كان الهواء ثقيلاً داخل خيمة القيادة، على غير العادة.

الضوء الخافت للشموع المرتجفة لا يكاد يكشف تفاصيل الخريطة المفروشة على الطاولة، لكن أحدهم كان يراها بوضوح داخله… وكأنه حفظ تضاريسها داخل شرايينه.

ساكامو جلس على الجانب الأيسر، كتفه مستند إلى راحته، وعيناه مرهقتان من التفكير… أو من الصمت.

على الطرف المقابل، كان سامورو واقفًا. لم يجلس، لم يتحرّك.

عيناه تحدقان في نقاط التقاء الخطوط على أطراف خريطة أرض النار، كأنها أبواب مفتوحة نحو كوارث تنتظر.

قال ساكامو أخيرًا، بصوت منخفض:

“هذه المرة… لا أستطيع قراءة خطواتهم.”

ردّ سامورو، بهدوء أكثر مما يجب:

“لأنهم لا يخطون خطواتهم… بل يردّون على من يدفعهم إليها.”

رفع ساكامو نظره ببطء.

“أنت.”

أومأ سامورو دون نفي ولا تأكيد، وقال:

“كل ما نشهده الآن… ليس سوى مقدمة. تشو هاجمت الرمال، والرمال استجابت.

لكن من زرع البذرة؟ من سرّب المعلومة؟ من جعل الضربة حادة في اللحظة الحرجة؟”

تصلّب فك ساكامو، نظر إلى أخيه طويلًا قبل أن يرد:

“أنت تعرف أني لا أحب هذا النوع من اللعب. أنت تتلاعب بمصائر قرى كاملة…!”

“بل أوفّر عليهم طريقاً أطول.

أنت تقاتل لتمنع الحرب… وأنا أسمح بها الآن، كي لا تستمر لاحقًا لعشر سنوات.”

ضحك ساكامو، ضحكة مندهشة:

“أهذا منطقك؟ الحرب الآن… لسلام لاحق؟! كم من جثث تحتاج لتُقنع بها نفسك؟”

اقترب سامورو من الخريطة، أشار إلى نقطة قرب وادي المطر، وقال:

“إذا لم تتدخل آيوا الآن، ستتدخل بعد سبعة أيام كحد أقصى.

وإن لم يفعلوا، فإن كازيكاجي الرمال نفسه سيبدأ طلب دعم علني.

الطرفان لن يسمحا للمطر أن تكسب… لأنهما يعرفان أنها الخطر الصامت.”

تراجع ساكامو للخلف قليلًا، يضع إصبعه على جبهته.

“سامورو… هل فكّرت أن هذا قد لا يحدث؟ أن الناس لا يتصرّفون دائمًا كما هو متوقع؟”

“خطأ.”

رد سامورو بثقة.

“الناس لا يتصرفون كما نتمنى… بل كما يخافون.”

سكت ساكامو لثوانٍ، ثم قال:

“أكمل.”

لمعت عينا سامورو للحظة، ثم تابع:

“إذا تدخلنا نحن في المعركة بين المطر والرمال، فإن كومو ستعتبر ذلك فرصة ذهبية لتوسيع نفوذها من البحر.

وإن لم نتدخل… سنترك الساحة لصخر ورمل يبنيان جبهة طويلة ضدنا.”

هنا، ارتجف رمش ساكامو للحظة.

“كومو أيضاً…؟ أنت تتوقّع تحركهم؟”

“لا. أنا أراه قادمًا.

وإن لم يأتِ الآن، فسيكون بعد سقوط أول معسكر طبي من كونوها في الجبهة الجنوبية.”

“وكيف… عرفت أن أول معسكر طبي سيُستهدف؟”

اقترب سامورو أكثر، خفض صوته وقال:

“لأن تسونادي هناك.

ولأن من يريد شلّ كونوها… سيضرب القلب، لا السيف.”

صُعق ساكامو، ولم يُخفِ ذلك.

“أنت تتوقع حتى مكان الضربة القادمة…؟”

“وأتوقّع من سيرد عليها.”

“من؟”

“اسم تعرفه جيداً”

لمعت عينا ساكامو بدهشة صافية.

" هل تتوقّع أن تكون نقطة التحول؟”

“هو شخص لا احد يعرف امكانيته اكثر مني ولا احد يعرفه اكثر مني

والشخص الذي لا تُفهم حركته… هو أخطر من القائد الذي نعرف نواياه.”

"لكنه ليس معنا في الوقت الحالي"

"سياتون قريباً"

ساد صمت طويل.

ساكامو وقف هذه المرة، دار خلف طاولته، وتوقف أمام أخيه مباشرة.

“أريد أن أسألك الآن… بصفتك أخي، لا مخطّطاً.”

نظر إليه سامورو بهدوء.

“هل ما تفعله… تراه صحيحًا؟”

“لا أعرف.”

رفع ساكامو حاجبه، لم يتوقع الجواب.

أكمل سامورو:

“أنا لا أعرف إن كنت على صواب.

لكني أعرف أن كل ما يُترك للزمن ليقرره… سيكون قد فات أوانه حين يُكتشف أنه خطأ.”

سكت ساكامو، مشى خطوات نحو الخيمة، ثم التفت وقال:

“أنت تخيفني أحيانًا يا سامورو.”

“وأنت تريحني… لأنك الشخص الوحيد الذي لا يملك طموحاً بالدم.”

ابتسم ساكامو، نصف ابتسامة، لا هي رضًا ولا استسلامًا.

“لكن لا تنسى… حتى من لا يريد الدم، يضطر إليه حين يتساقط على خطواته.”

أومأ سامورو بخفة، ثم قال:

“أعلم. لهذا أحاول أن أختار متى يسقط… لا أن أتركه يختارني.”

اقترب سامورو من خيمة المستودع الطبي، عاقدًا يديه خلف ظهره، وعيناه تراقبان تسونادي التي كانت منشغلة بفحص أعشاب طبية بلونٍ باهت.

قال بنبرة متفلسفة:

“تعلمين، قرأتُ مرة أن من يُنظّم الأعشاب بدقة… يعاني من عقدة السيطرة.”

ردّت دون أن ترفع رأسها:

“ومن يقتحم خيمة الطب ليرمي الفلسفة… يعاني من فراغ قاتل.”

ابتسم، تقدم بخفة:

“أظن أن جزءًا من هذا الفراغ سببه أنكِ لم تعبّري لي يومًا عن إعجابك بعقلي.”

رفعت رأسها ببطء، ونظرت فيه لحظة، ثم قالت ببرود:

“إعجابي الوحيد بك… هو أنك ما زلت تتنفس بعد كل ما تقوله.”

ضحك، لم يتأثر، بل اقترب أكثر وقال:

“صدقيني… لو كنت أصغر بقليل، لأغرمتِ بي.”

نظرت إليه، ثم قالت بلهجة باردة:

“وأنا؟ لو كنت أغبى بقليل… لربما صدّقت.”

ضحك بصوتٍ أعلى.

“آه، تسونادي، كلما تحدثتِ، شعرت أن العالم لا يزال بخير.”

“وأنا… كلما رأيتك، تذكّرت أن على العالم أن يُسلّح أطباءه.”

اقترب أكثر، وهمس:

“لو لم أكن أنا… لاخترتِني.”

رفعت حاجبيها:

“ولو لم أكن أنا… لصفعتك.”

ثم دون سابق إنذار، رفعت راحة يدها وصفعته بخفة على قفاه، صفعة خفيفة لكن دقيقة، جعلته يرتج للأمام خطوة.

تجمّد لحظة، ثم التفت إليها، ممسكًا برقبة عباءته:

“حقاً؟ ضربة؟ أمام الأعشاب؟”

ردّت بابتسامة عريضة:

“لا تقلق، كانت طبية. لتفريغ الغرور المتراكم.”

تنهد، ثم تمتم وهو يغادر:

“لو أن كل الضربات تحمل هذا الذكاء… لأصبتُ نفسي كل صباح.”

صوت ضحكتها الخافتة تبعه حتى خروجه من الخيمة، وكأنها صفعة ثانية… لكنها أدفأ.

.

ترك سامورو خيمة الطب وعلى وجهه ابتسامة لم تُر منذ أيام.

كانت ضحكة تسونادي، وإن جاءت ساخرة، تحمل في طيّاتها شيئًا يُشبه الحياة.

وهو… بحاجة لأن يتذكّر طعم الحياة، ولو على شكل صفعة.

اتجه بخطوات هادئة إلى منطقة الطعام.

صوت الصحون الخفيفة، رائحة الأرز المطهو على عجل، همسات الجنود المتعبين… كلها صنعت مشهدًا مألوفًا.

جلس على طرف طاولة خشبية مزدحمة، بجوار شاب جينين كان يحاول دون جدوى أن يُمسك قطعة خبز انزلقت في الحساء.

“قتالك مع الخبز هذا أكثر إثارة من النينجستو،” قال سامورو.

رفع الفتى رأسه، فوجئ، لكنه ابتسم فورًا:

“أوه! سامورو-سان، المعذرة… لم أتوقع أن تأكل معنا.”

“لم أتوقع أن أقاتل خبزًا أيضاً، لكن هكذا تسير الحرب، أليس كذلك؟”

ضحك من حوله.

انفرجت الوجوه المتعبة.

حتى الطباخ عند الزاوية، الذي عادة ما يتذمر من كل شيء، قال بصوت مرتفع:

“أخيرًا من يقدّر طبخي !”

رد سامورو:

“بل نقدر شجاعتك في استخدام السموم وتسمتها طبخ.”

ضحكات أخرى انطلقت، قصيرة… لكنها صادقة.

بعد الطعام، تجوّل سامورو قليلاً بين الخيام، يتبادل الحديث مع بعض الفرق، يربّت على كتف المصابين، ويقف لحظات مع الجنود الصامتين.

لم يكن يتحدث كثيرًا، لكنه كان يترك أثرًا.

وعندما اقتربت الشمس من المغيب، عاد إلى خيمته.

أغلق الستارة خلفه، ونزع عباءته ببطء.

وقف أمام مرآته الصغيرة، وتطلع إلى جسده العاري جزئيًا.

ندوب، خدوش، آثار قديمة وحديثة.

ثم… ذلك الجرح، جهة رقبته، حادّ، عميق، خافت اللون، لكن لا يُنسى.

لمسه بأطراف أصابعه.

شعر بوخزة.

ليست من الألم… بل من الذكرى.

“ليس بعد…” تمتم، وكأنه يعترف بشيءٍ لنفسه فقط.

“لم أبلغ بعدُ ما يكفي… لأمنع ما حدث.

لم أبلغ بعدُ ما يكفي… لأُوقف ما سيحدث.”

أغمض عينيه.

صوت المعلم القديم يعود من الذاكرة، في ليلة عاصفة:

“اصبر… اصبر الى متى ستكون عجول يا ايها الصبي ، ليس هكذا يسحب السيف ”

ذكرى اول تدريب مع سينسي

فتح عينيه ببطء، وهمس:

“لكني أراه الآن، سينسي … أرى السيف متى يجب أن يُسحب، ومتى يجب أن يُعاد إلى غمده.”

جلس على الأرض، مدّ رجليه، وأسند ظهره إلى الحائط.

أفكاره انسابت، لم يُوقفها:

ميناتو… عبقري بسرعة الضوء، لكن خلف تلك السرعة، هناك قلب شفاف كالماء.

كوشينا… نار لا تنطفئ، لكن نارها تنير لمن حولها، لا تحرقهم.

ثم…

يارا.

صمت.

طويل.

متأمل.

“يارا…”

قالها كأنها دعاء.

كأنها لغز، لا يريد أن يُحل.

ثم ابتسم.

غرق المعسكر في الليل.

وفي داخله… شينوبي لم يخلد للنوم، بل جلس يستمع لصوت الصمت، وينتظر… صوت المعركة.

2025/05/10 · 36 مشاهدة · 1180 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025