بعد خمسةٍ وعشرين عامًا...
في 3 أوت 2025
المدينة: القاهرة.
وإن شئتَ الدقة، فقل أطلال القاهرة القديمة، وقد اختلط فيها صدأ الزمن برنين التكنولوجيا، وامتدّت الأبراج كالأصابع فوق المقابر، وشبكات النقل تعلّقت في الهواء كالعناكب، لكنّ السوق ظلّ كما كان... حيًّا، فوضويًا، بشريًا.
في أحد شوارع "باب الخلق"، كان السوق يُقام كعادته في أوّل النهار. بائعو التوابل يصيحون بأسمائهم قبل أسماء بضائعهم، والخُضَر مكوّمة كأكوام الغنائم، والأصوات تُطرَح في الهواء بلا نظام، كما لو أنّ كلّ لسان في المدينة قد قرّر الحديث في الوقت نفسه.
كان هناك رجلان، تجاوزا السبعين، أحدهما يُدعى "الشيخ عدنان"، والآخر "الحاج فهيم". كلاهما كان يُمسك بعصاه، لا اتكاءً فحسب، بل كأنها سلاح يُشهره متى اختلف الرأي.
جلسا عند زاوية ضيّقة، بجوار حائطٍ متهالك عليه رسم باهت لشعار قديم: « المنظمة الإفريقية أسلانغا — العدالة بالتطهير». تحته، بخطٍ أحدث: « المنظمة الأمريكية فيكتوريا — العدالة عبر النظام».
قال الشيخ عدنان، وقد مرّر نظارته على شاشة صغيرة مربوطة بمعصمه:
"فيكتوريا... أسمع يا فهيم، هؤلاء لا يُصلحون الأرض، إنهم يُسوّقون للجريمة كأنها بضاعة قابلة للتدوير."
قهقه الحاج فهيم، وقال:
"وأنت ترى أنّ أسلانغا تصلحها حين تُفجّر بيوت الفقراء بحجّة أنهم جيران قاتل؟! من أين جئتم بهذه الفلسفة؟"
عدنان، وهو يضرب بعصاه الأرض ضربة خفيفة:
"أسلانغا لا تُساوم. هي تفهم أنّ الجريمة كالمرض: لا دواء لها سوى الاستئصال."
فهيم، وقد تقلّصت ملامحه كما لو ابتلع شيئًا مرًّا:
"بل هي كالدم، إن سُفك كثيره مات الجسد. أسلانغا تنحر، لا تُطهّر. أما فيكتوريا؟ فهم عقلانيّون. الجريمة لا تزول، لكن تُضبط، تُوزَّع، تُراقَب."
صمت، ثم أضاف وهو يشير إلى طائرة صغيرة تحوم فوق السوق:
"أترى هذه؟ ليست شرطة، بل لجنة مراقبة من فيكتوريا، تُحصي مَن اشترى السجائر دون تصريح. أهذا ما تُسميه عدالة؟"
ضحك عدنان ضحكة باردة:
"وما البديل؟ أن ننتظر حتى يُصبح اللص قاضيًا؟! أسلانغا تفهم، يا فهيم. تفهم أنّ العدل لا يتحقّق بالعقود، بل بالخوف."
مرّ شاب ملثّم من أمامهما، يضع شارة "أسلانغا" على معصمه الأيسر، وأخرى صغيرة لفيكتوريا على كفه الأيمن.
قال فهيم بصوت خافت، كأنه يحدّث ذاته:
"جيلٌ لا يعرف مَن يحكمه، ولا مَن يحميه، ولا مَن سيقتله أولًا..."
وبينما لا يزال الحاج فهيم والشيخ عدنان يتبادلان الجدال، دوّى صوتٌ مبحوح من مذياع قديمٍ معلّق على عمود إنارة صدئ. لم يكن المذياع جديدًا، بل قطعة من زمنٍ ولى، تُركت هناك كأنها تنبض وحدها خارج التاريخ، ومع ذلك، حين نطق، ساد صمتٌ خفيف... يشبه الوقار لا الخوف.
> ــ "هنا إذاعة الصوت المُوحَّد من المركز الإقليمي لمنظمة أسلانغا..."
"نُعلن، وبصوتٍ لا يحتمل التأويل، عن اجتماعٍ طارئ سيُعقد في قاعة النار الكبرى بمقرّ المنظمة المركزي في مدينة تونس ."
"الاجتماع يُعقد بحضور مجلس القادة السبعة، ويحضره وفدٌ رفيع من وزراء دول أوروبا الموحدة وشمال أفريقيا المستقلة."
"الموضوع: تحولات غير مصرح بها في توازن الجريمة بمنطقة الحوض الأوسط، وخرقٌ محتمل لمعاهدة ."
"الاجتماع مغلق أمام الإعلام، وسيُعلن عن نتائجه في التوقيت الذي تحدّده المنظمة، لا سواه."
ثم انقطع الصوت فجأة، كما جاء.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
قاعة النار الكبرى – تونس
الاجتماع الطارئ لمنظمة أسلانغا
كانت القاعة لا تزال كما عهدها التاريخ منذ أول "حرق سياسي"، بلونها الأحمر القاتم، تعلوها أقواس من العاج الأسود، تتدلّى منها ألسنة نارٍ صناعية، لا تُدفئ أحدًا... لكنها تزرع الرهبة.
جلس الوزراء على صفوفٍ نصف دائرية، بأثوابهم الرمادية، كل واحد منهم يحمل في صدره شريحة تُسجّل دقات قلبه، لتُفرَز لاحقًا في تقارير "مستوى الضغط السياسي" لكل اجتماع.
في المنتصف، جلس أكاي، رئيس المنظمة، لا يتحرك. أمامه شاشة شفافة تتبدّل عليها الخرائط والأرقام، وعلى يمينه يجلس بيريس، وزير أمن شمال إفريقيا، رجلٌ سمين بعينين لا تبتسمان.
ارتفع صوت الوزير سيفريد، ممثل الاتحاد الأوروبي الموحد، وهو يضرب على الطاولة بإصبعه الطويل:
"قبل 72 ساعة، حدثت 7 عمليات اغتيال منظمة في برلين، تورّطت بها خدم عائلة أودجين اللذي تم بيع صورهم في موقع داك واب . 2560 جريمة كبرى في أوروبا خلال ستة أشهر... هل سنظل نُراقب فقط؟"
همس آخرون، لكن وزير أمن تونس تحدّث بهدوء:
"لدينا معطيات تقول إنّ فرع أودجين في صحراء النفيضة يجنّد أطفالاً. التقرير الذي وصلنا أمس يُثبت أنّ أعمار بعض الاطفال لا تتجاوز الثانية عشرة و ذالك لاجل بيع الاعضاء."
ارتفع صوت امرأة، وزيرة العدل الفرنسية، وهي تضع قرصًا شفافًا على الطاولة، ليعرض خريطة تفاعلية:
"هنا... هنا... وهنا. ثلاث نقاط تصاعد فيها نشاط أودجين بنسبة 210٪. نرصد ارتفاعًا ثابتًا كل أسبوع بنسبة 12.5٪ في التهريب، و9٪ في التجارة السوداء، و13٪ في معدلات القتل. السيد أكاي... هل هذا ما كنا نخشاه قبل 25 عامًا؟"
ظلّ أكاي صامتًا.
قال الوزير الإسباني، بصوتٍ خافت:
"لقد مررنا بكارثة إنجلترا، لا نريد نسخة ثانية."
تحرّك أكاي أخيرًا.
رفع يده، فتوقفت الشاشات عن التحرك.
قال بصوتٍ رخيم، حاد كالنصل:
"أنتم تخافون من الأرقام؟ نحن نحيا داخلها. هل تعرفون كم من جثّة طُمرت في الرمال، دون أن تُسجّل كجريمة؟ 100,308. وكم من قرية اختفت بالكامل في منطقة الساحل خلال خمس سنوات؟ سبع عشرة قرية. ومن وراء كلّ هذا؟ ظلّ يُدعى أودجين العائلة المصنفة أولى عالميا من حيث الجريمة و الأولى عالميا كأخطر قتلة مأجورون في العالم
همس أحدهم: "إنه لم يعُد ظلًا، بل أصبح جسدًا."
واصل أكاي، وصوته يزداد ثقلًا:
"أودجين لم تعُد عصابة... بل أيديولوجيا. فكرة تنمو كالنار في هشيمٍ عالمي، تتغذى من إخفاقات الحكومات، ومن رماد الضعف."
نظر إلى الشاشة التي أمامه، ثم تابع:
"لدينا 38 عملية معطّلة لأننا لم نتحرّك. 1007 خلية لأودجين نشطة الآن، في ثلاث قارات. التقارير تقول إنهم يتعاملون مع خلايا عسكرية سابقة، وبعض أعضاء الوحدات الخاصة المفصولة من منظمة فيكتوريا. هل تنتظرون أن يتحوّلوا إلى دولة؟"
صمت ثقيل. ثم قال بيريس، وزير أمن شمال أفريقيا:
"ما الحل إذن؟ قُلها. أنت لم تدعُنا لنستمع فقط."
نظر أكاي إليه، ثم إلى البقية، وقال:
"سنطلق فرقة... فرقة لم نستخدمها منذ عامين من تصنيف S. فرقةٌ لا تدخل إلا حين يُفقد ميزان الأرض."
عمّ الصمت لحظةً، ثم ارتفع صوت الوزير الألماني، وهو ينظر إلى قائمة الفرق النشطة في شاشة جانبية:
"ماذا عن فرقة أوقا؟ ألا تظن، سيد أكاي، أنّ الوقت قد حان لاستخدام سيفكم الأقوى؟"
تبادل الوزراء النظرات، وكأنّهم وجدوا اتفاقًا غير منطوق بينهم.
بيريس، وزير أمن شمال إفريقيا، قال بنبرة دعم ثقيل:
"أوقا. نعم… اسمٌ يكفي ليرتعد له جنود أودجين. إن كانت هناك ورقة نختم بها هذا الاجتماع، فهي تلك الفرقة."
سيفريد الأوروبي أضاف:
"تقريرنا الاستخباراتي يضعهم في المرتبة الأولى من حيث الكفاءة، دقّة التنفيذ، نسبة النجاة. هل سنترك ورقة رابحة كهذه في الأدراج؟"
توقّف الزمن للحظة عند أكاي.
ظلّ ينظر إلى الشاشة أمامه، تظهر عليها ملفات "فرقة أوقا": صور مظللة، تقارير حمراء، وعبارة "الاستخدام الميداني: محظور حتى إشعار خاص".
ثم رفع رأسه، وقال بصوت منخفض، دون انفعال… لكن لا أحد تجرأ على مقاطعته:
"فرقة أوقا ليست وحدة عمليات فقط. إنها العمود الفقري لأسلانغا. استعمالهم الآن… يشبه خلع القلب من الجسد لإيقاف نزيف في اليد."
ساد الهمس.
قال الوزير المغربي:
"لكننا نُواجه طاعونًا، لا خدشًا."
أجاب أكاي وهو يقف ببطء:
"أوقا مهمّتهم في الداخل. حماية المنظمة من الداخل أهم من مطاردة الأشباح خارجها. هم الحاجز الأخير… وهم يعلمون ذلك."
اقتربت وزيرة العدل الفرنسية من الطاولة، وقالت بنبرة أكثر حدة:
"إذن من سيراقب أودجين؟ لا تملك غيرهم!"
هنا، مدّ أكاي يده نحو لوحة جانبية، فتح ملفًا بصيغة محجوبة، ثم أظهره أمام الجميع:
"بل أملك… إنها فرقة النّبات السوداء."
ظهر اسم القائد في رأس الوثيقة: موريس… الحالة: فعّال/غير رسمي.
بُهِت الجميع.
همس الوزير الإسباني:
"موريس؟ هذا الاسم… لقائد مشهور عالميا "
ابتسم أكاي، لكن دون دفء:
". والآن آن وقت إخراجه."
ثم قال أخيرًا:
"فرقة أوقا ستبقى. موريس سيخرج من الظل. وأي وزير يرفض… فليكتب رفضه، وسنتحمل معًا كلفة الدم الذي سينسكب بعده."
وغادر أكاي، هذه المرة كانت خطواته أثقل، كأنها تُهيئ الأرض لمعركة لا عودة منها.