.
.
.
كنتُ أراقب.
كل حواسي كانت مشدودة إلى الحفرة التي خرجت منها تلك اليد الضخمة، المليئة بالحراشف والمخالب السوداء.
كان هناك شعور غريب يغلف المكان، شعور أشبه بذبذبات ثقيلة تخترق الهواء… تخترق عظامي.
—
كان سايلوس يقف بجانبي، لكنني شعرتُ بيده تمسك بيدي بقوة، كأنه أراد حمايتي بأي طريقة ممكنة.
حركته كانت غريزية، غير واعية تقريبًا… لكنه لم يترك يدي.
—
في الجهة الأخرى، كان كايلب يقف بجانبي، لكنه لم ينظر إليّ.
عيناه كانتا مثبتتين على الحفرة المظلمة، وسلاحه مرفوعًا باتجاهها بثبات.
لكن حتى رغم ثقته المعتادة…
رأيتُ توترًا لم أره من قبل.
—
"استعدوا!" صرخ كايلب بصوت حاد. "وجهوا أسلحتكم إلى الحفرة! أي شيء يخرج من هناك… أطلقوا النار فورًا!"
—
تحرك الجنود بسرعة، مدربين بشكل مثالي.
أسلحتهم كانت موجهة نحو الظلام، أطراف أصابعهم على الزناد، ينتظرون الإشارة التالية.
—
لكن…
"لا! توقفوا!"
—
كان الصوت من أحد الكهنة، كبير في العمر، ذو شعر أبيض ولحية طويلة.
عيناه كانتا مليئتين بالهلع والخوف… والخضوع.
—
"لا تجرؤوا على رفع أسلحتكم عليه!" صرخ الكاهن بنبرة رجاء، ثم انتشر صوته بين باقي الكهنة، الذين انضموا إليه بهتافات متشابهة.
"إنه… إنه ليس كائنًا يجب تحديه! إنكم ستثيرون غضبه!"
—
"اغلق فمك." رد كايلب بحدة، دون أن يخفض سلاحه. "إذا كان هذا الشيء يريد إيذاءنا، فلن نتردد في تدميره."
—
"تدميره؟!" صاح الكاهن وكأنه قد سمع مزحة مستحيلة. "أنت لا تفهم… نحن جميعًا تحت رحمته. إذا أطلقت النار عليه… ستقضي على كل شيء!"
—
التفتُ نحو الكاهن، شعرتُ بتوتري يزداد، لكنني كنتُ بحاجة لفهم ما يحدث.
"من هو؟" سألتُ بصوت مرتعش. "لماذا تخافون منه بهذا الشكل؟"
—
لكن الكاهن لم يجبني.
بل فقط انحنى على ركبتيه، ورأسه موجه نحو الحفرة، كما لو كان يصلي لكائن أعظم.
—
الأصوات من داخل الحفرة كانت تتصاعد.
هدير غامض، عميق… كأنه صوت كائن حي يتنفس ببطء وثقل.
—
ثم…
خرج.
—
خرج بكامل جسده.
—
كان كائنًا عملاقًا.
طوله يصل إلى ارتفاع غير طبيعي، بنيته ضخمة بشكل لا يمكن تصوره.
جلده مغطى بحراشف سوداء لامعة، تنعكس عليها الأضواء المتبقية في الغرفة المقدسة.
عيناه كانتا… خاويتين.
لكنها تحملان قوة مرعبة، كأنهما تنظران من خلال الروح مباشرة.
—
خطواته كانت ثقيلة، كل خطوة تهز المكان بأكمله.
كان يتحرك ببطء، لكن كل حركة كانت كافية لجعل كل من في الغرفة يتجمد في مكانه.
—
رفعتُ بصري إليه، شعرتُ بالرهبة تتسلل إلى قلبي، رغم محاولتي الحفاظ على هدوئي.
"ما هذا بحق الجحيم…؟" تمتمتُ بصوت مرتجف.
—
لكن من أجابني لم يكن الكاهن…
ولا كايلب…
ولا حتى سايلوس.
—
بل كان رافاييل.
—
صوته كان منخفضًا، لكنه كان واضحًا بشكل مرعب.
"حارس الأقدار المقدس…"
—
عمّ الصمت بعد كلماته.
رأيتُ الجميع ينظرون إلى رافاييل، كأنهم يتوسلون إليه أن يخبرهم بشيء إضافي.
لكنه لم يكن ينظر لأحد.
عيناه كانتا مثبتتين على الكائن العملاق.
وكأنهما يتحدثان لغة خاصة لا يفهمها أحد سواهما.
—
"ما معنى هذا؟" سألتُ مجددًا، لكنني لم أتوقع إجابة.
ولم أحصل على واحدة.
لأن حارس الأقدار المقدس كان يتحرك.
وكانت نظراته تتوجه نحونا مباشرة.
—
—
لم أستطع التنفس.
لم أستطع التفكير.
—
كنتُ أشعر بطاقة غريبة تخترق الهواء، تزن على صدري، تضغط على كل جزء من جسدي.
لكنها لم تكن مجرد طاقة…
كانت رهبة.
—
نظراتي لم تفارق الكائن الذي يقف أمامنا، عملاق البنية، مغطى بحراشف سوداء لامعة كأنها صنعت من معدن غير قابل للكسر.
عيناه الخاويتان كانتا متجهتين نحوي مباشرة.
—
ثم…
زمجر.
—
صوته لم يكن مجرد صوت.
كان هديرًا يهز العالم نفسه.
كان كأنني استمعت إلى أصوات لا تنتمي إلى أي شيء أعرفه، كأنها تنبع من أعماق العالم نفسه، من الجحيم والسماء معًا.
—
ثم…
تحدث.
—
"مَنْ… تَجَاسَرَ عَلَى عَبَثِ الأَقْدَار؟"
—
كان صوته عميقًا، مجوَّفًا، كأنه قادم من فراغ لا نهائي.
تردد صدى كلماته في المكان، كأنها لم تكن مجرد كلمات، بل قوانين غير قابلة للكسر.
—
لم يُجب أحد.
حتى التنفس كان يبدو وكأنه شيء محظور.
—
نظرتُ حولي، رأيتُ الجميع مجمدين في أماكنهم، عيونهم متوسعة بالرعب.
رافاييل كان يقف امامه مباشره، جسده يتوتر بشكل لم أره من قبل.
رأيتُ كيف ابتلع ريقه، كيف خفض رأسه وكأنه يعترف بهزيمته حتى قبل أن تبدأ.
—
لكن الكائن… لم يهتم بأي احد.
كان تركيزه الكامل موجَّهًا نحوي.
أو بالأحرى…
نحو سايلوس.
—
زمجر الحارس، وصوته يتخلل عظامي. "هناك شخص كان مقدرًا له الموت. لكنه لم يُنقل إلى العالم الآخر."
—
كان صوته يحمل ثقلًا أبديًا، كأنه ينطق بحقيقة لا يمكن إنكارها.
"إنَّ أحدكم قد عبث بخطوط الأقدار. أحدكم تدخل في شؤون القدر والعالم الآخر."
—
عمّ الصمت.
—
ثم…
رأيتُ كيف تحولت نظرات الجميع نحونا.
—
كايلب كان يقف بجانبي، وجهه مليء بالحيرة وعدم الفهم.
أما رافاييل…
فقد كان يحدق بي وبي سايلوس وكأننا أصبحنا هدفًا لشيء أسوأ من الموت.
—
"ما الذي يتحدث عنه؟" تمتم كايلب، نظرته تتأرجح بيني وبين سايلوس.
—
لكنني كنت أعرف.
كنت أعرف تمامًا.
—
الذي كان مقدرًا له الموت…
هو سايلوس.
—
شعرتُ بيد سايلوس تقبض على يدي بشكل أقوى.
لكن حتى مع تلك اللمسة التي كانت دائمًا تطمئنني…
كنتُ أشعر بأنه يخفي شيئًا.
—
التفتُ إليه، عيناه الحمراوان كانتا جامدتين، حذرًا لم أره من قبل.
—
"سايلوس… ما الذي يحدث؟" همستُ له بصوت مهتز.
—
لم يجبني على الفور.
لكنني رأيتُ كيف كانت ملامحه تتصلب، كيف كان يحاول الحفاظ على هدوئه أمام الكائن الضخم الذي يحدق بنا.
—
"ما فعلتهِ، أميرتي…" همس سايلوس أخيرًا، صوته منخفض وكأنه كان يخشى أن يسمعه أحد. "عندما حاولتِ إنقاذي… لقد كسرتِ شيئًا لم يكن يجب كسره."
—
"كسرتُ ماذا؟"
—
"قوانين الأقدار."
—
شعرتُ بشيء بارد يتسلل إلى عروقي.
لكنني لم أستطع استيعاب الأمر.
—
"كل ما فعلته هو إنقاذك…"
—
"وذلك كان كافيًا لكسر التوازن."
—
كان صوته قاسيًا، لكنني رأيتُ الألم في عينيه.
الألم الذي لم يكن له علاقة بي… بل بالأفعال التي قمت بها من أجله.
—
لكن قبل أن أستطيع الرد، قبل أن أتمكن من استيعاب ما يحدث…
عاد الصوت العميق، الغاضب، ليهز الغرفة مجددًا.
—
"مَنْ تَجَاسَرَ عَلَى تَغْيِيرِ الأَقْدَار؟!"
—
الهواء كان يثقل أكثر، كأن الجاذبية نفسها كانت تتضاعف كل لحظة.
الأرض ترتجف تحت قدمي، والجدران المشققة بدت وكأنها على وشك الانهيار.
—
"سأمنحكم فرصة واحدة فقط…"
كانت عيناه الخاويتان تشتعلان بضوء لا يُوصف، كأنهما تحملان قوى لا يمكن تصورها.
"أعيدوا ما أخذتم… أو سأعيد كل شيء إلى العدم."
—
رأيتُ كيف انقلبت نظرات الجميع نحونا مجددًا.
الكهنة انحنوا أكثر وكأنهم يصلّون بقلوبهم قبل ألسنتهم.
رافاييل كان يحدق بي وبي سايلوس وكأنه وجد لغزًا جديدًا يستحق الهوس به.
أما كايلب…
كان ينظر إليّ وكأنه ينتظر مني تفسيرًا.
—
"هذا… هذا بسببكِ؟" سأل كايلب، صوته مليء بالدهشة.
—
لم أتمكن من الرد.
—
"أميرتي…" همس سايلوس مرة أخرى. "ما فعلتِه لم يكن مجرد إنقاذ. لقد اخترقتِ قوانين الطبيعة نفسها."
—
"وماذا يعني هذا؟" سألتُ بارتباك.
—
لكنه لم يجب.
لأن الإجابة لم تأتِ منه.
بل جاءت من حارس الأقدار المقدس نفسه.
—
"إذا لم تُصححوا الخطأ…" صوته أصبح أكثر عمقًا، أكثر غضبًا. "فسأمحوا كل شيء… من الوجود."
—
—
صوت حارس الأقدار المقدس كان لا يزال يتردد في رأسي، كأنه طُبع على عظامي نفسها.
"أمامكم ثمانٍ وأربعون ساعة… لتصحيح ما كسرتم… وإلا ستغرقون جميعًا في العدم."
—
تلك الكلمات الثقيلة لا تزال تحوم حولنا مثل لعنة لا مفر منها.
الحارس العملاق بدأ يتراجع إلى الوراء، خطواته الثقيلة تهز الغرفة البيضاء المقدسة.
كأن المكان كله يتنفس معه، كأنه جزء من جسده.
—
راقبناه جميعًا بصمت مرعب، حتى عاد إلى الحفرة المظلمة، ثم اختفى تدريجيًا، وكأن الحفرة ابتلعته بلا رجعة.
بمجرد أن غاب، تلاشى الثقل الغريب الذي كان يسحق المكان.
كأن الهواء عاد لينساب بحرية.
—
شعرتُ بأنني أستطيع التنفس مجددًا.
سحبتُ نفسًا عميقًا، وكأنني كنت غارقة تحت الماء طيلة الوقت.
—
"حسنًا…" تمتم كايلب وهو ينزل سلاحه ببطء، ملامحه متوترة ومشدودة. "هل يمكن لأحد أن يخبرني ماذا بحق الجحيم كان ذلك؟"
—
نظرتُ إليه، ثم إلى سايلوس الذي كان يقف بقربي، لا يزال يمسك بيدي.
عيناه الحمراوان كانتا تحدقان بي، لكنه لم يتكلم.
كأنه كان ينتظر مني أن أتحدث أولاً.
—
"كان ذلك…" ترددتُ للحظة، أجمع أفكاري. "بسبب ما فعلته لإنقاذ سايلوس."
—
كايلب رفع حاجبه بحدة، عينيه اللامعتين تزدادان حدة. "إنقاذه؟ ماذا تعنين؟"
—
تنفستُ بعمق. "عندما كنت أعتقد أنني فقدته… شعرتُ بشيء غريب، شيء استيقظ بداخلي. الماء… كان يتحرك من تلقاء نفسه وكأنه يستجيب لرغباتي، ثم بدأ في علاج جروحه… وإنقاذه من الموت."
—
"علاج جروحه؟" قال كايلب بصوت يحمل مزيجًا من عدم التصديق والغضب. "أتعلمين ما يعنيه هذا؟ لقد عبثتِ بحدود الطبيعة ذاتها! لا عجب أن ذلك الوحش ظهر مطالبًا برد ما أخذتيه."
—
"وهل تظنني نادمة؟"
—
حدقتُ في عينيه بثبات.
—
"أعلم تمامًا ما فعلت. وأعلم العواقب التي قد تحدث. لكنني لست نادمة، كايلب. لو اضطررت لفعل ذلك مجددًا، لفعلته دون تردد."
—
"تونه…" همس سايلوس، وصوته كان مختلفًا… كأن شيئًا ما بداخله تحطم وأعيد تشكيله في نفس اللحظة.
—
لكنني لم أكن قد انتهيت بعد.
—
"لو اضطررت للتضحية بالعوالم كلها من أجلك، سايلوس…" قلتها بصدق، لم أكن أعلم ما إذا كانت مشاعري حقيقية أو مجرد ارتباك ناتج عن كل هذا الفوضى. "فسأفعلها دون تفكير. لا يهمني ما يظنه العالم. ولا يهمني حتى ما سيحدث لي."
—
ساد الصمت.
حتى كايلب، الذي دائمًا ما كان يصرخ ويعترض، بقي صامتًا.
—
ثم… ضحك سايلوس.
ضحكة صغيرة، لكنني شعرتُ بصدقها.
—
"يا أميرتي…" قال بصوت يحمل سخريته المعتادة، لكنني كنتُ أستطيع تمييز النغمة الدافئة خلف تلك الكلمات. "ألم أكن أقول دائمًا أنكِ ستقلبين العالم كله من أجلي؟"
—
توقف قليلاً، ثم أضاف بعبث واضح: "لكن عليّ الاعتراف… لم أكن أعلم أنكِ ستتسببين في دمار الأقدار ذاتها. أعلم أنني وسيم بشكل قاتل، لكن لم أتوقع أن تكوني مهووسة بي لهذه الدرجة."
—
نظرتُ إليه بصمت، لكنني شعرتُ بشيء من الدفء في كلماته السخيفة.
الغرور، والغزل، واللامبالاة المبالغ فيها… كل هذا كان مجرد قناع يخفي خلفه شيئًا حقيقيًا.
—
"أنتَ تعلم أنني كنتُ سأفعل ذلك مجددًا." قلتُ بهدوء، وعينيّ مثبتتين عليه.
—
ابتسم سايلوس، تلك الابتسامة التي أحببتها دائمًا، حتى عندما كانت تستفزني.
"أعلم، أميرتي. ولهذا السبب…" توقف للحظة، كأنه يبحث عن الكلمات المناسبة. "لهذا السبب أنا هنا الآن."
—
رغم سخريته المعتادة، شعرتُ بتلك الصدق النادر الذي كان يحاول دائمًا إخفاءه.
—
لكن قبل أن نكمل حديثنا، قاطعنا صوت آخر.
—
"آسف لمقاطعة رومانسيتكما السخيفة…"
—
التفتنا جميعًا نحو رافاييل الذي كان يقف بعيدًا، نظراته تحمل شيئًا لم أره من قبل.
لم يكن مجرد جنون أو هوس…
بل كان شيئًا أعمق، كأنه رأى شيئًا لم يكن مستعدًا لمواجهته.
—
"رفاييل…" تمتم كايلب بحذر، ويده على سلاحه.
—
أما سايلوس، فعاد ليبتسم بخبث. "هل أتيت لتلقي بنفسك في الجحيم أخيرًا؟"
—
رفع رافاييل يديه باستسلام، لكن عينيه كانتا تلمعان بجديّة نادرة.
"لا، أيها الاحمق ..." قال بلهجة واضحة. "لقد أتيت لأخبركم بشيء واحد…"
—
"ما هو؟" سألتُ بحدة.
—
"علينا التعاون."
—
التفت الجميع إليه بصدمة، حتى أنا.
—
"ما الذي تتحدث عنه؟" سأل كايلب، تعابيره متصلبة.
—
"أقول إننا يجب ان نتحالف." قال رافاييل بصوت صارم. "هذا ليس الوقت المناسب لقتالنا، ولا للغزل السخيف بينكما." أشار نحوي انا وسايلوس بازدراء، ثم تابع: "لدينا 48 ساعة فقط. وإذا لم نفعل شيئًا، سنموت جميعًا."
—
كانت عيناه تتوجه مباشرة نحو عينيّ، كأن كلماته كانت موجهة لي فقط.
—
"إما أن نتعاون… أو ننتهي جميعًا."
—
—
أتبعنا رافاييل عبر الممرات الواسعة المتلألئة، كان المكان يبدو كأن الضوء يتراقص على الجدران المصنوعة من مادة بلورية شفافة تعكس الأضواء الزرقاء والخضراء، مما يجعلنا نشعر وكأننا نسير في أعماق البحر ذاته.
كان الجميع صامتين، حتى كايلب الذي عادةً ما يكون مستعدًا لتحليل الوضع وإصدار الأوامر، لم يتكلم. فقط حدق بعينين حادتين في ظهر رافاييل، وكأنه يتوقع منه طعنة مفاجئة.
أما سايلوس، فقد كان يسير بجانبي بثقة كعادته، لكنني شعرت بيده التي تمسك يدي بقوة، كأنه كان يخشى أن أختفي فجأة.
—
وصلنا إلى جناح رافاييل، كان مختلفًا تمامًا عن بقية المكان.
قاعة ضخمة، أرضها مغطاة بمياه شفافة تتحرك بهدوء، وكأنها تتنفس. جدرانها مكسوة بالأحجار الزرقاء المتلألئة، وعلى المنصة المرتفعة كان هناك عرش ملكي من مادة تبدو وكأنها مزيج من اللؤلؤ والألماس، تعكس الضوء كأنه هالة سحرية.
جلس رافاييل على عرشه بإرتياح، وكأنه قد استعاد سيطرته على الأمور. عيناه الأرجوانيتان تراقباننا بشغف، وكأن المشهد الذي أمامه مجرد مسرحية هزلية أعدت خصيصًا له.
—
"تفضلوا بالجلوس." قال وهو يشير إلى مقاعد كانت قد ظهرت فجأة من الأرضية المائية.
—
جلستُ ببطء، كان سايلوس إلى جانبي، وكايلب على الجانب الآخر.
أمامنا وقف اثنان من الكهنة العريقين، كانا يبدوان أكبر من أن يتحدثا، وجوههما المجعدة تحكي قصصًا تمتد لألف سنة أو أكثر.
—
تحدث رافاييل أخيرًا، بنبرة ملكية لم أسمعها منه من قبل. "أعتقد أننا جميعًا ندرك الوضع الراهن."
—
"نعم، غضب حارس الأقدار المقدس." تمتم كايلب وهو يعقد ذراعيه على صدره. "وما فهمته أنه ليس مجرد كائن قوي، بل كائن يستطيع تدمير كل شيء."
—
"تمامًا." قال رافاييل وعيناه تلمعان بإثارة مرعبة. "إنه ليس كائنًا ماديًا فقط. إنه حامي التوازن بين العوالم. ومهمته الأساسية هي التأكد من أن الأقدار لا يتم العبث بها. وما فعلتهِ يا قديستي العزيزه…" نظر إليّ بعينين تحملان استنكارًا مزيجًا مع الإعجاب. "انكي كسرتِ ذلك التوازن."
—
تحدث أحد الكهنة العريقين بصوت عميق وجاف كأن الرياح تهمس من خلال جمجمة ميتة. "إن الغرفة المقدسة هي ركيزة النظام، وجودها يمنع البحار من الانقلاب على اليابسة، ويمنع الفوضى من ابتلاع العوالم."
—
أكمل الكاهن الآخر بنبرة أكثر رعبًا، وكأنه كان يتحدث عن أسطورة مروعة. "وإذا دُمّرت الغرفة المقدسة بالكامل، فكل شيء سيختفي. ليس فقط هذا العالم، بل كل العوالم المرتبطة به."
—
تجمدتُ في مكاني، شعرتُ ببرودة تجتاحني.
—
"إذن…" تمتم سايلوس بنبرته الساخرة المعتادة، لكنه كان يحمل غضبًا تحت سطحيته. "هل تقترحون عليّ أن أموت حتى يُرضى هذا الحارس المقدس؟"
—
رد رافاييل بهدوء غريب. " إن كان هذا ما سيجعل العالم يستمر… فأعتقد أنك تعلم الإجابة."
—
صررتُ على أسناني. "لا."
—
توجهتُ بكلامي إلى الجميع، بنظرة تتحدى كل شيء.
"لن أسمح أن يُمس سايلوس بأي أذى. إذا كان الحارس يريد التضحية به… فسأواجهه بنفسي. سأدمره إن اضطررت لذلك."
—
رفع سايلوس حاجبه بتلك الابتسامة الجانبية التي يعرف كيف يستخدمها جيدًا. "آه، أميرتي العاطفية عادت." قالها بنبرة دافئة رغم سخريته.
ثم رفع يدي بين يديه وقبّل أصابعي ببطء، عيناه تلتقيان بعينيّ وكأنه يحاول أن يقرأ كل شيء بداخلي.
"كم أحبك هكذا. متهورة، شرسة… وجاهزة لتدمير الأكوان من أجلي."
—
شعرتُ بالحرارة تتسلل إلى وجهي، لكنني لم أتراجع.
—
"إذن، ماذا تقترحون أن نفعل؟" قال رافاييل مقاطعاً بنبرة حادة، عينيه تتنقلان بيننا.
—
"إصلاح الغرفة المقدسة هو الحل الوحيد." قال أحد الكهنة العريقين. "لكن الطاقة اللازمة لذلك… ليست متوفرة هنا."
—
"إصلاح الغرفة المقدسة؟" تمتم كايلب بتمعن. "وكيف يمكننا فعل ذلك؟"
—
أجاب الكاهن الآخر. "نحتاج إلى جوهر طاقة نقية، شيء يمكنه إعادة ضبط الأقدار."
—
"وهل لديك فكرة عن مكان الحصول على ذلك الجوهر؟" سأل كايلب بنبرة متوترة.
—
"نعم." قال رافاييل وعيناه تلمعان بمكر واضح. "لكن… سيكون الأمر معقدًا بعض الشيء."
—
تبادلنا النظرات جميعًا، شعرتُ أن هناك شيئًا رهيبًا على وشك أن يتم الكشف عنه.
لكنني لم أكن أعلم أن ما سيأتي… سيكون أكثر رعبًا مما تخيلت.
—
—
"حسنًا، أيها العبقري." قال سايلوس ببرود وسخرية وهو يميل في مقعده. "إن كان لديك هذا الحل العظيم، فهيا، أذهلنا."
—
ابتسم رافاييل ابتسامته الماكرة المعتادة، لكنه كان مختلفًا هذه المرة. كان في عينيه توتر حقيقي.
—
"الحل بسيط من حيث المفهوم، لكنه جنوني تمامًا من حيث التنفيذ." قال بنبرة هادئة.
—
"لمَ لا أستغرب ذلك؟" تمتم كايلب ببرود، بينما كان يحاول الحفاظ على هدوئه.
—
"نحن بحاجة إلى شيء يسمى 'جوهر الآلهة'." تابع رافاييل وكأنه لم يسمع تعليق كايلب. "وهو نوع من الطاقة النقية المطلقة، التي لا يمكن العثور عليها إلا في مكان واحد فقط."
—
"أين؟" سألت، قلبي ينبض بتوتر، فأي شيء يتحدث عنه رافاييل يكون دائمًا محفوفًا بالخطر.
—
"في عالم النور السماوي." أجاب وهو ينظر إليّ مباشرة. "مكان لا يمكن الوصول إليه بسهولة، ويُقال إنه محمي بقوة لا يمكن تجاوزها."
—
شعرتُ بأنفاسي تتسارع. عالم النور السماوي… لم أسمع عنه إلا في القصص والأساطير. مكان لا يُسمح لأي كائن بزيارته إلا إذا كان نقيًا بالكامل… أو ميتًا.
—
"جميل." قال سايلوس بتهكم. "هل عليّ أن أقتل نفسي لأصل إلى هناك؟ أم أن لديك خطة أكثر جنونًا، يا ملك البحار؟"
—
هز رافاييل رأسه، وعيناه تتوهجان بتصميم غير عادي. "لدي خطة… لكنها ليست مثالية."
—
"ما هي؟" سأل كايلب بحدة، بينما كان يرمقه بنظرة حذرة.
—
"لدخول عالم النور السماوي، يجب أن نعبر من خلال بوابة تُعرف بـ'درع الأطياف'. هذه البوابة محمية من قبل حراس لا يمكن تجاوزهم بسهولة."
—
"وما الذي تقترحه بالضبط؟" سألتُ وأنا أحاول أن أفهم حجم الخطر.
—
"سأحتاج إلى مساعدتكم جميعًا." قال رافاييل، كلماته تحمل معنى ثقيلًا. "لكن خصوصًا منكِ، تونه."
—
"مني؟ لماذا؟"
—
"لأنكِ أصبحتِ جزءًا من هذا العالم." أجاب بهدوء. "تحولك إلى كائن هجين جعلكِ تتجاوزين الحدود بين العوالم. أنتِ الآن حلقة وصل بيننا وبين عالم النور السماوي. يمكنكِ فتح البوابة، حتى لو كان ذلك لفترة قصيرة فقط."
—
"أنت تمزح، أليس كذلك؟" قال سايلوس بسخرية، لكن نبرته كانت تحمل غضبًا خفيًا. "تريد أن تدفعها لمواجهة خطر مميت فقط لأنك عاجز عن حل مشاكلك بنفسك؟"
—
"بل لأنه ليس لدينا خيار آخر." أجاب رافاييل بصراحة قاسية. "أنت تعلم أن الأقدار قد كسرت بالفعل. وما لم نُصلحها، سيختفي كل شيء. كل شيء."
—
"أنا لن أسمح أن تتأذى." قال سايلوس بنبرة منخفضة لكنها مشحونة بغضب مرعب.
—
"وماذا تقترح إذن؟" سأل رافاييل بازدراء. "أن نجلس هنا وننتظر النهاية؟ أن ندع العالم يتحطم فقط لأنك خائف على حياتها؟"
—
"إنه ليس مجرد خوف." همستُ، ونظرات الجميع تتجه إليّ.
—
أخذتُ نفسًا عميقًا، وأعدتُ ترتيب أفكاري. "أنا أفهم الخطر. وأعلم أنني قد أموت بسبب هذا. لكن… إذا كان هناك شيء يمكنني فعله لحماية كل من أحبهم… فسأفعله."
—
رأيتُ كيف ارتجف سايلوس للحظة، وكيف انقبض فكّه بقوة.
—
"تونه…" همس سايلوس وكأنه كان يحاول إيقافي عن هذا القرار.
—
لكنني كنتُ مصممة. "لا يمكنك حمايتي دائمًا، سايلوس. أحيانًا عليّ أن أواجه الأمور بنفسي. وهذه المرة، أنا من سيتحمل العواقب."
—
شعرتُ بأصابعه تضغط على يدي برفق، كأنه يحاول منع يدي من الابتعاد عنه.
—
"أنتِ مجنونة، تعلمين ذلك؟" قال بصوت منخفض.
—
"أعلم." ابتسمتُ ابتسامة صغيرة، لم تكن سخرية، بل كانت اعترافًا بسيطًا بالحقيقة.
—
"إذن…" قال رافاييل وهو يتراجع إلى الخلف قليلًا، ويستعيد هدوءه الملكي. "هل سنفعل ذلك أم لا؟"
—
نظر الجميع إليّ، حتى كايلب الذي كان يبدو مترددًا لكنه كان مستعدًا للاستماع.
—
"سنفعل." قلتُ بحزم. "لكنني أريد أن أعرف كل شيء عن الخطة."
—
"هذا هو الجزء المعقد." قال رافاييل وهو يميل إلى الأمام. "نحتاج إلى استحضار قوة قديمة داخل الغرفة المقدسة نفسها. جوهر الآلهة لا يمكن الحصول عليه بسهولة، لكن… إذا استطعنا الوصول إلى البوابة وفتحها، قد نجد طريقنا إلى تلك القوة."
—
"وإذا لم نجدها؟" سأل كايلب بشك.
—
"إذا لم نجدها…" قال رافاييل بهدوء مخيف. "حينها علينا أن نواجه الحارس المقدس مباشرة."
—
"وأنت تعتقد أننا نستطيع فعل ذلك؟" سألتُ ببطء، محاولًة استيعاب خطورة المهمة.
—
"أعتقد أن لدينا فرصة." قال رافاييل بثقة غير متوقعة. "لكن علينا أن نتحرك بسرعة. كل دقيقة تضيع تعني اقترابنا من النهاية."
—
نظرتُ إلى سايلوس، ثم إلى كايلب.
كنت أعلم أن كلاهما يخاف عليّ بطريقته الخاصة.
لكن هذه المرة… لم يكن لدي خيار.
—
"حسنًا…" قلتُ بصوت ثابت. "فلنبدأ."
—
—
—
—
"انتظر، انتظر…" قال سايلوس ببطء وهو يشير إلى الحفرة السوداء العميقة التي خرج منها الحارس المقدس. "هل تحاول إخباري أن هذه… الفوضى هي بوابتنا لعالم النور السماوي؟"
—
"بالضبط." أجاب رافاييل بثقة لا تلائم خطورة الفكرة. "كما قلت . الحفرة التي خرج منها الحارس هي ثقب بين العوالم. مدخل مؤقت إلى عالم النور السماوي، تمزق في نسيج الواقع حدث عندما غضب الحارس المقدس."
—
"تمزق في نسيج الواقع؟" تمتم كايلب بنبرة يشوبها الخوف والتحليل. "هذا يعني أن المدخل ليس ثابتًا. قد يختفي في أي لحظة."
—
"صحيح، لهذا السبب علينا التحرك بسرعة." قال رافاييل وهو يحدق في الحفرة بعينين لامعتين. "الأمر أشبه بالقفز في بحر من العدم. إذا فقدنا التركيز ولو للحظة، قد ينتهي بنا المطاف في مكان لا يمكن لأحدنا الخروج منه أبدًا."
—
"مذهل." تمتمتُ، بينما قلبي ينبض بقوة. فكرة القفز في المجهول كانت مرعبة، لكن في الوقت ذاته… كانت الطريقة الوحيدة.
—
"مذهل؟" رفع سايلوس حاجبه بسخرية بينما كان يمسك بيدي وكأنه يخشى أن أفلت من بين أصابعه. "أميرتي، فكرة أن ندخل إلى حفرة يمكنها ابتلاعنا للأبد ليست مذهلة. إنها جنون."
—
"أحيانًا، الجنون هو الخيار الوحيد المتاح." قلتُ بثبات.
—
"حسنًا، مجنونة أنتِ وأنا مجنون بما يكفي لأتبعك." قال سايلوس وهو يزفر بعمق، وكأنه كان يحاول التأقلم مع الفكرة.
—
"ماذا عنا نحن؟" قال كايلب بصوت قاطع. "لن أدعكِ تخاطرين وحدك. أنا قادم معك."
—
نظرتُ إليه بعينين ممتنتين، ثم نظرت إلى رافاييل الذي كان يراقبنا بصمت. "وأنت؟"
—
"بالطبع، سأكون هناك." قال بابتسامة هادئة. "عالم النور السماوي ليس مكانًا يمكن لأي شخص الوصول إليه. لكنني… لدي بعض الامتيازات الخاصة."
—
"بالطبع لديك." تمتم سايلوس بسخرية. "دعني أخمن، هل تملك بطاقة VIP للوصول إلى عالم النور السماوي أيضًا؟"
—
ضحك رافاييل ضحكة خافتة، ثم قال بنبرة أكثر جدية: "بل لدي معرفة بالممرات الآمنة. أو ما تبقى منها على الأقل. "
—
—
تونه: "إذن… نحن جميعًا مستعدون؟"
—
كايلب: "جاهزون بقدر ما يمكن أن نكون."
—
سايلوس: "إذا كنتِ تصرين على هذا، فليس لدي خيار سوى أن أكون بجانبك."
—
"جميل." قال رافاييل وهو يشير إلى الحفرة. "كل ما عليكم فعله هو القفز. سأقوم بإرشادنا خلال العبور."
—
"انتظر، ماذا تعني بالقفز؟" سأل سايلوس بينما تلاشى صبره بشكل واضح.
—
"أعني أننا يجب أن نلقي بأنفسنا في هذه الحفرة." قال رافاييل وهو يخطو خطوة نحو الحافة. "إنها الطريقة الوحيدة للوصول الى بوابة درع الاطياف.. لكن عليّ أن أحذركم… الشعور أثناء العبور قد يكون أشبه بالجنون نفسه. رؤى مشوشة، كوابيس، ذكريات مبعثرة… كل ذلك سيحاول اختراق عقلكم."
—
"رائع." قال سايلوس بتهكم، ثم أضاف وهو يمسك بيدي بقوة. "أنتِ لن تقفزي بدون أن أكون معكِ."
—
"وأنا أيضًا." قال كايلب بنبرة صلبة، لكن عينيه كانت تحملان قلقًا حقيقيًا.
—
"إذاً لنبدأ." قال رافاييل وهو ينظر إلينا بجدية. "عندما أقفز، اتبعوني على الفور. لا تبتعدوا عن بعضكم مهما حدث."
—
—
دون أن ينتظر أي تأكيد آخر، قفز رافاييل في الحفرة، جسده يختفي في العدم كما لو أنه قد ابتلعه الظلام ذاته.
—
"هل نحن فعلاً سنفعل هذا؟" تمتم سايلوس بنبرة ساخرة، لكنني شعرت بالتوتر الخفي في صوته.
—
"لا يوجد طريق آخر." قلتُ وأنا أضغط على يده.
—
"حسنًا، فلنذهب إلى الجحيم معًا." قال سايلوس بابتسامة ملتوية، ثم قفزنا معًا في الحفرة.
—
شعرتُ بالهواء يسحبني، البرد يلفني وكأنني أسقط في فراغ لا نهاية له. كانت صرخاتي مختنقة، كل شيء حولي كان يتحطم ويتلاشى في نفس الوقت.
كانت الأصوات من حولي مشوشة، كأنني أسمع صدى صرخاتي الخاصة تعود إلي ببطء، ممزوجة بأصوات غريبة لم أستطع تمييزها.
كانت هناك لمحات… ذكريات غامضة تظهر وتختفي، أصوات أشخاص أحببتهم وأكرههم، وجوه بعيدة وقريبة في نفس الوقت.
لكنني لم أترك يد سايلوس.
وهو أيضًا لم يتركني.
—
ثم فجأة… كان هناك ضوء.
—
ضوء ساطع، خافت لكنه قوي بما يكفي ليخترق الظلام.
—
فتحتُ عينيّ، وجدتُ نفسي على أرض بيضاء ناعمة، وكأنها مصنوعة من ضوء خالص.
كان سايلوس و كايلب بجانبي، كلاهما يبدوان مذهولين مثلي.
—
أما رافاييل، فقد كان يقف أمامنا، مبتسمًا كما لو أن كل شيء كان تحت سيطرته.
—
"مرحبًا بكم..." قال بهدوء.
"رحلتكم قد بدأت للتو."
—