أفتح عيني…

الغرفة كما كانت، الستائر ترفرف بكسل، أشعة الشمس تتسلل بتردّد من خلف الزجاج المغبر، وساعة الحائط تشير إلى السابعة صباحًا.

السرير لا يزال يحمل آثار جسدي القلق، والهواء مشبع برائحة الكتب القديمة وعطر الأعشاب الذي تُصر جدتي “سيدرا” على وضعه كل صباح في أركان البيت.

صوتها يأتي من خلف الباب، بنفس النبرة التي رافقتني منذ الطفولة:

“فايل! المدرسة! لا تجعلني أكرر النداء كأنك غريب في هذا البيت!”

نهضت ببطء، عقلي لا يزال يرفرف بين العوالم… عوالم لم أعد متأكدًا من حقيقتها.

هل كانت تلك الأحداث… حلمًا؟ هل كان سقوط الزمان وانفتاح الأبواب وخوضي في المرايا مجرّد هلوسة؟

لكن عندما نظرت إلى يدي… كانت العلامة لا تزال هناك.

لم تكن وسمًا ثابتًا… بل تشكُّل خفيف من الضوء، ينبض كقلبٍ صغير، يتنفس حين أكون مشتتًا، ويختفي حين أحدق فيه مطولاً. كأنه شيء يختبئ من الإدراك.

غسلت وجهي بالماء البارد، وبدلًا من أن توقظني البرودة من ذاك الشعور الغريب، زادته. كل شيء في هذا العالم بدا طبيعيًا… أكثر من اللازم. وهذا ما جعله مريبًا.

ارتديت زِي المدرسة؛ المعطف الرمادي، وشالي الداكن المفضل، وسرت خارج الغرفة.

البيت كعادته: المذياع القديم يهمس بأغنيةٍ منسية، وجدتي تقلب الحساء كأن الزمن لم يتحرك.

“صباح الخير يا صغيري.” قالت وهي تنظر إلي من فوق نظارتها، “السماء صافية اليوم. لا عذر للتأخير.”

أردت أن أصرخ، أن أقول لها: “لقد اختطفت من الزمن، قابلت نسختي، وقاتلت كيانات ليست من هذا العالم!”

لكن بدلاً من ذلك، تمتمت بصوتٍ خافت: “صباح النور.”

خارج الباب، كان حيّ “لورين” كما عهدته: أطفال يركضون للمدرسة، سيدة تغلق نافذتها الخشبية بصوت صريرٍ مألوف، ومجموعة من الشباب يتحدثون عن مباريات “كرة النور” التي تُلعب عند أطراف نيراكس القديمة.

سرت في الطريق ذاته، لكن عينيّ رأت ما لم تكن تراه من قبل.

كل من مررت بهم… كانت تظهر من ظهورهم خيوط شفافة، تمتد إلى السماء… كأنهم دُمى في يد نولٍ خفي، نسّاج قديم يُدير هذا الوجود. بعض الخيوط رقيقة، وبعضها سميكة ملتوية، وبعضها يتذبذب كما لو كان متردداً.

عدت أتفحص ظهري… لا شيء. لا خيط. لا رابط.

أنا ما زلت الفراغ الوحيد في هذا النسيج.

في فناء المدرسة، كنت كأنني طيفٌ يعبر بين الأرواح.

وهناك… التقيت بأصدقائي.

راين ، الغريب الأطوار، لا يفارق كتبه عن “سلالات الممالك السبع”، يقول إن التاريخ الحقيقي دفن تحت أكاذيب البلاط.

سيلا ، الفتاة التي تزعم أنها تقرأ الهالات، تتحدث عن الألوان التي لا تُرى، وتكتب أحلامها في دفتر صغير مهترئ.

تورين ، ضخم الجسد، طيّب القلب، يضحك من كل شيء، ويصدق القليل.

قال راين، وهو يدفع نظارته للأعلى:

“هل نمت في بُعد آخر؟ وجهك يبدو كأنك خرجت للتو من سرداب قديم.”

ضحكت سيلا:

“لا. بل عاد من بعدٍ لم يرد العودة منه. أرى هالتك… مشوشة، بلونٍ لا أعرف اسمه.”

ابتسمت، ولم أجب. شيء ما فيّ كان يتجنب الاعتراف.

جلسنا تحت شجرة السرو العتيقة، والهواء يحمل رائحة تراب قديم ومطرٍ لم يهطل بعد.

فجأة، قلت دون تفكير:

“هل تعرفون شيئًا عن العلامة المنسية؟”

سكتوا جميعًا.

حتى تورين، الذي لا يجيد الصمت، عقد حاجبيه.

قال راين:

“أي نسخة تقصد؟ هناك ثلاث نظريات: واحدة تقول إنها الفوضى بعينها، والثانية تعتبرها حلقة الوصل بين العوالم، والثالثة تقول إنها أكذوبة أطلقها الأقدمون لإخافة الصغار.”

سيلا همست وهي تنظر إلى السماء:

“من أخبرك بهذا الاسم؟ هذا ليس موضوعًا عابرًا يا فايل. لا أحد يتحدث عنها هنا في نيراكس… إلا الكهنة أو المجانين.”

نظرت إلى كفّي… العلامة بدأت تنبض، وكأن سؤالهم أيقظها.

“أظن… أنني أحملها.”

صمتٌ، ثقلٌ، ثم قال تورين وهو يضحك بتوتر:

“عظيم! لدينا بيننا زائر من الأسطورة! هل ستأخذنا إلى السماء؟ أم إلى قلب الأرض؟”

لكن أحدًا لم يضحك.

بعد انتهاء الحصص، شعرت بحاجةٍ لأن أمشي وحدي.

خطوت في شوارع نيراكس القديمة… قلب المملكة التي وُلدتُ فيها، والتي نسيتني.

المدينة تُدعى ليمارا، وكانت فيما مضى عاصمة للعلوم السحرية، الآن نصفها معمور، ونصفها الآخر مدفون تحت الأنقاض، منذ الحرب الرابعة بين الممالك.

شوارعها مفروشة بحجرٍ رمادي يميل إلى الأزرق، والمصابيح فيها تتوهج بنبضاتٍ خافتة حتى في النهار، وكأنها تخشى الانطفاء.

لكنني… بدأت أرى ما لا يُرى.

بين الأزقة… أطياف تمشي وتختفي.

في زجاج النوافذ… وجوه تحدّق وتبتسم، ثم تتلاشى.

وفي ساحة إيثرون، التي تُقام فيها احتفالات النور، رأيت رجلاً يقف بثباتٍ لا بشري.

رجلٌ بعباءةٍ سوداء، ووجهه مخفي تحت ظلٍ عميق.

حين اقتربت، رفع رأسه.

إنه هو… الرجل المقنع.

لكن هذه المرة… لا قناع.

كان وجهه فارغًا. بلا ملامح. بلا عينين. كأنه بُني من ضبابٍ حي.

قال:

“لا تترك هذا العالم يخدعك بالروتين. أنت لم تعد منه بالكامل، فايل.”

قلت:

“لكنك قلت إنني عدت… وأن العلامة استيقظت.”

أجاب:

“نعم. وعادت معك ذاكرتك… وبوابتك… وأعداؤك.”

“من هم؟”

“ليس من… بل ما. وسترآهم في الوقت الذي يُمحى فيه الظل من مرآته.”

ثم اختفى، كما فعل أول مرة.

في تلك الليلة، وبينما كنت أستلقي على فراشي، حدث شيء.

المرآة في الغرفة بدأت تُضيء.

صوت خرج منها.

لم يكن صوتًا غريبًا…

كان صوتي.

“فايل، استعد. الكيان الأول وصل.”

اقتربت من المرآة، وكانت لا تعكسني.

بل تعكس مدينة محترقة.

سماء من نار.

وساحة قتال… فيها آلاف الهائمين.

ومن بينهم… كيان يتحرك.

عملاق من دخان، عيناه حمراء كدمٍ جاف، وصوته يُحطّم الزجاج.

قال:

“زائر المصير… تمّ العثور عليك.”

في صباح اليوم التالي، خرجت من البيت مبكرًا، لكن المدينة لم تكن كما كانت.

الساحة الرئيسية في ليمارا كانت تعج بجنودٍ غرباء.

دروعهم سوداء، شاراتهم لا تخص نيراكس، بل تخص داركزيل… مملكة الظلال والدم والعقود المكسورة.

اقترب مني أحدهم، بعيون حادة ولهجة خشنة:

“أأنت فايل… ابن الضوء والظل؟”

شعرت بجمودي.

“ماذا تريدون؟”

أجاب:

“أمر من العرش السفلي… تسليم حامل العلامة.”

حدّقت فيه.

أنا؟ أنا لم أطلب هذا.

قلت ببطء:

“لن أسلّم نفسي… لا لكم، ولا لغيركم.”

وفي لحظة، انفجر كل شيء من حولي.

نيران، أصوات، تعاويذ تُلقى في الهواء، خيول تجرّ عرباتٍ من الظلام.

ركضت…

ركضت حتى لم يبقَ شيء خلفي سوى صوت الجلبة.

وفي الركض… رأيتهم.

أرواح تشبهني.

بلا خيوط.

بلا خضوع.

واحدة منهم مدت يدها لي، بعينين تلمعان بصدق غريب، وقالت:

“مرحبًا بك في المقاومة يا فايل… نحن من نكتب المصير، لا من نُسجله.”

2025/07/31 · 4 مشاهدة · 944 كلمة
حاذق
نادي الروايات - 2025