فتحت عيناي على ذات المشهد…

ذات الستائر تتراقص بخفة، الضوء يتسلّل من نفس الزاوية، وساعة الحائط تعلن السابعة صباحًا تمامًا.

الهواء… ذات الرائحة، خيط من عطر جدتي وعبق الكتب العتيقة.

هل هو حلم آخر؟

لكن لا…

العلامة على يدي لا تزال تنبض بوميضها الخافت… ذلك الضوء الخفيف الذي يتنفس ويختبئ حين أحدّق فيه.

صوت جدتي يخترق الصمت من خلف الباب، بنفس النبرة، بنفس الكلمات:

“فايل! المدرسة! لا تجعلني أكرر النداء!”

حدقت في السقف للحظات… قلبي ينبض بوتيرة أغرب من المعتاد.

هذا اليوم… حدث بالفعل.

بكل تفاصيله.

لكنني هنا… في بدايته مجددًا.

كأن أحدهم لفّ الزمن كصفحةٍ قديمة وأعاد فتحها.

ارتديت ذات المعطف، ذات الشال، حتى الحذاء الذي كنت أظنه غير مريح… عدتُ ألبسه بلا وعي.

هبطت الدرج، وأنا أراقب جدتي تعد الحساء بحركات مكررة، كأن الزمن فقد عفويته.

نظرت إليّ وابتسمت:

“صباح الخير يا صغيري. لا عذر للتأخير، السماء صافية اليوم.”

ابتلعت ريقي… لم أرد أن أبدو غريبًا، فقلت بصوت هادئ:

“صباح النور.”

حين خرجت إلى الشارع، كان كل شيء مطابقًا.

الفتى الذي يسقط دفاتره، السيدة التي تغلق النافذة بصوت حاد، والقط الرمادي الذي يقفز من فوق السور بنفس التوقيت.

حتى الهواء له النكهة ذاتها… كأن الحياة أصبحت تسجيلًا يُعاد تشغيله.

رأيت الأطفال، الشباب، الكبار…

الجميع بخيوطهم المتصلة بالسماء، أشبه بعرائس لا تعي مَن يُحركها.

إلا أنا…

ما زلت بلا خيط.

في فناء المدرسة، انتظرت اللحظة التي سأقابل فيها أصدقائي.

تقدّمت نحونا سيلا، راين، وتورين… لكن تعابيرهم كانت عادية.

لا توتر، لا أسئلة، لا ذكر لما جرى أمس.

بالنسبة لهم، هذا اليوم يحدث للمرة الأولى.

قال راين، يدفع نظارته على أنفه بابتسامة ساخرة:

“بدايتك سيئة كالعادة، تأخرت عشر دقائق.”

سيلا أضافت:

“هل حلمت بكوابيسك المعتادة؟ وجهك شاحب يا فايل.”

نظرت إليهم…

لا أثر لأي ذكرى.

لا أحد يتذكر الرجل المقنع… ولا العلامة… ولا داركزيل.

قلت، محاولًا بث بعض التلميح:

“هل… تحدّثنا أمس عن العلامة المنسية؟”

نظروا إليّ وكأني طرحت سؤالًا من كوكب آخر.

قال راين وهو يضحك:

“لا، لكن إن أردت فتح نقاش جديد عن الأساطير، فأنا جاهز. لم أقرأ شيئًا الليلة الماضية، أحتاج مادة دسمة.”

سيلا ضيّقت عينيها، تراقبني بنظرة مريبة:

“أهذا لغز؟ أم أنك بدأت تهلوس مجددًا؟”

تورين ضحك، وهو يصفق على كتفي:

“هو فقط يحتاج نومًا عميقًا. أراهن أنك تشاهد تلك الأفلام الغريبة في الليل.”

جلست معهم بصمت.

أراقب، وأستمع، وأسترجع مشاهد اليوم ذاته… لكنها تتكرّر دون أن يشعر أحد.

خلال الحصص، بدأت أتفاعل أكثر مع التفاصيل.

الكلمات التي قالها المعلم بالأمس… هي نفسها.

الفتاة التي تسقط قلمها عند منتصف الحصة… نفس الحركة.

النافذة التي تُفتح بفعل الريح… نفس الصوت.

أشياء كنت أظنها عادية، أصبحت علامات تكرار.

لكن ما الذي أعادني؟

من؟ ولماذا؟

بعد المدرسة، هذه المرة لم أقرر المشي بلا هدف.

ذهبت مباشرة إلى “ساحة إيثرون”، أتوقع أن أرى الرجل الغامض هناك.

وصلت قبل الموعد الذي ظهر فيه البارحة…

انتظرت.

ثم، هناك…

ظلٌ بدأ يتكوّن قرب النافورة.

كان نفس الرداء الأسود، لكنه هذه المرة لم يقترب.

اقتربت أنا، وحين صرت على بعد خطوات، قال بصوت يشبه الرياح:

“لم تتغير، فايل. لا تزال تُقاوم.”

قلت بحدة:

“لماذا عدت بي؟ هل أنت من فعلها؟”

“أنا؟ لا. أنت من رفض أن يستكمل المسار.”

“ما معنى هذا؟”

“العلامة لا تقودك إلى الأمام فقط… أحيانًا، تعود بك حين تُنكر من تكون.”

صمت.

تابع هو، وعيناه تلمعان من خلف الظل:

“أنت مختلف. بلا خيط، بلا قدر. كل خطوة تخطوها تصنع مفترقًا. لهذا… أُعيد الزمن.”

“هل سيتكرر هذا اليوم إلى الأبد؟”

“لا، بل حتى تختار. إما أن تتبع الخيط، أو تقطعه بالكامل.”

عدت للبيت في الغروب، وفي قلبي سؤال:

هل سأستيقظ غدًا في نفس اليوم؟

وهل سيظل أصدقائي في ظلامٍ لا يدرك التكرار؟

وماذا إن بدأت أنا أنسى، كما نسوا؟

في غرفتي، نظرت إلى المرآة…

ولكن انعكاسي لم يكن كما عهدته.

كان يحدق فيّ… ثم قال بصوتي:

“المرة القادمة… لن تعود وحدك.”

ثم اختفى.

2025/07/31 · 5 مشاهدة · 607 كلمة
حاذق
نادي الروايات - 2025