لم أكن أعلم متى بدأ الأمر، ولا كيف. لكن في ليلةٍ ما، حين أغمضتُ عينيَّ واستسلمتُ للنوم، وجدتُ نفسي في مكان لم أره من قبل، تحت سماءٍ غير مألوفة تتلألأ فيها نجومٌ لم أرَها قط، ترسم أشكالًا لم أستطع تفسيرها، وكأنها تهمس لي بأسرارٍ نسيتها يومًا.
كان هناك، ._سايلوس_
لم يكن بحاجة لأن يسمي نفسه، كنت أعرفه. لم أكن بحاجة إلى تبرير وجوده، فقد شعرتُ بأنه كان دومًا هنا، ينتظرني.
كانت أحلامنا تتشابك كخيوط القدر، تتداخل دون سابق إنذار، دون منطقٍ يمكن لعقلي استيعابه. لم يكن عالمه كعالمي، ولم يكن عالمي يشبه عالمه، ومع ذلك، حين نلتقي في الحلم، يبدو وكأن الكون كله قد طوى المسافات ليجمعنا.
كنتُ أعيش في مدينةٍ يغلبها الضجيج، وسط جدرانٍ اعتادت الصمت، وفي قلب عائلةٍ محافظةٍ تضع حدودًا لعالمي. كان الحلم هو نافذتي الوحيدة إلى الحرية، إلى ذلك الامتداد اللامحدود الذي وجدته معه. كنت أخشى أن أستيقظ، أن أفقد هذا الرابط السحري الذي لا أفهمه لكنه يهبني شيئًا لم أختبره من قبل.
"لا يمكنكِ البقاء هنا إلى الأبد." قالها ذات مرة، بينما كنا نقف على حافة جرفٍ يطلُّ على بحرٍ لم تره عيناي في يقظتي. كان مزيجًا من الأزرق والفضي، وكأن القمر قد أذاب نوره فيه.
"وأنت لا يمكنك المجيء إلي." همستُ وأنا أتأمل ملامحه التي بدت وكأنها جزءٌ من هذا الحلم، جميلةٌ بقدر ما هي بعيدة المنال.
هزَّ رأسه مبتسمًا، تلك الابتسامة التي تحمل ألف معنى، ألف شعورٍ لا أستطيع تسميته. "لكننا نلتقي هنا، وهذا يكفي، أليس كذلك؟"
لم أعرف الجواب. هل يكفي؟
مرت الليالي، تعاقبت الأحلام، وكلما أغمضتُ عيناي كنت أجد نفسي في عالمه، نركض بين غاباتٍ من الضوء، أو نطير فوق بحارٍ من الغيوم. لم نسأل عن السبب، لم نبحث عن إجابة، ربما لأننا كنا نخشى أن نجد واحدة.
لكنني كنت أعرف شيئًا واحدًا: لم أعد أرغب في عالمٍ بلا أحلامنا المشتركة، بلا هذا الرابط الذي جمعنا رغم استحالة أن نكون معًا حقًا.
كان الحلم واقعنا الوحيد، وكان يكفيني... أو هكذا كنت أعتقد.....
شيئًا ما تغيّر…
في الأيام التالية، لاحظتُ شيئًا غريبًا… رغم أنني ما زلتُ لا أستطيع الدخول إلى عالم سايلوس، إلا أنني بدأتُ أشعر به أقرب من أي وقت مضى. لم تعد رؤيتي له تقتصر على الأحلام فقط، بل صوته أحيانًا يرن في أذني وأنا مستيقظة، كأنه يحاول أن يخترق الحاجز الفاصل بين عالمينا. لم يكن صوته واضحًا دائمًا، أحيانًا كان مجرد همساتٍ مبعثرة، وأحيانًا أخرى كنت أسمع اسمي بوضوح، وكأن أحدًا يناديني من بعيد.
في إحدى الليالي، وجدتُ نفسي في حلم مختلف تمامًا… كنتُ في قصر مضاءٍ بآلاف الشموع، الهواء معبّق برائحة الياسمين، وألحان هادئة تتسلل إلى قلبي. كان المكان يحمل دفئًا غريبًا، كأنه ذكرى من حياةٍ لم أعشها، لكنه مألوف بشكلٍ لا يمكن تفسيره.
وقفتُ هناك، أرتدي فستانًا حريريًا بلون السماء عند الفجر، وسمعتُ صوت خطوات مألوفة خلفي. استدرتُ ببطء، وهناك كان سايلوس، يرتدي حلة سوداء أنيقة، وعيناه تحملان بريقًا مختلفًا عن كل مرة… بريقًا دافئًا، ناعمًا، يشبه دفء المنزل بعد يوم طويل من التعب.
"أخيرًا، لحظة لا يشوبها الألم أو الخطر…" قال بصوت خافت، ومدّ يده لي.
لم أشعر من قبل بهذا السلام، كأننا لسنا زعيمًا لعالم سفلي ولا فتاة محاصرة بين الحلم والواقع، بل روحان تلاقتا بعيدًا عن كل شيء. رقصنا ببطء، بلا موسيقى، فقط أصوات نبضاتنا المتناغمة. شعرتُ بأنفاسه الدافئة قريبة، وهمس: "ألا تتمنين لو أن هذا ليس مجرد حلم؟"
ابتسمتُ وأجبتُ: "ولكنه أجمل أحلامي على الإطلاق…"
في تلك اللحظة، تمنيتُ لو يتوقف الزمن، لو يبقى هذا الحلم ممتدًا إلى الأبد. لكن في أعماقي، كنتُ أعرف… هناك شيءٌ ما يتغير. الحلم لم يعد مجرد حلم، والحدود بين عالمينا لم تعد واضحة كما كانت.
لأول مرة، لم أشعر بالخوف من الاستيقاظ… لأنني كنت أعلم أن سايلوس، بطريقة ما، سيكون دائمًا هناك، في عالمي، ولو حتى كصوت عابر في ذهني.
في الأيام التي تلت آخر لقاء لنا، شعرتُ بشيء غريب يزحف إلى حياتي، يتسلل بين ثنايا أيامي كظلٍّ لا يمكنني رؤيته، لكنه دائمًا هناك… يُراقب، يُرافقني بصمت.
لم أعد أحلم بسيلوس فقط، بل بدأت أشعر به في يقظتي. في البداية، كان الأمر طفيفًا، مجرد إحساسٍ عابر وكأن شخصًا يراقبني حين أكون وحيدة، أو دفء غريب يحيط بي رغم أن الجو بارد. ثم تطور الأمر.
في إحدى الليالي، بعد يومٍ طويل، ألقيتُ بجسدي على السرير وأغمضتُ عينيّ، لكنني لم أنم فورًا. شعرتُ بنسيمٍ خفيف يمر عبر الغرفة، رغم أن النوافذ كانت مغلقة. ثم… سمعتُه.
"أنا هنا."
صوت سايلوس. لم يكن حلمًا. لم أكن نائمة.
فتحتُ عينيّ بسرعة، قلبي ينبض بعنف. الغرفة كانت مظلمة إلا من ضوء خافتٍ يتسلل من النافذة. حدّقتُ في الظلال، لكن لم يكن هناك أحد. ومع ذلك، كنتُ متأكدةً من أنني سمعته، بكل وضوح. ..صوته العميق الهادئ. من المستحيل ان لا اميزه.
وقفتُ من سريري ببطء، أتحرك بحذر وكأنني أخشى أن يتحطم الصمت من حولي. تقدّمتُ نحو المرآة الكبيرة في زاوية الغرفة، لا أعرف لمَ، لكنني شعرتُ أنني سأراه هناك. وعندما وقفتُ أمامها، شهقتُ بصوتٍ خافت.
في المرآة، لم يكن انعكاسي كما هو.
كان هناك شيءٌ غريب. كأنها صورة مزدوجة، وجهٌ فوق وجهي، شبحٌ شفافٌ يشبه ملامح سايلوس، عينيه الحمراء اللون تحدقان بي بثبات. كان يهمس بشيء، لكنني لم أسمعه بوضوح.
امتدت يدي دون وعي نحو سطح المرآة، وأصابع يدي تلامست مع انعكاسي. كان إحساسًا باردًا، لكن… حيًّا. كأنني ألمس شخصًا حقيقيًا، لا مجرد زجاج. شعرتُ بقشعريرةٍ تجتاحني، وسحبتُ يدي بسرعة. في اللحظة ذاتها، تلاشى الظل، وعادت صورتي إلى طبيعتها.
تراجعتُ خطوة إلى الوراء، أنفاسي متقطعة.
"ماذا يحدث لي؟"
لكنني كنت أعرف. هذا لم يعد مجرد حلم. شيءٌ ما كسر القواعد.
الحدود بين عالمينا تنهار
في الليالي التالية، أصبحتُ أكثر وعيًا بوجود سايلوس. لم يكن يظهر أمامي مباشرة، لكنني كنت أشعر به في الهواء من حولي، أسمع همساتٍ خافتةً تحمل اسمي حين أكون وحدي، وأحيانًا، كان الظلام في الغرفة يبدو أقل وحدة، كأن هناك شخصًا يقف هناك، غير مرئي، لكنه موجود.
ثم، حدث شيء غيّر كل شيء.
كنتُ في سيارة الاجرة، متوجهةً إلى عملي . الشوارع كانت مزدحمةً كعادتها، السيارات تصطف في طابورٍ لا نهائي، والضوضاء تملأ المكان. كنتُ أحدّق عبر النافذة بشرود، أفكر في كل ما مررتُ به في الأيام الأخيرة.
وفجأة، وسط الزحام، رأيته.
سايلوس.
كان واقفًا هناك، على الرصيف المقابل. لم يكن حلمًا. لم يكن انعكاسًا في المرآة. كان حقيقيًا، موجودًا في هذا العالم.
ارتديتُ نظارتي الشمسية بسرعة، وقلبي يخفق بعنف. كنتُ خائفةً من أن يكون مجرد وهم، مجرد خدعة من عقلي المتعب. لكن عندما رفعتُ نظري مجددًا، كان لا يزال هناك، ينظر إليّ مباشرةً، كأنه كان ينتظر أن أراه.
هل عبر إلى عالمي؟ هل هذا حقيقي؟
تحركت من مكاني بسرعة محاولة فتح الباب، متجاهلةً النظرات المستغربة من السائق، لكن قبل أن أتمكن من النزول، كان قد اختفى.
وقفتُ في منتصف الطريق، أنظر حولي بذهول.
"لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًا… لا يمكن."
لكن في أعماقي، كنتُ أعرف أن شيئًا ما قد تغيّر. الأحلام لم تعد مجرد أحلام. وسايلوس لم يعد مجرد ظلٍّ في لياليّ.
بين الحلم والواقع… أين الحقيقة؟
في تلك الليلة، لم أستطع النوم. جلستُ في سريري، أحدق في السقف المظلم، أراقب الظلال التي تتراقص مع ضوء المصباح الخافت. كنتُ أفكر في كل شيء، في الأحلام، في ظهوره في عالمي، في كلماته التي لا تزال عالقةً في ذهني.
"أنا هنا."
لماذا قال ذلك؟ هل كان يحاول إخباري بشيء؟
تملكني إحساسٌ غريب، كأنني كنتُ على وشك اكتشاف سرٍّ كبير، سرٍّ يغير كل شيء. نهضتُ من سريري، وسرتُ نحو المرآة مرة أخرى، أشعر بأنني إن نظرتُ جيدًا، سأراه.
وقفتُ هناك، أحدّق في انعكاسي، أبحث عن أي علامة، أي إشارةٍ تدل على وجوده.
ثم، رأيتُه.
لم يكن خلفي هذه المرة، بل كان يقف داخل المرآة، كأنه عالمٌ آخر يمتد خلف الزجاج. كانت عيناه مسمرتين على عينيّ، وكان وجهه يحمل تعبيرًا جادًا، كأنما كان يحاول إخباري بشيء بالغ الأهمية.
"لا تستيقظي."
همس بها بصوتٍ خافت، لكنه اخترقني كأنّه رسالة محفورةٌ في أعماقي.
ارتجفتُ.
"ماذا تقصد؟" همستُ بدوري، لكن لم يكن هناك جواب. فقط ظله في المرآة، ينظر إليّ بثبات، وكأنه يحاول أن يحفر صورته في ذهني قبل أن يتلاشى.
ثم، في لحظة، اختفى.
لم يكن لدي وقت للتفكير. فجأةً، شعرتُ بدوارٍ حاد، وكأن الأرض تميل تحت قدمي. حاولتُ التمسك بشيء، لكنني شعرتُ بجسدي يسقط… أو ربما، كان العالم من حولي هو من يسقط.
الظلام اجتاحني.
وحين فتحتُ عينيّ مجددًا، كنتُ في مكانٍ آخر.
مكانٌ أعرفه جيدًا.
عالم سايلوس....
لا أستطيع التنفس.
كأنني فقدت كل الهواء .
تقع عيني عليه اخيرا واقفا هناك. ينضر لي بعيون متألمه .. مددت يدي له لعلي استطيع مسكهه لكني لا أشعر بشيء
افقد حواسي تدريجيا .. ويحيط الظلام بي مره اخرى
أفتح عيني على ظلام الغرفة، أنفاسي متقطعة، وقلبي يطرق ضلوعي بجنون. يدي ترتجف وأنا أرفعها لأمسح العرق البارد عن جبيني. هذا لم يكن حلمًا… لا يمكن أن يكون مجرد حلم.
لقد رأيته.
سايلوس.
كان أمامي، أقرب من أي مرة مضت. لا ضباب، لا تشويش. رأيت ملامحه بوضوح، نظراته التي لم تفارقني، وكأنها تخترق روحي. لم يتكلم… لم يكن بحاجة لذلك. كنت أشعر به، كما لو أن حضوره امتد من الحلم إلى الواقع، كما لو أن الهواء بيننا كان مشحونًا بشيء لا أفهمه.
مددت يدي نحوه… لكنه اختفى. تبخر كأن يدي اخترقت الفراغ.
شهقت وأنا أجلس في سريري، أضغط يدي على صدري لأهدئ دقات قلبي. الغرفة من حولي هادئة، لكنها تبدو غريبة، كأنها ليست غرفتي، كأن شيئًا من الحلم لا يزال عالقًا هنا.
أقف وأتجه نحو النافذة. أحتاج للهواء، لأي شيء يجعلني أستعيد اتزاني. لكن حتى عندما يلفحني البرد، لا يهدأ شيء في داخلي. هذا لم يكن مجرد حلم. أعلم ذلك.
شيء ما يحدث. شيء يتجاوز حدود الأحلام.
وقفت أمام النافذة، أحدق في المدينة النائمة تحت الأضواء الخافتة. الشوارع في هذه الساعة تكاد تكون خالية، لا شيء سوى أضواء المصابيح التي ترسم ظلالًا طويلة على الأرصفة. المدينه هادئة كما اعتادت، لكن داخلي؟ داخلي أشبه بعاصفة لا تهدأ.
أمرر أصابعي على زجاج النافذة البارد، أحاول استيعاب ما حدث. لم يكن هذا مجرد حلم عابر، لم يكن مشهدًا ضبابيًا يختفي مع أولى لحظات الاستيقاظ. لقد رأيته… شعرت به. حتى الآن، لا يزال صداه يتردد داخلي، كأنه ترك أثرًا لا يمكن محوه.
لكن هذا مستحيل.
أهز رأسي وأضغط بأصابعي على صدغي، أحاول طرد هذا الإحساس. ربما مجرد أوهام؟ ربما لأنني فكرت فيه كثيرًا، أصبح جزءًا من أحلامي؟ لكن… متى فكرت فيه كثيرًا؟
أتراجع عن النافذة وأتجه نحو سريري. أحتاج للنوم، لكنني أعرف أن النوم لن يأتي بسهولة هذه الليلة.
رائحة المعقمات والمواد الكيميائية تملأ أنفي، صوت الأجهزة يعمل في الخلفية، والأوراق متناثرة على الطاولة أمامي. العمل في المختبر داخل المستشفى يجعلني معتادة على هذه الأجواء، لكن اليوم كل شيء يبدو أبطأ، وكأن عقلي يرفض التركيز.
كل شيء حولي يبدو بعيدًا. كأنني أنظر إلى العالم من خلف زجاج ضبابي.
"تونه، هل أنتِ بخير؟"
أرفع رأسي بسرعة نحو صوت سارا صديقتي. كانت تنظر إلي بقلق، حاجباها معقودان وهي تميل برأسها قليلًا. أومئ بسرعة، أحاول رسم ابتسامة مطمئنة.
"أنا بخير، فقط لم أنم جيدًا."
تتأملني للحظة قبل أن تضع يديها على خصرها، عيناها تضيقان بشك. "هذا واضح. وجهك شاحب، وعيناك متورمتان. كأنكِ رأيتِ… لا أعلم، شيئًا مرعبًا؟"
أكتم ابتسامة مرهقة. شيء مرعب؟ لا، لم يكن رعبًا… لكنه لم يكن طبيعيًا أيضًا.
"مجرد كوابيس سخيفة."
أقولها وأنا أعود إلى العمل، محاولة إنهاء المحادثة. لكن داخلي يعرف… هذا ليس كابوسًا.
شيء ما يحدث، وأنا عالقة في منتصفه.
علامات على الجسد
عندما أنهيت مناوبتي وعدت إلى المنزل، شعرت وكأنني أجرّ نفسي. كل خلية في جسدي تطلب النوم، لكنني أخاف مما قد أراه إذا استسلمت.
أتوجه إلى الحمام، أفتح صنبور الماء البارد وأغسل وجهي، علِّي أستعيد تركيزي. لكن ما أراه في المرآة يجعلني أتجمد.
هناك علامة حمراء على معصمي.
أحدق فيها، أرفع يدي وألمسها برفق. ليست خدشًا، ولا كدمة… كأن أحدًا أمسك بي بقوة.
بلحظة، يعود الحلم إلى ذهني كالسهم. عندما كنت في ذلك المكان الغريب، عندما رأيت سايلوس… حين اختفى، كنت قد مددت يدي نحوه.
لا، لا يمكن أن يكون هذا… لا يمكن أن يترك الحلم أثرًا على جسدي!
أتراجع ببطء، أغمض عيني، أحاول إقناع نفسي أنني متعبة فقط، أنني ربما اصطدمت بشيء أثناء النوم ولم ألاحظ.
لكن أعماقي تهمس بشيء آخر.
هذا ليس من الواقع.
بين النوم واليقظة
أرتمي على سريري، أحدق في السقف، وأخذ نفسًا عميقًا. لا جدوى من المقاومة.
أغمض عيني… وأترك نفسي تنجرف.
—
أفتح عيني.
لكنني لست في غرفتي.
أجد نفسي واقفة في ممر طويل، الجدران داكنة، الإضاءة خافتة جدًا وكأن الضوء نفسه متردد في التواجد هنا. أشعر ببرودة المكان، برودة غير طبيعية، كأن الهواء نفسه مشبع بالرهبة.
"أخيرًا، جئتِ."
صوته يأتيني من الظلام. لا أراه، لكنني أعرفه.
سايلوس.
ألتفت بسرعة، أحاول رؤيته، لكن كل ما يحيطني هو الفراغ.
"أين أنت؟"
"أنا هنا منذ البداية. لكن السؤال هو… هل أنتِ مستعدة لرؤية الحقيقة؟"
أشعر بجسدي يتصلب. "أي حقيقة؟ ما الذي يحدث؟"
يتردد صوته، كأن المكان كله يردد كلماته. "لقد بدأ كل شيء الآن، تونه. ولم يعد لديكِ خيار سوى مواجهته."
فجأة، يضيء المكان بانفجار من الضوء، وكأنني انزلقت خارج جسدي للحظة. أرى لمحات… مشاهد متقطعة… ظلال تتحرك، وجوه مشوشة، أصوات بعيدة…
ثم—
أشعر بيد تلمس معصمي، بقوة، بنفس المكان الذي ظهرت عليه العلامة.
أصرخ، وأفتح عيني.
أنا في سريري.
الهواء في غرفتي ثقيل، كأنني تركت جزءًا مني هناك، في ذلك المكان الغريب.
أخفض نظري إلى معصمي… والعلامة هناك. أقوى. أعمق.
ثم أرى شيئًا يجعل الدم يتجمد في عروقي.
على طرف يدي، هناك خط داكن… ليس مجرد علامة، بل شيء يشبه الحروف… حروف لم أرها من قبل، لكنها… تبدو وكأنها اسم.
اسمه.
"سايلوس"
حدّقتُ بالاسم المنقوش على طرف يدي، أنفاسي تتسارع. لم يكن مجرد خدش عابر أو وهم بصري، كان هناك، واضحًا، وكأنه حُفر في جلدي بطريقة لا أفهمها.
سايلوس.
مررتُ أصابعي عليه ببطء، أتحسس ملمسه، لكنه لم يكن بارزًا. لم يكن جرحًا أو ندبة… كان أشبه بشيء يتخللني، يندمج معي.
ماذا يعني هذا؟ هل أنا… ملك له؟ هل هذه علامة ملكية؟ لعنة؟ تحذير؟
شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي. كيف يمكن أن يصبح شيء من حلم واقعًا ملموسًا؟ كنت أعتقد أن الحدود بين عالمي وعالمه غامضة، لكن لم أتخيل أبدًا أن شيئًا من هناك قد يعلق بي هنا.
أخذت نفسًا مرتجفًا، ثم نهضتُ من سريري بسرعة. يجب أن أفعل شيئًا.
غسلتُ يدي بعنف، لكن الحروف لم تختفِ. فركتُها بأصابعي حتى احمر جلدي، لكنها ظلت هناك، وكأنها جزء مني الآن.
بلعتُ ريقي، ونظرتُ لنفسي في المرآة. عيناي واسعتان، وجهي شاحب. لكن هناك شيء آخر. شيء لم ألاحظه منذ لحظات.
عينيّ…
اتسعت عيناي أكثر وأنا أدرك التغير الطفيف فيهما. اللون، بريق خافت غريب، كأن هناك ظلًا آخر يسكن داخلي.
تراجعتُ خطوة، وكأنني أهرب من نفسي.
ثم—
"أخيرًا لاحظتِ."
تجمدتُ في مكاني.
الصوت لم يكن في رأسي.
كان في الغرفة.
استدرتُ ببطء، ولم يكن هناك أحد. لكنني شعرت به. لم يكن مجرد إحساس، بل يقين.
"سايلوس؟" همستُ باسمه، وصداي أجابني كأنني نطقتُه من عالمين مختلفين في الوقت نفسه.
"ألم أخبركِ أن كل شيء بدأ الآن؟"
ضغطتُ على صدغيّ، أتنفس بصعوبة. "ماذا فعلتَ بي؟"
ضحك بصوت خافت، ضحكة تحمل ثقلًا غريبًا، وكأنها جاءت من مكان بعيد جدًا.
"أنا لم أفعل شيئًا… أنتِ من عبرتِ الباب، تونه."
—
ارتجفتُ. الباب؟ أي باب؟ هل يقصد ذلك الضوء؟ هل يقصد الحلم؟
شعرتُ بدوار، كأنني عالقة بين حقيقتين.
"لا أفهم…"
"ستفهمين قريبًا."
كانت كلماته هي آخر ما سمعته قبل أن ينقطع الصوت فجأة، تاركًا الغرفة في صمت خانق.
لكنني كنت أعلم أنه لم يرحل حقًا.
—
في اليوم التالي
ذهبتُ إلى العمل كما لو أن شيئًا لم يحدث، لكن داخلي كان يعج بالفوضى. كل مرة أنظر إلى يدي، أشعر بشيء غريب، بشيء يتغير داخلي ببطء.
كنت في المختبر، أحاول التركيز على فحص العينات، لكن عيني استمرتا في الانحراف نحو زملائي. لا أعلم لماذا، لكنني بدأت أشعر أنني أراهم بطريقة مختلفة. كأنني… ألاحظ أشياء لم أكن ألاحظها من قبل.
تعابير وجوههم، نبض عروقهم، حتى تنفسهم…
شعرتُ بانقباض في صدري. ماذا يحدث لي؟
أغمضتُ عينيّ للحظة، ثم فتحتهما مجددًا، محاوِلة تجاهل كل هذا. لكن عندما رفعتُ رأسي، رأيتُ شيئًا جعل الدم يتجمد في عروقي.
على الزجاج الفاصل بين المختبر والممر…
كان هناك اسم مكتوب… بالبخار.
"تونه."
لم يلمس أحد الزجاج. لم يكن هناك أحد في الجهة الأخرى.
لكنني كنت واثقة… أنني لم أعد وحدي.
حدّقتُ في اسمي المكتوب على الزجاج، أنفاسي محبوسة.
لم يلمسه أحد. لم يكن هناك أحد.
لكنني كنت واثقة… أنني لم أعد وحدي.
شعرتُ بنبضات قلبي تتسارع، يديّ تتعرقان رغم برودة الغرفة. لم أستطع النظر بعيدًا، وكأن اسمي كان مغناطيسًا يسحبني نحوه. حاولتُ إقناع نفسي بأنه مجرد وهم، أن الفرق في درجة الحرارة هو ما صنع هذا البخار، لكنه لم يختفِ.
بل على العكس، بدأ يتغير.
الحروف بدأت تتمدد… تتحرك… كأن أحدًا كان يعيد كتابتها من الجهة الأخرى.
ثم، ببطء، بدأ الاسم يتلاشى، وحلّ محله شيء آخر.
"استيقظي."
شهقتُ وتراجعتُ للخلف حتى اصطدمتُ بالطاولة. أحد زملائي التفت نحوي، حاجباه معقودان. "هل أنتِ بخير؟"
أومأتُ بسرعة، لكن صوتي لم يخرج. كيف يمكن أن أكون بخير؟ لم يكن هذا طبيعيًا، لم يكن…
بلعتُ ريقي، نظرتُ إلى الزجاج مرة أخرى، لكنه كان فارغًا. كأن شيئًا لم يكن.
لكني كنت أعلم أنني لم أتخيل ذلك.
"استيقظي."
هذه الكلمة… لم تكن مجرد رسالة عابرة. كانت تحذيرًا.
—
في تلك الليلة
لم أستطع النوم بسهولة. كنت أستلقي على السرير، أحدق بالسقف، عقلي يكرر ما رأيته اليوم.
استيقظي.
ماذا يعني ذلك؟ هل أنا في حلم الآن؟ هل كان يقصد أنني غارقة في شيء لا أفهمه؟
أغمضتُ عينيّ، أحاول إجبار نفسي على النوم.
لكن هذه المرة، لم أسقط في الظلام المعتاد.
لم أشعر بذلك الانسحاب البطيء من الواقع.
بل حدث الأمر فجأة.
كأنني قفزتُ من جسدي إلى عالم آخر.
—
عندما فتحتُ عينيّ، كنت في مكان مختلف تمامًا.
الأضواء خافتة، الجو مشحون برائحة الدم والبارود.
وسايلوس كان هناك.
لكنه لم يكن وحده.
كان محاطًا برجاله، وأمامهم وقف شخص آخر… شخص جعل معدتي تنقبض من الصدمة.
انا؟!
لقد كنت انضر الى نفسي!
"أخيرًا جئتِ."
الصوت خرج من شفتيها—من شفتيّ.
كانت تشبهني تمامًا، لكنها لم تكن أنا. لا، لم يكن الأمر مجرد انعكاس. هذه… كانت نسخة أخرى مني، تقف هناك، تتنفس، تنظر إليّ وكأنني الدخيلة هنا.
تقدمتُ خطوة، لكن سايلوس رفع يده، مشيرًا لي بالتوقف.
"لا تتحركي."
نظرتُ إليه، عينيّ تبحثان عن إجابة. "ما الذي يحدث هنا؟ من هذه؟"
الأخرى ابتسمت، ابتسامة بطيئة تحمل شيئًا غريبًا، شيئًا جعل الدم يتجمد في عروقي.
"أنا؟" مالت برأسها قليلًا، نظرتها ساخرة. "أنا أنتِ، تونه."
شعرتُ بصداع حاد، كأن رأسي ينفجر من الداخل. الصور اختلطت، الذكريات تشوشت. لا… لا يمكن…
"تعتقدين أنكِ أنتِ الأصلية؟"
كان هذا نفس ما فكرتُ فيه منذ ساعات، لكن سماعه بصوتي أنا جعل الأمر أكثر رعبًا.
نظرتُ إلى سايلوس، وكأنه يملك الإجابة. لكنه لم يقل شيئًا. فقط راقبنا بصمت.
وكأن الإجابة… يجب أن تأتي مني.
حدّقتُ في الأخرى، شعور ثقيل يضغط على صدري. لا يمكن أن تكون أنا. هذا مستحيل.
لكنها كانت هناك، تتنفس، تنظر إليّ بثقة وكأنها تملك الحقيقة التي أجهلها.
"أنتِ لستِ أنا." نطقتُ بالكلمات ببطء، كما لو أنني أحاول إقناع نفسي قبلها.
الأخرى رفعت حاجبها، ضحكت بصوت منخفض. "أوه، لكنني أنا، تونه. وربما…" تقدمت خطوة، عيناها تلمعان بلون غريب، مألوف. "أنا أكثر منكِ مما تظنين."
شعرتُ بدوار، كأن الأرض تحت قدميّ تهتز. التفتُّ إلى سايلوس، يديّ مشدودتان إلى جانبي، أنفاسي ثقيلة.
"قل شيئًا!" صرختُ، عجزتُ عن تحمل صمته أكثر.
لكنه لم يتزحزح. فقط رمقني بنظرة باردة، قبل أن ينطق بهدوء مخيف:
"الوقت لم يعد في صالحكِ، تونه."
تجمدتُ. "ماذا تعني؟"
لم يجبني، لكن الأخرى هي من تحدثت، بصوت ناعم يحمل شيئًا خطيرًا تحته. "ألا تشعرين به؟ التغيير الذي يجري داخلك؟"
ضغطتُ على قبضتيّ. لا… لا أريد أن أسمع هذا.
"لقد بدأتِ ترين الأمور كما أراها أنا."
ارتجفتُ، ذكريات اليوم تومض في رأسي—الطريقة التي شعرت بها بزملائي في العمل، كيف لاحظتُ تعابيرهم، أنفاسهم، حتى نبض عروقهم.
لا… لا يمكن.
"أنتِ تكذبين."
لكنها لم تجادل. فقط ابتسمت. وكأنها تعرف أنني بدأتُ أفهم.
شعرتُ بالهواء يثقل حولي، الغرفة تضيق، كل شيء يهتز داخل رأسي.
"تونه."
سايلوس نطق باسمي، وعندما نظرتُ إليه، رأيتُ شيئًا مختلفًا في عينيه. لم يكن البرود المعتاد. لم تكن قسوته.
كان هناك شيء آخر.
شيء أشبه… بالحزن؟
لكن قبل أن أفهم أكثر، شعرتُ بصدمة قوية في رأسي، كأن عالمي كله انهار في لحظة—
—
ثم فتحتُ عينيّ.
كنتُ في غرفتي.
أنفاسي متقطعة، يدايّ ترتجفان، قلبي يطرق ضلوعي بجنون.
لكن الأسوأ…
كان الشعور بأنني لم أعد كما كنت.
نهضتُ ببطء، جسدي ثقيل كأنني عبرتُ مسافة لا نهائية. توجهتُ إلى المرآة، حدّقتُ في نفسي.
لكنني لم أرَ نفسي فقط.
كان هناك ظل خافت في انعكاسي، شيء لم يكن موجودًا من قبل.
عيناي… كان فيهما ذلك اللمعان الغريب مجددًا.
والأسوأ؟
كنتُ أعرف، في أعماقي، أنني لم أعد وحدي..
حدّقتُ في انعكاسي، أنفاسي ثقيلة، يدايّ تتشبثان بحافة المرآة. اللمعان في عينيّ لم يكن وهمًا، لم يكن مجرد انعكاس للإضاءة، بل كان… شيئًا آخر. شيئًا ينبض بالحياة داخلي.
ابتلعتُ ريقي، أجبرتُ نفسي على التراجع. لا، هذا ليس حقيقيًا. كل شيء مجرد ضغط نفسي، مجرد أوهام بسبب قلة النوم.
لكني لم أكن أصدق كلماتي حتى.
أغمضتُ عينيّ للحظة، ثم فتحتُهما ببطء، أتنفس بعمق. لا يمكنني أن أستسلم لهذا. يجب أن أكون قوية، يجب أن أفهم ما يحدث قبل أن أفقد نفسي تمامًا.
لكن السؤال هو… من يمكنه مساعدتي في هذا؟
—
في اليوم التالي
حاولتُ التصرف بشكل طبيعي. استيقظتُ، ارتديتُ ملابسي، وذهبتُ إلى العمل كما أفعل كل يوم. لكن داخلي لم يكن هادئًا، كل خطوة كنتُ أخطوها كانت ثقيلة، وكأنني أسير نحو شيء لا مفر منه.
في المختبر، جلستُ أمام المجهر، أحاول التركيز على تحليل إحدى العينات، لكن رأسي كان في مكان آخر تمامًا.
ثم… شعرتُ به.
ذلك الإحساس.
رفعتُ نظري ببطء، ونظرتُ إلى أحد زملائي عبر الطاولة. كان مستغرقًا في عمله، لكنه بدا… مختلفًا. أو بالأحرى، أنا من رأيته بشكل مختلف.
استطعتُ أن أسمع نبضه. لا، لم يكن سماعًا حقيقيًا، بل كان أشبه بإحساس غريب، كأنني كنتُ أستطيع رؤية دمه وهو يجري في عروقه، كأنني كنتُ قادرة على استشعار كل ذرة توتر أو قلق داخله.
جفلتُ بسرعة، أبعدتُ نظري، شعرتُ بدوار مفاجئ.
هذا ليس طبيعيًا.
نهضتُ من مكاني، متجهة إلى الحمام، أغلقتُ الباب خلفي، وأسندتُ ظهري إليه، أتنفس بعمق.
"ما الذي يحدث لي؟"
لكنني لم أكن بحاجة لس
ؤال أحد ليجيبني.
لأنني كنتُ أعرف الجواب.
—
في تلك الليلة
لم أكن أريد النوم. كنتُ خائفة مما سأراه، مما سأكونه عندما أعبر إلى ذلك العالم مجددًا. لكنني كنتُ أعرف أنني لا أملك خيارًا.
لذلك، استلقيتُ على السرير، وأغمضتُ عينيّ.
—
وحين فتحتُها، كنتُ هناك.
—
المكان كان مظلمًا، لكنه لم يكن الفراغ المعتاد. هذه المرة، كنتُ في غرفة واسعة، الجدران كانت من الطوب الرمادي، الإضاءة خافتة، لكنني استطعتُ رؤية الطاولة الخشبية في المنتصف، والأوراق المتناثرة فوقها.
كان هناك شخص يقف عند النافذة، ظهره لي.
سايلوس.
"أخيرًا قررتِ العودة."
______
اهلا بكم بروايتي الجديده
سيكون التحديث حاليا . كل يوم الساعه ال8 مساءا ...بسبب وجود الافصول مكتوبه سابقا ...
ارجو ان تعجبكم 🫶🏻🫶🏻