أتعرف ما الأشدّ مرارة من أن تُهان؟

‎أن تُهان وأنت تحاول النجاة.

‎أن تمدّ يدك للأعلى، فيسحبك أحدهم للأسفل، لا لشيء… فقط لأنك تجرأت أن تأمل.

‎لم أكن أرغب بشيء عظيم…

‎لا أريد المجد، لا أريد أن أكون نجمة، لا أريد أن أخوض معارك خيالية.

‎كل ما أردته… كان كرامةً أعيش بها، وسقفًا لا ينهار فوق وحدتي.

‎لكني أخطأت الطريق…

‎دخلتُ بابًا لم يُفتح لي بل افترسني، ولم أعد كما كنتُ قبله.

‎صوت ضحكته لا يزال يصفع أذني.

‎نظراته...

‎أصابعه التي امتدت نحوي دون حق...

‎لماذا أنا؟

‎لماذا دائمًا أنا؟

‎منذ رحيل أمي وأبي، كأن الحياة وضعت علامة على جبهتي: "جاهزة للتجارب القاسية."

‎(تتوقف، تنظر حولها، لا أحد... الشارع فارغ، الصمت خانق)

‎ثم... شعرت به.

‎خطوات هادئة... ظلّ يقترب.

‎لم أرفع رأسي. لم أتكلم.

‎ربما لأن قلبي استسلم، أو لأنني ظننت أنه مجرد وهمٍ آخر من أوهامي…

‎لكن حين جلس قربي، لم أتحرك.

‎حين قال بصوت خفيض:

‎"هل أنت بخير؟"

‎لم أجب.

‎ثم، فجأة…

‎ضمّني.

‎لم أُدرك كيف.

‎لم أُفكر كيف.

‎لكنني وجدت نفسي في حضنه، أجهش بالبكاء كطفلة ضائعة، أترك له كل ضعفي، وكأنّ صدره هو الهدوء الذي أبحث عنه منذ دهرٍ ضائع.

‎ثم...

‎ثم تذكرت.

‎فتحت عيني…

‎واستوعبت.

‎ابتعدت إلى الخلف بسرعة.

‎لقد رأته من قبل.

‎نعم…

‎تذكرت الآن.

‎ذلك الوجه، تلك العينان الدافئتان، والصوت ذاته…

‎إنه هو. الرجل الذي كانت تراه مرارًا في قاعة الرياضة المجاورة.

‎الرجل الذي كان يكتفي بابتسامة عابرة كلما التقت أعينهما، والذي لم يقترب يومًا… حتى الآن.

‎قال بلطف، ويده لا تزال معلقة في الهواء بعد أن تركها تستعيد مسافتها:

‎"أنا آسف… لم أقصد أن أُفزعك."

‎هزّت رأسها بخفة، مسحت دموعها بأطراف أكمامها الممزقة، وتمتمت كأنها لا تعرف هل تضحك أم تبكي:

‎"تشاي، أليس كذلك؟"

‎ابتسم.

‎"أجل… وأنتِ آني، أليس كذلك؟"

‎أومأت.

‎سكوت قصير خيّم بينهما، كأن الزمن يحاول أن يعيد ترتيب صفحاته.

‎ثم قال:

‎"أنا… أعيش في الحي المقابل. كنتُ أركض، ورأيتك تخرجين من هناك… وبدوتِ… محطمة."

‎لم ترد.

‎ثم فجأة، وكأنها كانت بحاجة إلى حائط تتكئ عليه، إلى أذن لا تحكم، همست: "دخلتُ أبحث عن عمل… لكن المدير… مزّق ملابسي، وقال إنني لا أصلح إلا خادمة للسكرى."

‎قالها وانكسر صوتها في منتصف الجملة، وشيء في عيني تشاي تغيّر.

‎لكنّه لم يقاطعها، لم يسأل المزيد، فقط وقف وقال:

‎"غدًا صباحًا،مع ساعة العاشرة هل تقبلين أن نشرب قهوة؟ في مكان أكثر دفئًا في قهوة العنبر ."

‎نظرت إليه، للحظة نسيت كل ما حدث، وأومأت.

‎قالت بابتسامةٍ باهتة:

‎"في الساعة التاسعة، قهوة بدون سكر."

‎ضحك.

‎"سأجهز قلبي للمرارة، آنسة آني."

‎ثم غادرا…

‎هي إلى بيتها

‎اما هو دخل بثقة الى البار رجل لا يطرق الأبواب، لا يسأل عن الإذن.

‎عيناه تجولان داخل المكان كما لو أنه رأى هذا الجحيم مئة مرة من قبل.

‎لم يتأخر في العثور عليه.

‎المدير، بطنه المنفوخ يغوص في مقعد جلدي، يتحدث بصوت مزعج إلى إحدى العاملات.

‎اقترب منه ببطء، انحنى فوق الطاولة، وقال بنبرة ناعمة:

‎— "مساء الخير، هل لي بكلمة… على انفراد؟"

‎المدير رفع رأسه، تفحّص تشاي من رأسه حتى أخمصه، ثم غمز له باستخفاف:

‎— "من أنت؟ شرطي؟ زبون غيور؟"

‎— "صديق قديم... لفتاة مرّت من هنا اسمها آني. كانت تبحث عن عمل… تتذكر؟"

‎ابتسم المدير بابتذال:

‎— "آه! تلك الجميلة؟ ماذا بها؟ كانت بحاجة لوظيفة، وأنا فقط عرضتُ الواقع. الناس لا يحبون الصراحة هذه الأيام."

‎تغيّر شيء خفي في ملامح "تشاي".

‎أشار إلى الخلف:

‎— "تعال، خمس دقائق فقط. بيني وبينك."

‎بتردد، تبعه المدير إلى ممرّ ضيّق خلف المطبخ، حيث الأضواء خافتة والرائحة خانقة.

‎استدار المدير:

‎— "ها، ما الذي ت—"

‎لم يُكمل.

‎فجأة، يد تشاي ارتفعت، أصابعه انغرست ببطء… وبحرفية… داخل صدر الرجل.

‎لم يصرخ.

‎كان الألم أسرع من الصوت.

‎عينا المدير اتسعتا في ذهول حيواني، كأن قلبه فُجّر من الداخل.

‎اقترب تشاي من أذنه، وهمس:

‎— "آني… تسلّم عليك."

‎ثم ترك الجسد يسقط ككيس قذارة،

‎انحنى، مسح يده بمنديل قماشي من جيبه،

‎تأمل الدم قليلًا… ثم ألقاه في سلة القمامة، وغسل يده بهدوء.

‎خرج إلى صالة الحانة،

‎الموسيقى تعلو… الجسد يهتز…

‎راقصون وراقصات على المسرح، الكحول يُسكب.

‎اتجه نحو المنتصف، وابتسم لأول مرة هذا المساء.

‎انضم إلى الرقص،

‎وكأن شيئًا لم يكن.

‎هل تظنني رجلًا؟

‎أنني بشرٌ يمشي على قدمين، ينظر إلى السماء، ويبحث عن المعنى؟

‎كلا…

‎أنا آلة. وُلدت من الظلّ، وتربّت في العفن، وسُقيت منذ صغري بدَم أول ضحية.

‎اسمي "تشاي أودجين".

‎ذلك الاسم الذي ترتجف له المدن، وتتوارى خلفه الحكومات، وتتلو عليه المافيات صلوات النجاة.

‎قاتل مأجور؟

‎بل قاتل بلا أجر، بلا رحمة، بلا رجاء.

‎أنا لعنة تمشي، مبرمجة للضرب، للقتل، للاختفاء، ثم الإعادة.

‎أنت لا تعرفني، وهذا جيد.

‎أنت لا تريد أن تعرفني، وهذا أفضل.

‎لكن هناك شيء واحد لم أفهمه بعد.

‎كيف لآلة مثلي… أن تتورط؟

‎أن يتسلّل شيء إلى صدري غير شفرة؟

‎كيف علقتُ بنظرتها؟

‎كيف اخترقت ضحكتها كل الجدران التي بنيتها داخلي؟

‎آني…

‎لم تكن الضحية، ولم تكن الهدف.

‎كانت سؤالًا مزّق شفرتي.

‎فتاة عادية، برائحة الصابون القديم، بصوتٍ يتهجّى الحياة من جديد.

‎أراقبها.

‎أنتظر.

‎لا لأنني مأمور… بل لأنني مشدود إليها. كأن شيئًا في داخلي يريد أن يذوب…

‎أن يرتجف…

‎أن يعيش.

‎غريب، أليس كذلك؟

‎قاتل… يبحث عن لحظة سلام، ولو كانت في ابتسامة فتاة لا تعلم مَن أنا.

‎لكن تذكّر…

‎الآلة لا تحلم.

‎وإذا حلمت؟

‎فغالبًا…

‎تُصبح أكثر خطرًا.

2025/08/03 · 13 مشاهدة · 879 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025