حدقت في السقف الحجري المألوف، فيما تسللت البرودة إلى ظهري من الأرضية الصلبة التي أستلقي عليها. كان شعورًا غريبًا، فالحجارة أبرد مما يتوقعه المرء من مجرد صخور عادية.
لعلها صخور سحرية صممت لتحمل قوة المزارعين؟
رغم الظروف الغريبة لأول يوم لي في الزنزانة ، فإن الأيام التالية مرت بسلاسة نسبيًا دون حوادث تذكر.
أما مسؤل السجن، فعندما يكون صاحيًا، بدا لي رجلًا عاديًا إلى حدٍ كبير. وإن كان يحمل في قلبه مكانة خاصة لابنته. لم يكن أحد يجرؤ على ذكرها، حتى في لحظات صحوه، فما بالك حين يكون مخمورًا؟ لا أحد كان يرغب باكتشاف عواقب ذلك بنفسه.
علمت لاحقًا أنه غالبًا ما يفرط في الشرب ليلًا، واكتشفت هذا في ثاني أيام حبسي.
لقد مرت ثلاثة أيام منذ دخولي، وأعترف بأن ظروف الإقامة لم تكن بالسوء المتوقع. كان هناك سجناء آخرون في الزنازين المجاورة، ورغم غياب ضوء الشمس، إلا أن تشكيلات سحرية منعتنا من سماع بعضنا البعض، على عكس الحراس الذين كان بوسعهم سماع كل كلمة نقولها من الخارج. ربما كان ذلك أمرًا جيدًا، فلا رغبة لي بالضجيج الذي عادةً ما يصاحب السجون.
كانت الصخور تحتفظ برطوبتها خلال الليل، مما يبعث ببعض البرودة، لكنها ليست شيئًا يعجز جسد مزارع عن تحمله. وكان التلاميذ الداخليون يأتون يوميًا بالطعام المفضل لنا، متحولين داخل هذه الجدران إلى مجرد خدم.
ويبدو أنه حتى بين التلاميذ الموهوبين، كانت هناك طبقية صارمة، والسلطة الفعلية بقيت بيد الشيوخ. فالقوة التي في حوزة الكبار كانت أكثر أهمية من أولئك الذين يملكون مجرد إمكانية امتلاكها في المستقبل.
ربما كان المكان ليبدو أكثر كآبة لولا انشغالي بالتدريب أو اللعب مع "سبييدي" حين يشتد بي تعب التدريب والملل.
ومن ناحية إيجابية، فإن جروحي قد التأمت. فقد قدم السجن أدوية فائقة الجودة، مع معالج خاص أشرف على شفائي وأعطاني الضوء الأخضر للعودة إلى نشاطي المعتاد.
زنازنتي تفوح منها رائحة خفيفة من العفن، وكانت الفراش الرقيق بمثابة سريري، لكنها رغم ذلك فسيحة نسبيًا ،على الأقل بالنسبة لزنزانة. بل كان لدي مرحاض خاص في زاوية بعيدة بما يكفي كي لا يزعجني بالرائحة.
والآن وأنا أفكر بالأمر، من المستحيل أن أنفي و حاسة شمي الفائقة لم تلتقط أي رائحة كريهة، لذا لا بد أن شخصًا ما وضع تشكيلة سحرية على ذاك الركن لتقضي على الروائح.
رحلتي الأخيرة في البراري جعلتني أقدر هذه الرفاهية البسيطة. فلا تزال هذه الظروف أرحم بكثير من قسوة النوم في العراء البارد، مع احتمال ظهور وحش شرس في أي لحظة.
الصخور الصلبة التي تحيط بالزنزانة أيقظت بداخلي رغبة في مواصلة التدريب على تقنية "لكمة الناب الثاقب". ومع قلة ما يشغلني هنا، رأيت في هذا السجن فرصةً لتعويض ما فاتني من التدريب خارج الطائفة.
ورغم أن جزءًا مني أراد اختبار قبضتي على الجدران، إلا أنني ترددت. فلن يضعونا في سجن يمكن كسره باللكم. على الأغلب سأكسر يدي فقط. وحتى لو حصلت معجزة وانهارت الجدران، فماذا سأجني؟ مجرد انهيارٍ فوق رأسي، وأنا لست مستعدًا للمراهنة على النجاة من شيء كهذا، حتى ولو كنت مزارعًا.
نهضت واقفًا، واتخذت وضعية التدريب بحماس لجولة جديدة. وإن أصبت نفسي بالإجهاد أو الأذى، فالأدوية والطاقم الطبي هنا متوفرون، لا حاجة للقلق المفرط. وإذا كسرت شيئًا بسبب التدريب الزائد، فذاك ليس من مشكلتي، بل من مشكلتهم.
في الحقيقة، إيداعي في هذا السجن دون أي مهام أشبه بوضع مدمن خمر وسط مصنع نبيذ. لا شيء يمنعني من دفع نفسي إلى أقصى الحدود، لقد تعلمت من رحلتي الأخيرة كم انا ضعيف، ولن اضيع اي فرصة لتغير ذالك.
"حان وقت أربع ساعات أخرى من التدريب القاسي،" تمتمت لنفسي. "ربما هذه المرة، سأصل إلى حافة الانهيار وأفقد الوعي من التعب. سيكون ذلك كسرًا مرحبًا به للروتين."
قدرة المزارع على التعافي كانت مذهلة بحق؛ فبعد فترة وجيزة من التدريب العنيف، أكون مستعدًا لتكرار الأمر خلال خمس دقائق فقط.
بعد ساعات مرهقة من التدريب المتواصل باستخدام لكمة الناب الثاقب، كنت أوجه ضرباتي محدثًا رياحًا خفيفة بفعل قوة حركتي وهي تشق الهواء.
جلست لألتقط أنفاسي، وقد شعرت وكأن ذراعي على وشك السقوط من مكانهما. وضعت السلحفاة الصغيرة على راسي . "سبييدي" بات معتادًا علي، ولم يعد يحاول عضي. بل راح يغفو مباشرة فوق رأسي .
"ربما علي أن أسميك سليبي بدلًا من سبييدي؟" تمتمت ضاحكًا.
هل تنام السلاحف بهذا القدر؟ ربما علي أن أطلب من الطاقم الطبي فحصه في المرة القادمة. أو ربما قوقعته ببساطة أكثر راحة من قضاء الوقت معي.
"يبدو وكأنه البارحة حين اشتريتك، والآن ها أنت تدخل مرحلة المراهقة ولا تريد قضاء الوقت مع أحد."
حتى لو لم أكن أحتاجه لتقنيتي الجديدة، إلا أنني كنت سعيدًا بشرائه. وإلا لكان من الغريب أن يراقب أحدهم زنزانتي ويراني أتكلم مع نفسي.
توقفت عن التفكير في الغرائب، وأغمضت عيني، آخذًا نفسًا عميقًا ومركزًا على الرابط بيني وبين "سبييدي". بدأت بتنظيم أنفاسي بالايقاع المذكور في التقنية ، وسرعان ما بدا وزن السلحفاة على رأسي كأنها صخرة بحجم كرة بولينغ. بذلت جهدًا جبارًا كي لا أتحرك ولو بوصة واحدة، فـ"تقنية جسد الدرع السلحفاتي " تتطلب الثبات التام أثناء التدريب.
وسرعان ما انتقل الضغط من رأسي إلى كل أنحاء جسدي كأنها لعنة سحرية، وأحسست بثقل رهيب ينتشر في أطرافي. كانت عضلاتي تتمزق تحت ذلك العبء، وكأن ذراعي على وشك الخلع.
ورغم واقعية الألم، ظللت أذكر نفسي بأنه مجرد وهم؛ حيلة تهدف إلى خداع الجسد وجعله أقوى لمواجهة هذا الثقل. بدأت عضلاتي بالارتعاش والانقباض من تلقاء نفسها، وكأنها تطحن العظام كطبول تُقرَع من الداخل. شعرت بجريان الدم في عروقي، بكل تصادم داخلي بين الخلايا والأنسجة في محاولة للشفاء والتقوية.
كانت هناك تقنيات لا تعد ولا تحصى، ومعظم ما تدربت عليه سابقًا تطلب حركة مستمرة. أما الآن، فمجرد ترديد تعويذة داخلية مع سلحفاة نائمة فوق رأسي، جعل جسدي يجلد نفسه ويزداد قوة!
والمثير للدهشة أنني بدأت أشعر بتغير ما داخلي. آمل فقط ألا تكون لهذه التقنية آثار جانبية خفية تجعلني أتحول إلى إنسان سلحفاة... فكتاب التقنية كان أسود قاتمًا. ربما كانت تقنية شيطانية منذ البداية؟ هل دسها أحد المزارعين الشياطين عمدًا ليعبث بطائفة صالحة ؟
اللعنة، أنا حقًا لا أريد أن أتحول إلى سلاحف النينجا. تمنيت لو أن الزنزانة كانت أوسع قليلًا لأتدرب على تقنية "خطوة الثور الهائج ".
فجأة، انفتح باب الزنزانة المعدني بصوت صرير حاد. أوقفت تدريبي فورًا، وفتحت عيني، تتسلل قطرة عرق على خدي.
الوافدة الجديدة كانت امرأة عجوز، بدا أنها على حافة القبر؛ ظهرها منحنٍ وتستند على عصا. كان شعرها مضفورًا إلى جديلتين تتدليان على كتفيها.
رغم مظهرها الواهن، شعرت على الفور بالخطر. رداؤها الأحمر كان كافيًا ليعلمني أنها إحدى الشيوخ الكبار في الطائفة، من أولئك الذين يقفون مباشرة مع زعيم الطائفة.
كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد، حتى أجد نفسي في حضرة شخصية بهذا المستوى؟ حتى أنا صرت أريد أن أعرف ما الذي جرى ليستدعي كل هذه الشخصيات.
"أنت ليو فنغ، أليس كذلك؟" قالت وهي تبتسم بابتسامة جدة حنون. لم تنتظر حتى أجيب، بل أخرجت كيسًا وفتحته: "هل ترغب ببعض الحلوى؟ حفيدتي أكلت معظم نكهة الفراولة، لكن تبقت بعض حبات البرتقال."
حلوى بنكهة الفواكه؟ في هذا العالم؟ أعلم أن بعض المزارعين يطيرون على سيوفهم، لكن حلوى بنكهات حديثة؟ بدا ذلك عصريًا أكثر من اللازم. في الواقع، لا أعرف الكثير عن تاريخ الحلوى في هذا العالم.
"نعم، شكرًا، إذا كان لا مانع لديكَِ،" أجبت محاولًا إخفاء توتري، وإن لم يكن بالأمر السهل. لا بد أنها لاحظت ذلك، لكنه أمر طبيعي أن يرتبك المرء أمام من يمكنها أن تتسلم زعامة الطائفة إذا غاب الزعيم. "آسف إن كان هذا اختبارًا، ولم يكن من المفترض أن آخذ الحلوى."
"لا تقلق بشأن الاختبارات. أنا دائمًا أحمل الحلوى معي، وحفيدتي تعشقها،" تنهدت قائلة. "لا بد أن الأمر صعب على شاب في سنك أن يحتجز في السجن. بقية الشيوخ الكبار رفضوه، لكن بسبب شكوك شيخ واحد فقط، علينا أن نزعج الآخرين أيضًا. هل تصدق أنه أصر على وضع حفيدتي هنا وكاد يأخذها؟ فقط لأنها كانت في الخارج وقت الحادث؟"
زمت شفتيها وقبضت قبضتها، وانفجرت عروق غاضبة على جبينها، مما منحها مظهرًا مرعبًا ارتجفت له أوصالي. لذلك اكتفيت بهز رأسي موافقًا على كل ما تقوله.
عندما ذكرت حفيدتها، راودني الشك أنها حفيدتها فعلاً. فهي واحدة من الشيوخ الكبار، وغالبًا عمرها يناهز مئات السنين، ويبدو أنها قد تجاوزت زمن الأحفاد، وربما الفتاة التي تتحدث عنها تكون حفيدة حفيد حفيدتها، أو شيء من هذا القبيل.
"أنت هناك! أحضر لي كرسيًا!" نادت بصوت جهوري، فدخل أحد التلاميذ الداخليين مسرعًا حاملاً كرسيًا خشبيًا.
انحنى الشاب باحترام وغادر دون أن ينطق بكلمة. وفي تلك الأثناء، جلست العجوز على الكرسي، ثم أخرجت دفتر ملاحظات بحركة سريعة من يدها. "حسنًا، ليو فنغ. لعشيرة ليو ثلاثة أعضاء في الطائفة الداخلية، وأنت الوحيد في الطائفة الخارجية. جميع أقربائك الثلاثة دافعوا عن براءتك، وأكدوا أنك لم تتورط في شيء مشبوه خلال شبابك. ما رأيك في ذلك؟"
تحول نظرها من اللوح إلى وجهي. لم تكن النظرة كالسابق، لم تكن نظرة جدة طيبة، بل كانت الآن نظرة هادئة وجادة، تحمل ثقلًا غريبًا أشعرني بانقباض في الصدر، وصعد المر إلى حلقي حتى كدت أتقيأ. لكنني تماسكت، وأخذت نفسًا عميقًا.
"أبناء عمي أناس منصفون،" أجبت ببساطة.
في الحقيقة، لم يكن ليو فنغ يعرف الكثير عن أقاربه في الطائفة الداخلية. لم يكن شخصًا اجتماعيًا حتى في موطنه. صحيح أنه يعرف شكل ابنة زعيم عشيرة ليو، لكن الجميع كانوا يعرفونها، ولم تكن بينه وبينها علاقة خاصة. خصوصًا أن الجيل الموجود الآن في الطائفة الداخلية كان يكبره بسنتين أو ثلاث على الأقل، وعندما غادروا العشيرة، كان عمره لا يتجاوز الثانية عشرة أو الثالثة عشرة.
كان لليو فنغ بعض الخصومات الصغيرة داخل العشيرة، لكن لحسن الحظ، لم يصل أحد من خصومه إلى طائفة الشمس الملتهبة. وحتى لو فعلوا، فغالبًا لم يكونوا ليشي به، فعلى عكس البطل مع ابناء عمومته، فالعرف السائد أن الخلافات العائلية تبقى داخل جدران العائلة وأي تدخل او استعانة بالخارج تعد إهانة لا تغتفر.
"حسنًا، بعد أن ذابت الجليد قليلًا، ما رأيك أن ننتقل إلى الأسئلة الحقيقية؟" قالت العجوز مبتسمة، كاشفة عن صفوف من الأسنان المفقودة. "هل تعرف أي شيء عن الانفجار الذي وقع على الطريق بين طائفة الشمس الملتهبة وبلدة العشب الأخضر؟"
"لا،" أجبت. "سمعت وقوع انفجار، وترددت شائعات عن سقوط عدد من القتلى. لكن كل ذلك مجرد كلام متداول، ولست متأكدًا إن كان أحد قد مات بالفعل بسببه."
أومأت العجوز لنفسها وهمهمت بصوت خافت وهي تدون شيئًا في دفترها.
لم يكن من الحكمة أبدًا الكذب على شخص بمكانتها. فمع قرون من الخبرة، لم أكن لأجرؤ على خداعها أو التلاعب بها.
ومهما كان خلف ذلك الانفجار، فحتى الأحمق يدرك أن اقتران اسمي به سيكون كارثة قادمة لا محالة. إنه قنبلة موقوت، وأنا لا أريد أن أكون جزءًا من أي شيء متعلق به.
حسب معرفتي، لا توجد تقنيات أو أدوات يمكنها كشف الكذب بدقة. ربما هناك طرق ترصد نبض القلب أو تغيرات جسدية معينة، لكنها ليست دليلاً قاطعًا على الكذب. ثم إنني لك أكن اكذب بالكامل، حقًا لم أكن أعرف شيئًا عن ذلك الانفجار.
"جيد،" قالت بإيجاز، "والآن، عندما قدمت إلى الطائفة، كنت مصابًا. ما الذي حدث هناك؟"
"فتاة حاول أن مهاجمتي. كانت تحمل خنجر وقبضات حديدية . لا يمكنني أن أسميها معركة، فقد هربت منها بالكاد، مستعينًا ببعض الحيل."
"تقول إنك فررت منها؟ الجرح في ذراعك مفهوم، ربما استخدمته للدفاع عن نفسك،" قالت وهي تحدق بي بشدة، مما جعل عرقي يتصبب. "لكن ماذا عن إصابة أضلاعك الجانبية؟ وفقًا لوصفك، لقد هربت منها. غير أن إصابات الأضلاع عادة ما تحدث في مواجهات مباشرة، وليس أثناء الهروب. الأشخاص الذين يفرون يُصابون عادة في الظهر. ما تفسيرك لهذا؟"
__________________________
AMON: شكرًا لقرأت روايتي. لا تتردد في مشاركة رأيك عن الفصل سواء بنقد او نصيحة، أو "هممم" غامضة ،أنا أقرأ كل التعليقات وأتفاعل معها.