سكنت اللحظة بين كلماته وصمتي. لم أفهم إن كان صوته يبعث طمأنينة أم يهمس بنهايةٍ لا رجعة منها. راقبت وجهه خلف القناع، ولم أجد شيئًا يُقرأ… لا عينين، لا ملامح، فقط ظلٌ بشريّ يلوّح بخروج من كل مألوف.
قلت بصوتٍ مشوش:
“أين الرحيل؟ ولِمَ أنا؟ ومن أنت؟”
لم يجب.
مدّ يده، وكانت يده تختلف عن أي شيء رأيته سابقًا… كأنها من ضوءٍ حيّ، متجسد في جسد من نسيج النجوم، وراحاتها تتقاطع فيها خطوط ليست كخطوط البشر… بل كأنها خرائطٌ سماوية.
“امسك،” قال بهدوء، “أو عد إلى الظل الذي عشت فيه.”
نظرت خلفي. لا شيء.
لا كهف.
لا جدران.
لا صدى.
فقط خواء، خالٍ من اللون، من الصوت، من الوجود.
مددت يدي دون إرادة، فقط بشيء أشبه بالانجذاب، أو الاستسلام.
ما إن لامست يدي يده، حتى شعرت بعوالم تتفتح داخلي، كأنني شجرة أُجبرت على التفتح في لحظة، دون مواسم.
حجبي انزاح.
نسياني انكسر.
رأيتني طفلًا، لكنني لم أكن في هذا العالم. كنت في بُعد آخر… رأيت امرأة تبتسم، بعيون تشبهني… ثم نار، ثم عويل، ثم هروب… ثم لا شيء.
اختفى الرجل المقنع، ولم يبقَ إلا دوامة من الرماد.
ثم… سقطت.
لم يكن سقوطًا نحو الأرض، بل نحو نقطة… نقطة صغيرة جدًا لكنها أكبر من الكون… حفرة تتنفس، وتبتلع، وتبصق من تختاره.
“فاااااايل”
كان الصوت هذه المرة امرأة. ناعم، لكنه مشروخ، كأن آلاف الأصوات تتحدث في آنٍ واحد من فمٍ واحد.
فتحت عيني، وكان السقف فوقي من شظايا زجاجية متدلية، تتحرك ببطء كأنها تنبض بالحياة.
أرض الغرفة لم تكن أرضًا، بل مرآة، تعكسني… لكن الانعكاس لم يكن أنا.
بل… “أنا” آخر.
حدّق فيّ وقال بصوتي:
“أأخيرًا وصلت؟”
تراجعت خطوتين، وهمست:
“من أنت؟ ولماذا تشبهني؟”
قال وهو يتقدّم:
“أنا أنت، كما كان ينبغي لك أن تكون.”
“كلامك فارغ.” تمتمت.
ابتسم وقال:
“لا، بل أنت الفارغ… فارغ من المصير، من الذكرى، من المكان. أنت الثغرة الوحيدة في هذا النسيج. لا قدر كُتب لك، ولا خيط يمتد من ظهرك.”
حدّقت في قدميّ… لا خيط.
صحيح… الناس وُلدوا بخيوط غير مرئية تمتد من ظهورهم، ترتبط بما يسمّونه “نول القدر”، تراه العرّافات، ويتلاعب به السحرة، لكنه لم يكن لديّ. ولم أفكر في الأمر كثيرًا… حتى الآن.
“لماذا أنا؟”
قال الآخر:
“لأن العالم احتاج لمن لا مكان له. وكلما اشتد تشوّه القدر، احتاج لمن لا قدر له.”
ثم اقترب ووضع يده على جبهتي، وعيناه اشتعلتا بنورٍ أحمر غريب.
“العلامة فيك ليست علامة واحدة، بل خليط… ولهذا أنت خطر.”
ترددت أنفاسي، جسدي ارتعش، وكأن الحقيقة بدأت تنهشني ببطء.
“أي خليط؟”
قال الآخر ببطء وكأنه يحاكم كل كلمة:
“نور وظلام، ريح وصخر، جليد وذهب… بل وحتى العلامة المنسية. كلها فيك. لا تصرخ، لقد حُكم عليك بأن تكون حامل التوازن… والكارثة إن اختللت.”
“أنا… لا أفهم.”
“ستفهم عندما يبدأ الانهيار.”
ثم رفع يده وقال بصوت كأنه وميض سيف:
“افتح عينك الثالثة يا فايل، العالم لم يعُد كما كان.”
صوت ارتطام!
استيقظت في مكانٍ مختلف.
أرضٌ من العظام المتكسرة.
سماءٌ سوداء مملوءة بشقوق ضوئية.
وبقايا صراخٍ متجمّد في الهواء.
“ما هذا الجحيم؟”
التفت، فرأيت مخلوقًا لا يُشبه شيئًا يمكن وصفه. له جسد شفاف، يدور في داخله إعصار، وعيناه من لهبٍ أزرق.
قال بصوتٍ فيه ألف صدى:
“لقد دخلت ساحة المرآة. من هنا تبدأ معاركك الحقيقية.”
شهقت، وتراجعت.
“أنا لا أريد قتال أحد!”
“لكن العالم يريدك أن تُقاتل. وستقاتل.”
“أين…؟ ما هذا المكان؟”
“العالم السفلي للمختارين. هنا تُختبر إرادتك، لا قوتك.”
رفعت يدي فوجدت فيها شيئًا يشبه الخنجر… لكنه كان ينبض… كأنه قلب مقطوع.
“هل هذا سلاحي؟”
قال المخلوق:
“بل هو أنت.”
مرّ الوقت، أو ما ظننته وقتًا، وأنا أواجه كيانات ليست من لحم ودم، بل من فكرٍ ومعنى:
– كيان الخوف، الذي لبس شكل جدتي سيدرا تموت أمامي.
– كيان الكراهية، الذي نطق بصوت أصدقائي وهم يطعنونني بكلماتهم.
– كيان النسيان، الذي حاول أن يسرق اسمي.
لكنني نجوت، لأن العلامة المنسية أضاءت في لحظة يأس… وتحولت إلى بوابة.
دخلتها.
وجدت نفسي أخيرًا في قاعة من الظلال المتحركة.
جدرانها عبارة عن كتابات معلقة في الهواء، تشتعل وتخبو.
وفي المنتصف… العرش.
وعلى العرش… هو.
الرجل المقنع.
“أخيرًا عدت.”
قلت بصوت حانق:
“عدت؟ أنت رميتني في كابوس، في عالمٍ مشوّه!”
“بل أعطيتك أول باب "
“لماذا؟”
“لأنك حامل المصير.”
“لكنني بلا مصير!”
ضحك ضحكةً قصيرة كأنها تنهيدة:
“بالضبط… ولهذا سُميت زائر المصير. لست منه… لكنك حامله "
اقتربت منه، وقلت:
“ما هدفك؟”
“ليس لي هدف… أنا مرشد. والقدر؟ هو العدو”
“كيف؟”
قال بنبرة تغيرت فجأة، صارت أعمق:
“هذا العالم خُلق على سبعة مسارات، وأُعطيت كل مملكة علامة. ولكن العلامة الثامنة… المنسية… لم تكن للتوزيع. كانت للحفاظ على التوازن. لكنهم نسوها، ونسوك "
صمت.
ثم تابع:
" حقيقةً ان العلامة المنسيه المتعارفه عند الناس ليست العلامه المنسيه الحقيقيه ف العلامات لا عدد ولا حصر لها و لكن الناس في هذا العصر لم يعرفو سوى سبع علامات "
دُهشت …
“الآن… العلامة عادت. وأنت هو.”
“إلى أين أذهب؟”
قلّت محتارا و منصدمًا
نهض من عرشه، وبدأت الظلال تنحلّ من حوله.
“إلى حيث يبدأ السرد من جديد. إلى نيراكس… المملكة التي نسيتك”
وقبل أن أسأله كيف أعود، أمسك بجبهتي.
“تذكّر: لن تُكتب السطور القادمة بالحبر، بل بدمك”
ضوء.
ثم سواد.
ثم…
أستيقظ.
أنا في سريري.
غرفتي.
جدتي تناديني من خلف الباب:
“فايل! استيقظ، المدرسة تنتظرك!”
أجلس ببطء.
أنظر إلى يدي… العلامة لا تزال هناك.
وأنا… لم أعد كما كنت