كانت الشمس لا تزال في مكانها المعتاد، تشق طريقها بكسل عبر الغيوم البيضاء، تُلقي بوهجها المائل إلى الذهبي على واجهات البيوت الحجرية.
لكن داخلي، لم يكن هناك نهار… فقط ارتباك.
لم أُخبرهم.
راين، بسيلا، وتورين… لم أجرؤ على أن أنطق بما جرى. لم أُخبرهم أنني استيقظت اليوم مرتين، أنني سمعت صوتًا من مرآتي يتحدث بصوتي، وأن رجلًا بلا وجه حذّرني من عدوٍّ لا اسم له.
كأنني سجين في حلقة، تدور بي وحدي.
“هل أنت بخير حقًا؟” سألت سيلا، وهي تميل برأسها قليلًا لتتفحّص وجهي.
“نعم، فقط… أظنني نمت قليلًا جدًا.”
راين أطلق ضحكة قصيرة وساخرة: “أنت لا تنام، أنت تنتقل عبر الأبعاد أثناء نومك.”
تورين ابتسم، لكن نظرته لم تكن مطمئنة، بل فيها قلق حقيقي.
جلسنا قرب الشجرة نفسها، في ذات المكان من البارحة – أو ما يفترض أنه البارحة – وتكرّر كل شيء بدقة مزعجة… نفس السناجب تتشاجر على غصن، نفس الريح العابثة تسحب ورقة من دفتر أحد الطلاب.
أنا وحدي من كنت أشاهد المشهد كمن يُجبر على إعادة عرض مسرحي.
سألت فجأة، محاولًا كسر هذا الدوران الذي ينهشني:
“راين، هل قرأت من قبل عن ظاهرة تكرار الزمن؟”
رفع حاجبه: “هل تتحدث عن حلقة الزمن؟ كأن تعيش اليوم ذاته مرارًا؟ نعم… هناك أساطير عن ذلك. لكن لا أحد يعتقد أنها أكثر من استعارة فلسفية.”
“استعارة عن ماذا؟”
أجاب بنبرة تحمل بعض الفلسفة: “عن الشعور بأننا سجناء لا نملك إرادة، وأننا نُعيد أخطاءنا لأننا لا نتغير. الزمن لا يتكرر… نحن من نعيد أنفسنا.”
سيلا قاطعت الحديث، وقد كانت تنظر إلى السماء: “لكن إن تكرّر الزمن فعلًا، فهل نكون فيه أحرارًا… أم مسجونين أكثر؟”
تورين تمتم: “كلامكم هذا يجعلني أشعر أن هناك شيئًا خطأ.”
تجاهلت رعشة الخوف في قلبي، وابتسمت كأنني أمزح:
“ربما نحن فقط شخصيات في كتاب… والمُؤلف يعبث بنا.”
ضحكوا… لكن داخلي لم يضحك.
⸻
مع نهاية اليوم، حين تفرّقنا، سرت وحيدًا مرة أخرى.
الشوارع لم تتغير، لكنني كنت أراها هذه المرة بتأملٍ مختلف.
خيوط الظهر التي رأيتها سابقًا على الناس… عادت.
تتراقص فوق رؤوسهم، تمتد من ظهورهم وتختفي في السماء، كأنهم عرائس في يد قوة غامضة.
لكنني، مجددًا، بلا خيط.
سرت إلى المكتبة القديمة المهجورة في الحي الشرقي، تلك التي أغلقوها منذ سنوات بعد احتراق جزء منها. لم أزرها من قبل، لكن قدماي قادتا نفسي إلى هناك، دون وعي.
فتحت الباب الصدئ، ودخلت.
رائحة الورق المحترق امتزجت برائحة الرطوبة… وكانت هناك طاولة.
وعلى الطاولة… كتاب واحد فقط، مفتوح.
صفحة وحيدة كُتب في أعلاها:
“العلامة لا تظهر إلا لمن نسِي اسمه الحقيقي.”
تجمدت.
كان هناك مرآة بجوار الطاولة، مغطاة بقماش أسود.
اقتربت، رفعت القماش.
المرآة لم تعكسني.
بل عكست نفس المدينة… تحترق. نفس العملاق الذي رأيته سابقًا… وصوتي، يتردد خلفي، لكنه قادم من أمامي:
“فايل… لقد اخترت الطريق، والآن الطريق يختارك.”
“ما الذي يعنيه هذا؟” سألت وأنا أحدق في عينيَّ – أو في ظلّي.
“أنت لا تنتمي لهؤلاء، لا راين ولا سيلا ولا تورين. إنهم يتبعون مسارهم… أما أنت، فإنك تتقاطع مع المصير.”
“لكنني لا أفهم!”
“ولن تفهم… قبل أن تعود للمرة الثالثة.”
“ثالثة؟”
“الزمن، يا فايل، ليس خطًّا. إنه دائرة تنغلق عليك حين تفتح بوابتك.”
وفجأة… كل شيء سقط. كأن الأرض انسحبت من تحت قدمي.
⸻
أفتح عيني مجددًا.
الساعة… السابعة صباحًا.
رائحة جدتي… القهوة… صوتها خلف الباب.
“فايل! المدرسة! لا تجعلني أكرر النداء!”
جلست في مكاني… هذه ليست المرة الثانية.
هذه هي المرة الثالثة .
وكان صباح اليوم الثالث أثقل، كأن الهواء مشحون بطاقة غير مرئية.
كنت أعلم أن هذه ليست مجرد إعادة. هناك شيء تغيّر.
شعرت به في ارتجافة أصابعي، وفي نبض العلامة على راحة يدي، التي باتت تتوهج أكثر من قبل.
خرجت من المنزل بخطوات محسوبة. المدينة لم تتغير، لكنني كنت أرى شذرات كانت خفية من قبل.
الخيوط على ظهور الآخرين كانت تتلألأ كما في السابق، لكن لأول مرة، رأيت وميضًا بجانبي — كخيط بدأ بالظهور، هش… لكنه حقيقي.
في المدرسة، تكررت نفس الأحداث… لكن داخلي كان يتغير.
اقتربت من أصدقائي، بحذر.
“سيلا”، قلت بهدوء، “هل شعرتِ يومًا أننا لا نسير فقط في الطرق… بل أن الطرق أحيانًا تتبعنا؟”
نظرت إليّ بعينين فضوليتين.
“أحيانًا… لكن لماذا تسأل؟”
ترددت.
“أظن… أنني بدأت أرى ما وراء الخيوط.”
عقد رين حاجبيه، وعدّل نظارته:
“فايل، أنت تغرق في الغموض مجددًا.”
“لا، الأمر مختلف هذه المرة. العلامة… إنها تستيقظ. شعرتُ بها البارحة، في المرآة.”
ضحكة تورين اختفت تدريجيًا.
“لا يعجبني هذا المسار.”
في وقت لاحق، قرب النافورة القديمة، شعرت بوجود الظل مجددًا.
لكن هذه المرة، الرجل بلا وجه لم يختبئ.
كان صوته أوضح:
“البوابة لم تعد مجرد ممر. إنها اختيار. يمكنك إغلاقها للأبد — أو فتحها لعالم لا يجرؤ الآخرون على رؤيته.”
“ولِمَ أنا؟” سألت.
“لأنك تتذكّر ما نسيه الآخرون. لأنك الخيط الذي يمكنه فك النسيج.”
وهكذا، أُغلق اليوم الثالث… ليس كحلقة زمنية فقط، بل كباب.
كلمات الرجل بلا وجه ترددت في ذهني وأنا أغادر النافورة، وظله يذوب في ضباب المساء:
“أنت الخيط الذي يمكنه فك النسيج.”
ماذا يعني هذا؟ أنني أملك القدرة على كسر الحلقة؟ على تغيير القصة التي حُبس فيها الجميع؟
لأول مرة، شعرت بثقل الاختيار — حرية لا تُحتمل.
في تلك الليلة، في غرفتي، نظرت إلى العلامة على راحة يدي.
لم تعد مجرد وهج باهت — بل كانت تنبض، كقلب حي.
لمستها برفق، فاندفأ الدفء إلى ذراعي.
تدفقت الصور خلف جفوني — رؤى لأماكن لم أزرها من قبل، وجوه لم أرها… لكنني بطريقةٍ ما أعرفها.
ساحة معركة مغمورة بالنار والظلال.
امرأة بعينين كأنهما زجاج محطم.
همسات باسم ضائع عبر الزمن.
شهقت، وسحبت يدي.
المرآة عبر الغرفة وميضت مجددًا، لكن هذه المرة، لم تُظهر مدينة محترقة… بل شبكة خيوط متوهجة تمتد عبر سماء مظلمة لا نهاية لها.
خيط واحد كان يضيء أكثر من البقية.
كان أنا.
فجأة، امتدت يد من المرآة — شفافة، تتلألأ كضوء النجوم.
ترددت، ثم أمسكتها.
جرتني موجة من الطاقة… وتشوش بصري، وعندما عاد، كنت واقفًا في مكان بين العوالم.
عالم من الشفق، حيث تتداخل أصداء الماضي والمستقبل.
وهناك… كانت امرأة تنتظرني، ترتدي رداءً فضيًا، ووجهها هادئ… وحزين.
قالت بنعومة:
“مرحبًا، يا فايل. لقد تجاوزت البوابة. وقليلون فقط يعودون من هنا كما كانوا.”
“من أنتِ؟” سألت، وصوتي يرتجف.
“أنا حارسة الأسماء”، أجابت.
“أحرس الحقائق التي نسيها من عاشوا حياة واحدة فقط. تحمل العلامة المنسية لأنك نسيت اسمك الحقيقي… ذاتك الحقيقية.”
قبضت على يدي.
“ماذا عليّ أن أفعل؟”
“يجب أن تتذكّر. تذكّر من كنت قبل أن تقيدك الخيوط. فقط عندها يمكنك أن تختار طريقك — أن تُصلح أو تُحطّم نسيج القدر.”
زمجرة فجائية مزقت السكون.
الظلال تجمعت عند أطراف العالم، مظلمة وجائعة.
قالت بتحذير:
“الأعداء قادمون. يريدون العلامة… والقوة التي تحملها. لست وحدك في هذه المعركة.”
شعرت بثقل المصير يعصف بي من جديد.
قلت بصوت ثابت:
“سأقاتل.”
هزّت رأسها بإيجاب.
“جيد. لكن اعلم هذا: الطريق سيكون خطيرًا. ثق بقليلين… وثق بنفسك أكثر من أي شيء.”
وقبل أن أتمكن من الرد، انحلّ العالم من حولي… وعدت إلى غرفتي.
المرآة عادت سوداء.
نظرت إلى يدي.
العلامة لم تعد مجرد توهج — بل كانت تنبض، كما لو أنها قلب ينبض بالحياة.
وغدًا… ربما تبدأ الدورة من جديد.
لكنني لم أعد كما كنت.
لم أعد سجين الزمن.
بل أصبحت الخيط الذي قد يفك نسيجه