، وتعلمت كيف تتحكم بتشي الموت بشكل أفضل... وحتى لو مت هنا، فسيكون موتك جميلا ، إنه لشرف لك أن يتم خداعك من قبل حاكم الخداع نفسه ، هذا يعني أن موتك له معنى ، اللقاء يا رفيق"ثم استدار لوكي و عبر بوابة هيلهايم
أنت...!" زمجر تشانغ يونغ، وسيفه المظلم اشتعل فجأة بلهب أسود و أزرق بينما كان غارم ما يزال يضغط على جسده من الأعلى "لن أدعك تنجو بهذا!"
لكن الآن لم يكن هناك وقت للتفكير. غارم كان يزمجر فوقه، مخالبه الحادة تضغط أكثر فأكثر، وكأنها ستحطم روحه إلى أشلاء
"تبا لك أيها الكلب!"
جمع تشانغ يونغ كل ما تبقى من قوته، وتشي الموت في جسده اشتعل كعاصفة سوداء و قام بضغطه فورا و فجره مرة واحدة
انفجرت موجة من الطاقة السوداء من جسده، دافعةً غارم للخلف لبرهة. الوحش العظيم عوى بصوتٍ مزق الضباب، لكنه لم يتراجع تماماً
تشانغ يونغ استغل اللحظة، واندفع نحو بوابة هيلهايم ، و لوح بسيفه المظلمة بقوة و أرجحه "الموت لك يا لوكي!"
في تلك اللحظة كان قد عبر لوكي عبر الباب و تحول الضوء اللؤلؤي فجأة ليصبح ضوءا رماديا - لقد خسر فرصة الإحياء التي تحدث مرة كل مئة عام