الفصل الأول : نِعَم

نيراكس… مملكتُنا الحبيبة.

عبارةٌ لطالما سمعتها تتردد في الإذاعات، في المدارس، في كتب التاريخ وعلى ألسنة الخُطباء. لكنّني… لم أُحبّها يومًا.

مملكة نيراكس قد تبدو جميلةً من الخارج، لكنّ الغِلَّ والحسد يسكنان قلوب أهلها، يتسلّلان من نوافذ القصور، ومن جدران الأكواخ…

ويُخيطان بين الناس كراهيةً لا يراها إلا من وقف خارج النسيج.

كنت أُحدّث نفسي أحيانًا…

هل سأكون يومًا شخصًا له مكانٌ في هذا العالم؟

أم أنني مجرّد نقطة باهتة على هامش كتابٍ لا يقرؤه أحد؟

ثم أضحك بسخرية… هذه الأفكار ليست إلا ترفًا عقيمًا، وسيلة يختلقها الإنسان لتسليَة نفسه، كي ينسى أنه لا يملك من أمره شيئًا.

في تلك الليلة، غفوتُ على هذا الشرود، وكان آخر ما دار في ذهني سؤالٌ بسيط…

من أنا حقًا؟

لقد وعيتُ على هذا العالم بلا أبٍ ولا أم، لا شيء يربطني بشيء.

العجوز “سيدرا” كانت دومًا تقول إنها أمي وأبي وكل عائلتي، لكنني لم أصدقها تمامًا. لم أشعر يومًا بأنني أنتمي لهذا المكان.

“فايل، استيقظ… فايل، استيقظ.”

فتحتُ عيني ببطءٍ شديد، كانت جدتي “سيدرا” تكرر تلك الجملة بصوتها المُعتاد، كما كل صباح.

نهضتُ من فراشي، لا شيء تغيّر في مظهري…

شعري لا يزال مبعثرًا كأن الريح تعبث به أثناء نومي، وجسدي الهزيل يوغل في الانكماش، وظهري الموجوع يئن بصمت.

“لماذا لا تغيّر من نمط حياتك يا فايل؟”

قالتها بنبرة فيها شيء من الأمل الميؤوس.

لكنني كالعادة تجاهلتها… فحياتي بسيطة: دراسة، زراعة، وقراءة كتابي المفضل، لا شيء آخر يربطني بهذا العالم سوى تلك الطقوس.

ذهبتُ إلى المدرسة كعادتي… مبنى متواضع، صفوف باردة، ووجوه مألوفة.

“ألم يتغير حالك بعد، يا فايل؟”

سؤالٌ عابر، من أحد الزملاء، لم أرد عليه… فالكلمات لا تهم حين لا تأتي من القلب.

في الصف، بدأ الأستاذ حديثه المعتاد، يصف المملكة بالأمان والاستقرار، نبرة محشوّة بكذبٍ رسميّ يعرفه الجميع، لكنه يكرره مضطرًا.

أوامر عليا، هكذا يقولون دائمًا.

لكن ما شدّني، كان حديثه عن كتاب “الحِبر”، ذاك المؤلف المجهول الذي ملأ صفحات كتابه بتاريخٍ لا يجرؤ غيره على ذكره.

“إنه الكتاب الذي يُدرَّس منذ العام 334 دربًا، وقيل إنه وُجد قبل أن تبدأ الدروب أصلاً.”

كنت أعرف ذلك الكتاب، بل أحفظ بعض فصوله. إنه يحكي عن سبع علامات، عن قوى عظيمة تُحدد مصير من يحملها:

علامة الرياح، الحجر، الظلام، النور، الذهب، الجليد… والعلامة المنسية.

قال الأستاذ:

“لم يظهر حاملٌ للعلامة المنسية منذ أكثر من سبعمائة عام… وكأنها محيت من الوجود.”

صوته تلاشى شيئًا فشيئًا، فقد غُصت في دوامة أفكاري…

من هو الحِبر؟ كيف عرف كل هذا؟ هل عاشه فعلاً؟

أم أنه… كان شيئًا آخر؟

وفجأة… سُمِع صوتٌ غريب.

ليس من الصف، ولا من الممرات… بل من داخلي.

صوتٌ خافت، كأن جدارًا قد تنفّس، أو ذاكرة قد تمزقت:

“فايل…”

ارتجفت. ظننت أنني أتوهم.

لكن الصوت عاد… أعمق، أكثر يقينًا:

“أنت تحمل العلامة…”

كل شيء تجمّد. الأصوات تحولت إلى همسات بعيدة، المعلّم إلى ظل، الصف إلى ضباب.

غمرني سوادٌ كثيف، كأنني أذوب في حلمٍ لا نهاية له.

سقطت… أو هكذا شعرت، في فراغٍ لا قرار له.

صوتٌ داخلي كان يهمس:

“العلامة عادت… والعالم سيتغير.”

ضوء.

لكنّه ليس كأي ضوء. أزرق باهت، ينبعث من حجارة تتوهج على جدران كهفٍ غريب.

فتحت عينيّ، كنت مستلقيًا على أرضٍ ملساء باردة، لا أثر لما كان.

لا صف، لا أستاذ، لا نيراكس.

فقط كهف… وكأنّه مكان يقع خارج العالم.

نهضت، ويداي ترتجفان.

نقشٌ مضيءٌ على جلدي، لم أرَه من قبل، يتوهّج بخفوتٍ غريب.

خطوات خافتة… شخصٌ يقترب، عباءة طويلة، وجهه مقنّع، صوته مألوف:

“مرحبًا بك… يا من حملت العلامة. مضى وقت طويل منذ أن اختارها العالمُ لأحدٍ من جديد.”

علامة؟

أي علامة؟

من أنت؟!

لم أجد وقتًا للسؤال، فقد اختفى كما ظهر.

وبقيت وحدي… أبحث عن إجابة.

تابعت طريقي داخل الكهف، حتى ظهر أمامي مخلوق ضخم، كفارسٍ حجريّ، على صدره سبع علامات، إحداها مشطوبة بالنار.

أشار إليّ بسيفه، ثم قال:

“أنت مُختار العلامة… اجتز هذا الاختبار، أو مت هنا.”

الممر تحوّل إلى ساحة، والكهف كله أضاء كأن العالم يراقبني.

اندفع نحوي، وأنا لا أملك سوى عصا خشبية…

رفعت يدي، وإذا بانفجار طاقة يتدفّق من العلامة، يحوّل العصا إلى سيف من لهبٍ أزرق، صدّ ضربة الفارس وأبعده عني.

وقف… ثم انحنى، وقال:

“العلامة اعترفت بك… لقد بدأت الرحلة، يا فايل.”

ثم انهار المكان…

وسقطتُ مرةً أخرى في الفراغ…

وأنا أعلم هذه المرة، أنني لن أستيقظ كما كنت.

سكون…

كأن العالم نفسه حبس انفاسه .

ثم…

ضوء جديد، أكثر دفئًا، وأكثر ألفة.

فتحتُ عينيّ ببطء، لأجد نفسي في سريري، داخل كوخ جدتي “سيدرا”.

لكن شيئًا ما كان خاطئًا.

الهواء مختلف… أكثر كثافة.

الضوء الذي يتسلل من النافذة لا يشبه ضوء الصباح المعتاد… كان ذهبيًّا مشوبًا بلونٍ بنفسجيّ باهت.

جلستُ على السرير، أتحسس جلدي.

النقش… لا يزال موجودًا.

يتوهج بخفوت، كما لو أنه يتنفس معي.

دخلت “سيدرا” الغرفة، لكن وجهها كان شاحبًا، ونظرتها تحمل شيئًا جديدًا… شيء لم أره فيها من قبل: خوف.

“استيقظتَ؟” قالتها بصوتٍ متردد.

“نعم… كم نمت؟”

نظرت إليّ طويلاً قبل أن تجيب:

“أربعة أيام… دون حراك. ظننتك… رحلت.”

أربعة أيام؟!

لكن… ما الذي حدث؟ أين الكهف؟ وأين الفارس الحجري؟ وأين الرجل المقنع؟

هل حلمت بكل ذلك؟ لا… لم يكن حلمًا.

التفتُّ إليها وسألتُها:

“جدتي… هل تعرفين ما معنى أن أحمل علامة؟”

تجمّدت.

صمتها كان أكثر إجابة مما كنت أحتاجه.

اقتربت وجلست على الكرسي الخشبي الصغير بجواري، ثم همست:

“كان يجب أن لا يحدث هذا…”

“أن لا يحدث ماذا؟ قولي لي الحقيقة!”

نظرت إليّ، والدموع في عينيها، ثم قالت:

“كان يجب أن تبقى خيطًا مجهولًا… أن تبقى خارج نسيج المصير.”

صمتُّ… لم أفهم شيئًا.

ثم قالت بصوتٍ خافت:

“العلامة التي تحملها… ليست مجرد قوة، إنها إعلان. إنذار. دعوة من العالم إلى اضطرابٍ جديد. لقد بدأت مرحلة لا عودة فيها، يا فايل.”

في اليوم التالي، لم أعد إلى المدرسة. لم أكن أجرؤ.

كل شيء أصبح مختلفًا، وكأن العالم ذاته تغيّر… أو أنني أنا من أصبح يرى الحقيقة خلف القشرة.

وفي الليل، عدت إلى قراءة كتاب “الحِبر” كعادتي، لكن شيئًا غريبًا حدث.

الكلمات على الصفحة الأولى تغيّرت.

لم تكن كلماتي المعتادة، بل ظهرت جملة لم أرها من قبل:

“إلى حامل العلامة… الطريق قد فُتح، والنسّاجون لن يرحموك.”

أغلقت الكتاب بارتباك، قلبي ينبض بقوة.

وفجأة… طرقٌ خفيف على النافذة.

فتحتها.

كان هناك شيء واقفٌ في العتمة… لا يُرى بالكامل، لكن عينيه تلمعان بلونٍ أزرق.

قال بصوتٍ عميق:

“جاء وقت الرحيل يا فايل. هذا العالم لم يعد مكانك"

تجمدت في صمتي و تباعدت في صخبي

" الآن لا عوده الا بعوده "

2025/07/30 · 10 مشاهدة · 1003 كلمة
حاذق
نادي الروايات - 2025