الفصل 192: الوريث (18)

رغم مرور نصف قرن، ما زال كازار يتذكر تلك الحادثة من طفولته بوضوحٍ شديد.

ربما لأنه وُلد ابنًا لجنرالٍ مشهور، فحتى بعد نفيه في السابعة من عمره وتجواله في البراري قبل أن يُؤخذ إلى المحجر، كان والده طويل القامة وقوي البنية على نحوٍ لافت.

لقد كان قويًّا إلى درجة أن مالك المحجر، خوفًا من أن يحاول الهرب، أبقاه مقيدًا بالأغلال حول كاحليه حتى بعد أن تجاوز العشرين من عمره.

رغم كونه عبدًا، كان والده سريع الغضب ولا يتردد في مواجهة المشرفين.

كان المشرفون يعتبرون الضرب والركل أمرًا عاديًا، وأحيانًا كانوا يعلّقون العبيد ويجلدونهم بالسياط أو يمنعون عنهم الماء لأيام.

وفي أحد الأيام، ولسببٍ غير معلوم، انهال والده بالضرب على أحد المشرفين حتى كاد يقتله.

عندها هدّد صاحب المحجر بأنه سيبيع التوأمين لتجار العبيد عقابًا على فعلته.

ركع والده أمامه متوسلًا، فقال له صاحب المحجر مشيرًا إلى صخرة ضخمة.

إذا استطعت خلال يومين فقط أن تحطم تلك الصخرة إلى قطع صغيرة وتنقلها أسفل الجبل، فلن أبيع طفليك.

لم ينم والده طوال يومين، يضرب الصخرة ليلًا ونهارًا.

لكن تحطيم صخرةٍ كهذه، التي يتطلب كسرها عادةً عشرة عبيد يعملون لأكثر من أسبوع، كان أمرًا مستحيلًا حتى لرجلٍ قوي مثله.

في الصباح الباكر، اقتحم تاجر العبيد المحجر، وهكذا، في سن التاسعة فقط، بيع التوأمان كعبيد في المناجم.

ماذا لو كان هناك شخص مثل سيرابيون في ذلك الوقت ليساعدهم؟

لا، ماذا لو كان اللورد قد حرّم بيع وشراء الأطفال مقابل المال؟

بينما كان يستمع إلى كلمات سيرابيون، راوده هذا التفكير المؤلم.

"اهدأ يا كازار."

كان يخشى أن يؤذي كازار ابن دوق نونيمان، لكن الأمر بدا غريبًا، فالمشاعر التي كان يشعر بها من كازار لم تكن غضبًا جامحًا.

"كنت أظن أن حياتي صارت جحيمًا لأنني وُلدت لأبوين خاطئين..... اللعنة، لكن يبدو أن هناك من يستحق اللوم أكثر منهم."

وبينما كان غاضبًا، كان يبتسم ابتسامة باردة جعلت الآخرين يشعرون بمزيد من الخوف.

"كنت أظن أن استعباد الناس وبيعهم وشرائهم كأنهم سلع أمر طبيعي لأنه يحدث كثيرًا.....لكن لا، لم يكن طبيعيًا أبدًا يا أخي، بل كان هذا العالم هو المريض والمشوه الذي جعل ذلك يبدو طبيعيًا."

عند كلمات كازار شعر إرنولف بالاختناق.

كازار، ذلك الذي كان يعتبر حياة البشر أقل قيمة من حياة النمل، ذلك الطاغية الذي قتل حتى أطفاله وزوجته بيده.

كان يلعن هذا العالم القاسي.

'كازار…….'

وقف إرنولف خلف كازار، مستعدًا لاستخدام سحره في أي لحظة، مترقبًا الإشارة.

لو أراد كازار أن يحطم العالم فكان يتمنى أن يحطمه معه، ولو أراد أن يقلبه رأسًا على عقب فكان يريد أن يقلبه معه.

وأدرك شيئًا، أنه لم يعد قادرًا على أن يظل متفرجًا في هذا العالم بعد الآن.

"أنا وريث نونيمان وتلميذ كونت ديتوري الوحيد. بالطبع هذه الأرض لي."

"مرة واحدة."

"ماذا؟"

"عندما تتوسل أن أنقذك، مرة واحدة فقط، سأحفظ لك الحياة."

رايان كان وريث دوق نونيمان، لكنه لم يكن الدوق بعد. ومن يملك سلطة منح هذه الأرض كإقطاعية ليس هو، بل والده وحده.

ومع ذلك، حاول كازار التفاوض مع رايان. فكون رايان قد تربى بهذه الفوضوية لم يكن ذنبه وحده، بل كان نتيجة مباشرة لتربية دوق نونيمان. كان يبدو صارمًا في الظاهر، لكن ذلك لم يكن سوى مظهرٍ خارجي. فالجميع في بنغريل كانوا يعلمون أن الدوق دلّل ابنه الوحيد الذي رُزق به بصعوبة، وتسامح معه في كل شيء حتى أصبح مدللًا متهورًا.

وإن أصرّ رايان على عناده، فسيكتفي والده بالتنهيدة المعتادة، ثم يمنحه ما يريد في النهاية.

"ماذا؟ تفاوض؟ هذا غير ممكن."

انتفخت عروق كازار على ظهر يده، وتوهجت طاقته الهائلة كأنها لهب يحيط بهما.

"في هذه الحالة، سأذهب مع الجميع إلى دوق فالين."

"آه...… إذًا تريد أن تفعل هذا، أليس كذلك؟"

"كيف تنوي استمالتي وأنت لا تملك حتى قطعة أرض بائسة تقدمها لي؟"

كان دوق فالين أحد أفراد العائلة الملكية، يحمي الملك الدمية ويقاتل لاستعادة مجد الأسرة المالكة من دوق نونيمان.

وفي حياته السابقة، استخدم كازار ذلك الدوق بدهاء، فضعّف قوة دوق نونيمان تدريجيًا، وبفضل ذلك، حمى مملكة بنغريل من تهديد مملكة هيلام.

"ثلاث مرّات."

"ماذا؟"

"أنا الرجل الذي يردد والدي أنه لو استطاع لقتلني اثنتي عشرة مرة في اليوم. إنقاذك مرة واحدة لا يكفي أبدًا."

"يا لها من مفاخرة......."

"ثلاث مرّات! عندما أتوّسل بأن ترجع لي الحياة فلا بد أن تنقذني تلك المرة. ما رأيك؟"

"........"

لم يكن كازار راغبًا في إنقاذ حياة رايان ثلاث مرّات، حتى إنقاذ مرة واحدة كان مقبولًا، لكن ثلاث مرات؟ فبعدها سحب يده.

عندما انفصلت الهاله عالية الكثافة التي كانت متلامسة، هبّ ريح اجتاحت الورشة لوهلة.

"ثلاث مرّات لا أستطيع. سأأخذ الجميع وأذهب إلى دوق فالين."

لم يقبل رايان أن يُنتزع صديقه المفضّل على يد رجال فالين، فصرخ سريعًا.

"إذًا، مرتان!"

"مرة واحدة."

"مرة واحدة قليلٌ جدًا...…"

"إذا جعلتني عدواً لك فستكون لك مئة سنة من المتاعب."

من الخلف، رفع إرنولف يده بهدوء معبّرًا عن رغبته في الانضمام كذلك. عند رؤيته، ابتسم كازار بشدة.

"إذا منحتك إقطاعية، هل ستتعهد بالولاء لعائلة نونيمان؟"

كان منح الألقاب والإقطاعات من صلاحيات الملك، لكن منح أراضٍ وتعيين فرسان كان من سلطة أي لوردٍ محلي.

وهذا ما كان رايان يقصده بسؤاله.

"لا، سأحصل على الأرض فقط دون كل تلك التفاهات."

"أي منطق هذا؟ لا يمكن ذلك!"

فأجابه كازار مقاطعًا كلماته بنبرة حادة، كأنه يعض كل حرف.

"قلت إنني…...سأُنقذك مرة واحدة، أليس كذلك؟"

وكان في صوته نبرة خفية تقول: 'وأنا أُقاوم رغبةً في قتلك الآن.'

"هل يمكنك أن تُقسم بالـ(المطلق)؟"

كان يقصد أن يُقسم للخالق، ذلك الذي يُسمّى المُطلق، الخالق الذي صنع هذا العالم، لا مجرد كائن متعالي.

"أليس والدك من أتباع كنيسة فيستا؟"

"أمّي هي التي…... على أي حال، هل ستقسم أم لا؟"

"سأقسم."

"جيد. انتظر لحظة فقط."

أدخل رايان يده في صدره وأخرج قطعة ذهبية مزخرفة. كانت قلادة على شكل دائرةٍ بداخلها دائرةٌ أخرى، وفي مركزها نواة مستديرة لامعة.

"هل هذا رمز الكاهن الأعظم حقًا؟"

كان الشكل مختلفًا قليلًا عمّا يعرفه كازار.

فالرمز الذي يعرفه للكاهن الأعظم يجب أن يحوي اثنتي عشرة نجمة محفورة عليه.

"إنه من الطائفة الأصلية، أنت تعرف الكثير على ما يبدو."

ثم مدّ القلادة نحوه بعجلة وهو يقول.

"هيا، أقسم بسرعة."

وفي تلك اللحظة، لمحها إرنولف الذي كان يقف خلف كازار. رأى الدائرتين المتداخلتين وفي مركزهما نواة مضيئة. ومن بعيد… بدت وكأنها تمامًا.......

"انتظر!"

اندفع إرنولف بسرعة نحو رايان محاولًا الإمساك بما أسماه نقش الأصل، لكن رايان قفز إلى الخلف غريزيًا متفاديًا قبضته.

"ما الأمر؟! الآن جاء دورك لتهاجمني؟!"

رفع رايان درع الهاله حول جسده فورًا، تحسبًا لأن يُسقط عليه إرنولف صاعقة سحرية.

"انتظر لحظة، دعني أرى ذلك الشيء فقط."

مندهشًا، تكلم إرنولف على سجيته بلهجته الأصلية ومد يده نحو رايان. ورغم حذره، سلّم رايان القلادة إليه بتردد واضح.

'الشكل العام مختلف قليلًا، لكن عند جمع النواة في المنتصف مع الدائرتين، يبدو وكأنها ثلاث دوائر متراكبة.....يشبه النقش المحفور على تلك الأداة الأثرية تمامًا......'

كان في هذا العالم حاكم واحد خلق كل شيء، لكن الأديان التي عبدته لم تكن واحدة. فكل طائفة فسّرت المُطلق بطريقتها الخاصة، وانقسمت القوانين والعقائد إلى مذاهب متعددة، لكل منها رموزها وتماثيلها وشعاراتها الخاصة.

"قلت إن هذا من طائفة الأصل، صحيح؟"

أعاد إيرنولف رمز الأصل إلى رايان وسأله عن مكان معبد عبادة الأصل.

"هل هذا مهم الآن؟! إننا نتفاوض على إقطاعية تذهب وتعود بيننا!"

قلّد بحركات يديه شكل أرضٍ تُنقل من مكان لآخر، وبرغم طبيعته المشتتة وضعف تركيزه، كان ما قاله ملاحظة في محلها.

فقرر إرنولف تأجيل سؤاله حول الأمر إلى وقت لاحق، وتراجع بخطوة هادئة.

"يقولون إنك إذا أقسمت للمطلق وخُنت قسمك فستُراق الدم. أنا وعدت أمي أنني سأحضر زيارة المعبد الرئيسي بالتأكيد، ثم هربت، فثُقِب بطني وكنت على وشك أن أموت."

كان على وشك أن يُريهم الندبة بجانب سُرَّته، ثم أدرك فجأة أنه انحرف عن الموضوع، فعاد رايان ليُقدّم رمز طائفة الأصل مرة أخرى.

قهقه كازار في صدره ثم أقسم على القلادة كما يشاء رايان.

"أنت أيضًا اقسم يا الولد. وإذا لم تعطيني إقطاعية ديتوري، فتأكد أن تقول إنك تريد أن يُثقَب لك ثقبٌ آخر بجانب سرة بطنك."

رغم تشتت ذهنه بعض الشيء، كان كازار دقيقًا حتى في هذا الموقف. عبس رايان وتظاهر بالحزن كأنه بالفعل طُعن وبالكاد نجا، ثم أقسم.

"انتهينا؟ الآن هل سنذهب لضرب أبانوس؟"

قال رايان بحماس. لم يكن يهمه ما حدث لتوه، كان دومًا متحمسًا. وبوجود رايان بهذا المزاج بدا كازار أكثر رشداً بالمقارنة.

"هل ستشنّ الحرب بمفردك؟ لقد قلت لك مراتٍ إنك بحاجة إلى جيش وتحضيرات كثيرة."

"إذًا، علينا الذهاب إلى إندويل. هناك سيكون عددٌ هائل من الجنود."

"إندويل؟ أي جيش يمكن أن يكون هناك...؟"

"أبي هناك."

عند سماع ذلك، تبادل كازار النظرات مع إرنولف، فأومأ الأخير برأسه قائلاً إنه حان وقت عودته إلى إندويل أيضًا.

وفي تلك الأثناء، حاول رايان سرقة إحدى الأدوات من طاولة سيرابيون، لكن كازار رآه وضربه على رأسه ضربة خفيفة جعلته يتراجع متألمًا.

راقب وال المشهد بصمت.

'رائع......'

كانت عيناه تلمعان كالنجوم، وهو يحدّق في كازار كما تحدّق زهرة عباد الشمس بالشمس.

في تلك اللحظة، أدرك وال ما الذي يريد أن يصبح عليه، وما هدفه الحقيقي.

'أبي... لا بد أن أصبح ذئبًا كبيرًا وقويًا!'

لم يعد يريد أن يكون الطرف الذي يتلقى الضرب بعد الآن.

'سأضرب الجميع! سأسحقهم جميعًا!'

حتى لو لم يستطع أن يسبق الآخرين ويضرب أولًا، أراد أن يملك القوة التي تمنعه أو تمنع الآخرين حين يحاول أحدهم إيذاءه أو إيذاء غيره.

***

"سأذهب إلى إندويل وأعود."

بعد أن رتّب أمور قلعة ديتوري بالشكل الكافي، استعد إرنولف للمغادرة وترك شؤون القلعة للإخوة غلايمان.

قبل الرحيل، صعد إرنولف إلى الحصن الذي كاد يتحول إلى أنقاض وتنهد وهو يتطلع حوله.

'لقد دمرته دون أي تردد، قائلاً إنه ليس ملكي......'

ندم إرنولف على أنه لم يدرك أن كازار سيرغب في إقطاعية ديتوري فخرب القلعة كثيرًا، لكنه لم يكن بوسعه تغيير ما قد حدث؛ فالخيارات قد أُنفقت بالفعل.

"بالمناسبة، كيف وصلتما إلى هنا أنتما الاثنان؟"

عادت رسل قوات الدعم القادمة من إندويل تاركةً كل فرقها في قلعة ديتوري، فكان موكب العائدين بسيطًا. ركب إرنولف جواده وسأل إلسيد وكراين إن كانوا قد حققوا ما جاؤوا من أجله إلى إقطاعية ديتوري.

"في الواقع، جئنا لنحمي سموك من محاولات الاغتيال......"

تلعثم كراين وهو يذكر أنه ضل الطريق وذهب إلى المنجم بالخطأ، لكنه لم يستطع الاعتذار أكثر لأنّه خلال وجودهم في قلعة ديتوري لم يتعرَّض التوأم لأي أذى، فشعر بالحرج.

لقد كان كازار يحرسهما نهارًا، وبينما هم نائمون كانت كائنات الكوابيس الساهرة تحرس العينين؛ ربما لهذا السبب لم ينجح أي قاتل في الاقتراب من إرنولف.

"ليس الطريق الوحيد لقتلي أو انتزاع قلب ملك الوحوش مني أن يكون عبر القوة المادية."

"هل تتوقع وقوع شيءٍ ما؟"

"من الغريب أن لا يحدث شيء."

وبينما قال ذلك، ابتسم إيرنولف فقط.

2025/10/17 · 102 مشاهدة · 1650 كلمة
queeniie377
نادي الروايات - 2025