سايلوس......
اسمه كان يرن في العالم كدويّ الرعد، يحمله طيف من القوة والطموح. كان شابًا في الثلاثين من عمره، قائدًا للعالم السفلي، رجلًا متحكمًا في كل خيط من خيوط الظلام، لكن وراء هذا الوجه القاسي، كان هناك سرٌّ دفين، لا يكشفه إلا المواقف التي لا تتيح له سوى أن يكون شخصًا آخر.
لقد كان قائدًا لا يرحم، شخصًا يعرف كيف يسيطر ويهيمن. رئيس منظمة "الأونوكاينس"، التي تجسد عالم الجريمة والسلطة بشكل كامل، كان يملك زمام الأمور بشكل حاسم، كما لو كانت يده تمسك بعالمه بأكمله. قوته لم تكن فقط في قدراته الاستراتيجية أو في تحكمه في النفوذ، بل كانت في فهمه العميق للروح البشرية، تلك الروح التي كان يسعى لفهمها بكل ما يملك من طموحات. ومع كل خطوة يخطوها نحو المجهول، كان يتخبط في صراع داخلي عميق بين طموحاته المظلمة ورغبته في اكتشاف مجالات إنسانية أعمق. كان يسعى للسيطرة على قوى مظلمة بهدف تحقيق رؤيته الخاصة، لكن في عمق هذا السعي كان يلاحقه شيء ما أكبر من مجرد القوة.
الكل كان يعرفه كزعيم لا يرحم، لكن قليلين فقط من أدركوا حجم معاناته الداخلية. كان يسير في توازن دائم بين القوة والعاطفة، وهو ما جعله فريدًا في مكانته. كانت أعين من حوله تتخوف منه، لكنه كان دائمًا يبحث في الزوايا المظلمة لعالمه عن ذلك الفهم العميق للعلاقات الإنسانية، لذلك كانت بعض تصرفاته تبدو غريبة بالنسبة للبعض.
عالمه لم يكن مجرد كواكب أو أراضٍ جافة، بل كان عبارة عن فضاء شاسع، متطور تقنيًا. في هذا المستقبل البعيد، كان بإمكان البشرية أن تسافر عبر النجوم، وتستكشف الكواكب التي كانت تمثل خيالًا بعيدًا. لكن كما هو الحال في كل تقدم، كان هذا التقدم يحمل تحديات وصراعات جديدة. الصراع بين القوى المختلفة كان جزءًا من يومه المعتاد، وكل منظمة كانت تسعى لتحقيق أحلامها الخاصة. وكانت "الأونوكاينس" تسعى للحفاظ على قوتها، لتفرض سلطتها على كل من لا يتبعها.
في هذا العالم المتطور، لم يكن هناك وقت للراحة أو للأمل البسيط. كان الجميع مشغولين بتحقيق طموحاتهم، وكانت النجوم نفسها تشهد على معركة لا نهاية لها بين الخير والشر. لكن حتى وسط هذه الفوضى، كانت الكواكب التي يتم اكتشافها تحمل شيئًا فريدًا. فكل كوكب كان يمثل عالمًا خاصًا به: صحارى قاحلة، غابات مورقة، عوالم مائية، كلها كانت تقدم تجارب فريدة وصراعات جديدة.
ورغم كل ذلك، كانت العلاقات الإنسانية في هذا الكون تشكل ركيزة أساسية. كان الحب والخيانة، الولاء والمكر، تتشابك في كل مكان. في وسط الأزمات التي كانت تعصف بالكواكب المختلفة، كان الصراع الداخلي بين الأفراد يتصاعد، خصوصًا لأولئك الذين لم يستطيعوا أن يهربوا من واقعهم المظلم.
كان سايلوس واحدًا من هؤلاء. في قلب هذا الكون الشاسع، كانت مشاعره تتشابك مع تلك الصراعات، وبينما كان يسعى لتحقيق حلمه الأكبر، كان يتساءل عن معنى الحب، ومعنى الانتماء. هل كانت القوة فقط ما يستحق السعي وراءه، أم أن هناك شيئًا أعظم؟ في عالمه الذي كان يتلاشى فيه كل أمل، كان يبحث عن ضوء يمكن أن يبدد ظلاله.
لكن، ماذا لو كانت تونه هي الإجابة؟
في هذا الفضاء الشاسع المظلم، كان سايلوس يجد نفسه في مسارٍ لا يمكنه العودة منه. كان حلمه الكبير يُحاط بالأشواك، وكل خطوة كان يخطوها كانت تقوده أكثر نحو الخطر الذي لا يمكنه الهروب منه. في كل مرة كان يلامس الأمل، كان يشعر كما لو أن الظلام يعيده إلى نقطة البداية، حيث يحاصر كل شخصٍ في حبال مصيره القاتمة.
ولكن هناك شيئًا ما في أعماق روحه كان يصرخ من أجل أن يجد شيئًا أسمى من هذا الصراع. كانت مشاعر الحب، تلك التي قد يبدو أنها غريبة في عالمه المليء بالعنف والدمار، تظهر في لحظات غير متوقعة. لم يكن يفهم تمامًا تلك الرغبة في الاتصال الحقيقي، تلك الرغبة التي كانت تجذب قلبه نحو تونه. هل يمكن لعالمٍ كعالمه أن يحمل في طياته بذرة من الأمل الحقيقي؟
في إحدى اللحظات، عندما كان يراقب النجوم من نافذته، كان يفكر في الكلمات التي نطقتها تونه في أحد أحلامه الأخيرة. كانت تلك الكلمات كالمفتاح الذي فتح في قلبه بابًا كان يظنه مغلقًا إلى الأبد. كانت تونه قد لمست شيئًا في روحه، شيئًا كان قد دفنه عميقًا في محاولة للهرب من الإنسانية التي لا يريد أن يواجهها.
أدرك سايلوس شيئًا لم يكن قد استوعبه من قبل؛ كان يعيش في عالم مليء بالقوى المظلمة، لكنه كان لا يزال إنسانًا في النهاية. كانت تلك الإنسانية هي ما جعله يسعى للسيطرة على كل شيء. كان يحاول الهروب منها، إلا أنها كانت تلاحقه في كل مكان.
حتى في وسط القوة والعنف، كان يبحث عن إجابات في أعماق مشاعره. ولكن، هل سيكون قادرًا على التمسك بتلك المشاعر وسط هذا الفضاء المظلم الذي يحيط به؟ أم أنه سينهار تحت وطأة الصراع الداخلي بين ما يريده وما هو مُقدر له؟
كان هذا هو التحدي الأكبر بالنسبة له. كان عليه أن يقرر: هل سيظل يسعى للسيطرة على الكون وقوى الظلام، أم سيختار أن يغامر في عالم من العواطف الإنسانية، عالم لم يكن يعرفه تمامًا؟ وفي هذه اللحظة، بدأت الأسئلة تدور في ذهنه بسرعة: هل يمكن لقلبه أن يقاوم هذا الجذب نحو تونه؟ وهل ستتمكن هي من فهمه، أو سيكون عليه أن يتخلى عن كل شيء ليكون معها؟
الوقت كان يمر بسرعة، وأمام سايلوس كان مستقبله غير واضح، مثل ضباب كثيف يغلف كل شيء. ولكنه كان يعلم أن الاختيارات القادمة ستكون مفصلية. في النهاية، كان عليه أن يختار: هل سيظل يحارب كي يحكم هذا العالم المظلم، أم أنه سيبحث عن إجابة في الحب، في تلك الروح التي تتنفس على الجانب الآخر من الحلم؟
كانت هذه الأسئلة تقوده نحو المجهول، وفي كل خطوة كان يقترب أكثر من الإجابة التي قد تغير كل شيء.
بينما كان سايلوس يقف في تلك الغرفة المظلمة، يراقب الضوء الباهت الذي ينساب عبر النوافذ، كانت ذكرياته مع تونه تتدفق في ذهنه، تملأ قلبه بمشاعرٍ متناقضة، تجمع بين الفرح والحزن، بين القوة والضعف. كانت تلك الذكريات تُشعل في داخله نارًا قديمة لم يشعر بها منذ زمن طويل.
كان يتذكر أول مرة التقى بها، عندما كانت براءة عينيها واضحة كأنها لا تعرف شيئًا عن العالم المظلم الذي يعيش فيه. كانت عينيها، تلك التي كانت تلمع بنوع من الفضول والأمل، قد جعلت قلبه يهتز لأول مرة منذ سنوات. كان سايلوس دائمًا يبتعد عن هذه المشاعر، يظن أن حبًا في هذا العالم لا يمكن أن ينجح. لكنه كان في ذلك الوقت جاهلًا تمامًا بما يمكن أن تفعله تونه له.
ثم كانت تلك اللحظة المضحكة، عندما كانت تونه تحاول أن تمازحه بشيء لم يكن يتوقعه. كانت قد سرقت سيفًا كان يضعه على طاولته، وركضت به في أرجاء القاعدة كما لو كانت هي الفتاة التي لم تذق مرارة الحياة بعد. كان يراقبها بابتسامة، لا يمكنه منع نفسه من الضحك، رغم أنه كان يحاول إخفاء ذلك. في ذلك الوقت، لم يكن يتخيل أبدًا أن شخصًا مثل تونه يمكن أن يدخل عالمه بهذا الشكل، ليختطف منه جزءًا من قسوته ويمنحه شيئًا نادرًا في حياته: الضحك الحقيقي.
لكنه، كما هو دائمًا، كان يميل إلى تجنب عمق المشاعر. وعندما حاول أن يعود إلى حياته المظلمة، كانت تونه دائمًا هناك، تتبع خطاه في أحلامه، تلامس روحًا لا يستطيع الهروب منها. كانت تلك اللحظات التي يجلس فيها معها في صمت، فقط يتبادلان النظرات، لحظات لا يمكنه نسيانها. كانا يجلسان تحت السماء المليئة بالنجوم في إحدى الليالي الهادئة، يلتقيان في عالم بعيد عن العالم الذي يعرفانه، ينسون فيه الواقع ويعيشون فقط في تلك اللحظة. تونه، بابتسامتها البسيطة، كانت تجعله يشعر وكأن الحياة ليست مجرد صراع دائم.
لكن لم تكن كل اللحظات بينهما مليئة بالضحك. كان هناك أيضًا الحزن الذي حل عليهما في العديد من الأوقات. تذكر كيف كان يشعر عندما كانت تونه تصمت فجأة، وتنظر إلى الأرض في صمت طويل، وكأنها تغرق في أفكارٍ لم يستطع فهمها. كانت عيناها تكشفان عن الحزن العميق الذي كانت تخفيه، وكان هو لا يعرف كيف يساعدها. في تلك اللحظات، كان يشعر بالعجز، كما لو أنه لا يستطيع حماية الشخص الوحيد الذي أصبح يشكل له جزءًا من نفسه.
وفي إحدى تلك المرات، عندما كانت تونه تتحدث عن عائلتها، عن الأيام التي فقدت فيها أحبائها، شعر بغياب شيء في قلبه. كان يسمع الألم في صوتها، وكان يعرف أن هذا الألم كان جزءًا من عالمها الذي لا يعرفه، وأنه لا يستطيع أن يغير شيئًا في الماضي. كانت تونه دائمًا محاطة بالظلام الذي لا يستطيع أن يمسحه، ومع ذلك، كانت تجد دائمًا أملًا في فجر جديد. كانت تلك قدرتها على العثور على الأمل وسط الظلام هي ما كان يجذبه إليها أكثر.
ثم كان هناك ذلك اليوم الذي تبادلوا فيه أول قبلة. كان الوقت قد تأخر، وكان الليل يغمر العالم بسكونه، وعندما اقتربت منه، كانت هناك لحظة من التوتر، تلك اللحظة التي شعرت فيها بأن العالم يتوقف. كان قلبه ينبض بسرعة، وعندما اقتربت شفتاهما، شعر وكأنهما تلتقيان في وسط عالمٍ كان مليئًا بالوحدة والفوضى. كان هذا هو الجزء الذي لم يكن سايلوس مستعدًا له؛ كان هذا النوع من العلاقة شيئًا جديدًا، شيئًا كان يخشى أن يضعف قوته.
ومع ذلك، كانت تلك اللحظة جميلة بالنسبة له. كانت تلك القبلة هي النقطة التي بدأ فيها يدرك أن هناك شيئًا آخر في الحياة، شيء لا يمكن تحقيقه بالقوة وحدها. ومع تونه، اكتشف أنه حتى في عالمه المظلم، هناك مساحات يمكن أن تُملأ بالحب والصدق.
في النهاية، عندما كان يفكر في كل تلك اللحظات، أدرك شيئًا واحدًا: كانت تونه بمثابة مرآة له، تعكس فيه ما كان يرفض رؤيته. كانت تونه هي الشخص الذي دفعه إلى أن يكون أكثر من مجرد قائد مهووس بالسلطة. كانت هي التي أعطته لحظاتٍ من الضعف الإنساني، وهي التي علمته أن الحياة لا تتعلق دائمًا بالقتال والانتصار. في وجودها، اكتشف ما يعنيه أن يكون لديك شخص يشاركك أحلامك وآمالك، شخص يفهمك دون أن تحتاج للكلمات.
وبينما كان يقف هناك، يتذكر كل تلك اللحظات، بدأ يشعر بشيء مختلف في قلبه. ربما كانت الذكريات هي ما كان يحتاجه لكي يواصل. ربما، كما قال لها في إحدى المرات، كان يعتقد أنه يمكنه أن يقاتل هذا العالم بمفرده، لكن في النهاية، كانت تونه هي القوة التي دفعته للقتال من أجل شيء أكبر من نفسه..
كان سايلوس يقف أمام النافذة، يحدق في الظلام الذي يحيط به، كما لو كان يحاول أن يتلمس شيئًا مفقودًا في هذا الكون الشاسع. كانت الذكريات التي تعصف به في تلك اللحظات، تدفعه نحو حافةٍ من الحزن والألم. وكان هناك، في عتمة نفسه، ذلك الفراغ الذي تركته تونه في قلبه، بعد أن فقدها.
لم ينسَ لحظة الفقد. كانت تلك اللحظة، التي شعر فيها وكأن العالم كله قد انهار تحت قدميه. كان يعتقد أنه سيعيش بقية عمره في هذا الظلام، بعيدًا عن ضوءها. كانت تلك الأيام التي مضت، كما لو كانت تتناثر بين يديه كالرمال، لا يستطيع الإمساك بها، لا يستطيع منعها من الانزلاق. كانت تونه قد اختفت عن عالمه بسبب عائلتها، لم يعد يستطيع الوصول إليها. كانت تنتقل بين العوالم، بعيدًا عنه، كما لو كانت مجرد ذكرى تذبل ببطء مع مرور الوقت.
ثم جاء اليوم الذي اكتشف فيه الحقيقة المؤلمة. كانت قد انتقلت إلى عالم آخر بعيد، عالم لم يكن بإمكانه الوصول إليه. كانت هناك فجوة بينه وبينها، كانت الجدران عالية، وكان الحظ العاثر يلعب لعبته، فلا مجال للقاء مجددًا. حاول جاهداً أن ينقذها، أن يُعيدها إلى عالمه، إلى مكانه، لكنه فشل. كان يُحارب الرياح بكل قوته، لكنه كان يشعر بالضعف، وبالحزن، وباليأس.
مرت السنوات، وكانت الحياة بالنسبة له مجرد سلسلة من الأيام المظلمة. كانت تونه، رغم ابتعادها، تبقى حاضرة في كل تفصيل من تفاصيل حياته. كان صوتها في عقله، وضحكتها في قلبه، وعينيها التي لا يزال يراها حتى في أحلامه. لم يصدق أنه فقدها إلى الأبد. لكن مع مرور الزمن، بدأ يقتنع بذلك الفقد الذي لا رجعة فيه.
ثم، بعد خمس سنوات من الفراق، وجد نفسه في مكانٍ مختلف، في عالم آخر لا يشبه عوالمه المألوفة. كان يتنقل بين أحلامه وبين الهمسات التي كان يسمعها عبر تلك المرايا الغامضة التي ارتبط بها. وفي إحدى تلك اللحظات، شعور لم يعرفه من قبل اجتاحه. كانت هناك، أمامه، في عالم آخر، عينيها تلمعان، وحضورها يجذب قلبه كما لو كان سحرًا غير مرئي.
لم يكن يصدق نفسه، هل هي حقًا هناك؟ هل هي على قيد الحياة؟ هل يمكن أن يكون قد حصل على فرصة أخرى لرؤيتها؟ كانت الأجوبة غير واضحة، لكن ما كان مهمًا هو أنها كانت هناك، حتى لو كانت عبر الأحلام، حتى لو كانت فقط عبر المرايا التي لم يعرف سرها بعد.
كان يشعر بشيء غريب، شيء مزيج من الفرح والحزن في آنٍ واحد. فرح لأنه علم أنها على قيد الحياة، حزنه لأنها لا تزال بعيدة عنه. لكن رغم المسافة بينهما، شعر بشيء آخر، شعور عميق أنه يمكنه إعادتها إلى عالمه، إلى مكانه، حتى لو لم يكن الأمر ممكنًا إلا عبر الأحلام. كانت المرايا، التي كانت لا تزيده إلا غموضًا، قد أصبحت أداة للاتصال بها.
لم يعد يهتم بكيفية أو لماذا، كان يكفيه أن يعرف أنها لا تزال هناك، وأنه يستطيع الوصول إليها بطريقة ما، حتى لو كانت تلك الطريقة مستحيلة، حتى لو كانت مجرد حلم. كانت لحظات رؤيتها في تلك الأحلام أكثر من كافية له، كانت كافية ليشعر أن شيئًا قد تغير في قلبه، وأنه لا يزال هناك أمل، حتى لو كان في عالم آخر بعيد.
خمسة أعوام من الفراق لم تكن كافية لتجعل مشاعره تختفي. كان يعلم في قرارة نفسه، أنه مهما كانت التحديات التي تواجهه، فإن إعادة تونه إلى عالمه، إلى حياته، أصبحت هدفًا يسعى لتحقيقه. وبالرغم من أنه لم يكن قادرًا على أن يعيدها كما كان، إلا أن تلك اللحظات البسيطة، تلك اللمحات التي كان يرى فيها عينيها في عالم آخر، كانت تعني له كل شيء.
لم يعد الأمر يتعلق فقط بالسلطة أو بالقوة، بل أصبح مرتبطًا بشيء أكثر إنسانية، بشيء أعمق. كان يكفيه أن يعرف أنها هناك، وأنه لا يزال لديه فرصة، حتى ولو كانت تلك الفرصة مجرد حلم..
كان سايلوس يقف أمام المراة، يراقب انعكاسه وهو يشد قبضته على حافة الطاولة. عيناه كانتا غارقتين في بؤس عميق، وكأنما كانت عواطفه تتصادم داخل قلبه، فكل نبضة كانت تذكره بتلك الحقيقة المدمرة التي اكتشفها. تلك الحقيقة التي تجعله يشعر وكأن الأرض تحت قدميه قد انهارت، كما لو أن كل شيء، كل شيء كان يعول عليه، قد تحطم.
تونه، التي ظن أنها كانت فقدت إلى الأبد، قد عادت إلى عالمه. لكنها، لم تكن هي نفسها. وكأن كل تلك اللحظات التي جمعتهم، وكل تلك الذكريات الجميلة التي تروي قصة حب غير عادية، كانت مجرد خيوط رقيقة تلاشت في الظلام.
كانت عيناها فارغتين من أي شيء، كما لو أن روحها قد غادرت المكان، وأخذت معها كل جزء من هويتها. حاول سايلوس الاقتراب منها، أن يملأ الفراغ الذي خلفته تلك الذاكرة المفقودة، ولكنه لم يجد طريقًا. لم يكن يستطيع أن يذكرها بأي شيء، خوفًا من أن تعود ذكرياتها وتغمرها بموجات الألم. فكلما اقترب منها، كان يشعر بها تبتعد أكثر.
ما جعل الأمر أكثر صعوبة هو ما اكتشفه بعدها. عندما علم أن السبب وراء فقدان ذاكرتها هو العنف والظلم الذي تعرضت له من عائلتها الأصلية. كانت تلك العائلة هي التي قيدت حياتها وأخذت منها كل شيء. كان من المستحيل على سايلوس أن يصدق ذلك، لكن قلبه كان يعرف الحقيقة. كانت تونه قد فقدت كل شيء بسببهم: حياتها، هويتها، وكل شيء كان يمثلها.
شعر بشعور قاتل عندما تخيلها وهي تمر بتلك اللحظات الصعبة، تلك اللحظات التي جعلتها تعيش في جحيم من المعاناة والفقد. كان يعرف أن من أصعب الأشياء التي يمكن أن تواجهها هو استرجاع تلك الذكريات. كانت ستكون كالصدمات التي لا تنتهي، لأن كل شيء سيعود معها: أوجاعها، معاناتها، وألم الفقد.
لم يستطع أن يتحمل فكرة أن تونه، التي أحبها بعمق، ستواجه تلك الذكريات المظلمة يومًا ما. كان يعلم أن كل لحظة سيعود فيها وعيها إلى ما كان عليها في السابق ستكسرها، ستجعلها تعيش الألم من جديد، وكأنما تعيش كل شيء للمرة الثانية.
ومع ذلك، لم يستطع أن يتركها، لا يستطيع أن يبتعد عنها. كان يراها كل ليلة في أحلامه، كان يحاول أن يقترب منها، أن يساعدها، ولكن كلما اقترب أكثر، شعرت هي أكثر بالخوف والارتباك. كان عقله يصرخ بالحلول الممكنة، ولكن قلبه كان يدرك أن الوقت لم يكن بعد قد حان لاسترجاع ذكرياتها. كان يعلم أنها ستتألم حين تعود تلك الذكريات المظلمة، لكنه كان يؤمن في نفس الوقت بأن الألم جزء من عودتها، وأنه لا يستطيع أن يوقف هذه الدورة.
"هل ستتمكنين من التعامل مع هذا، تونه؟" همس سايلوس لنفسه. كان يدرك أن الطريق أمامها ليس سهلًا. وعندما تعود إليها تلك الذكريات، ستكون هناك الكثير من الأسئلة التي ستظل بلا إجابة. سيظل يراقبها من بعيد، حتى لو كانت تعيش في عالم مليء بالأوهام التي خلقها لنفسه، لأنه يعرف أن ما تحتاجه الآن هو أن تتأقلم، أن تجد نفسها في هذا العالم الجديد. كان يعلم أنه مهما طال الوقت، مهما كانت المعاناة، فهو سيظل هناك، ينتظر الفرصة المناسبة ليقف بجانبها.
لكن حتى ذلك الحين، كان عليه أن يتعامل مع الواقع، مع حقيقة أن تونه لا تتذكره، ولا تتذكر حياتهم معًا. وكان ذلك أكبر اختبار له.
كانت ليالي سايلوس تزداد ظلمة كلما مضت الأيام. كان يقف أمام المراة، شارد الذهن، يتأمل وجهه في انعكاسها، بينما كانت تونه في عالمها الآخر، تكافح مع ظلال الماضي الذي بدأ يطاردها. كان قلبه يتقطع كلما كانت تشعر بالألم، كلما كانت تصرخ في أحلامها، أو تغرق في نوبات من الصداع العنيف، وكأن عقولهم تشتبك في صراع مستمر، والذكريات تلوح في الأفق مثل أطياف بعيدة.
لم يكن قادرًا على فعل شيء سوى الانتظار، متيقنًا من أن اللحظة التي ستعود فيها تونه إلى نفسها، إلى الماضي، ستكون أصعب اللحظات في حياتها. كانت معاناتها تزداد قوة. كانت أصوات الذكريات القديمة تعود إلي رأسها مثل صواعق كهربائية، مشعلة في أعماقها جروحًا قديمة لم تندمل بعد. كانت تجد نفسها في عالم مليء بالصور الضبابية، غير قادرة على الإمساك بأي شيء، كل شيء كان يتفلت منها كما لو كان حلمًا مستمرًا، كابوسًا لا ينتهي.
كان يراقبها من خلال المراة، يعرف تمامًا متى تكون في حالة من الألم، متى يتملكه الخوف والقلق بشأنها. في تلك اللحظات، كان يشعر بالعجز يتسلل إلى قلبه، لا يستطيع أن يخفف عنها شيئًا. لم يكن لديه القدرة على الوقوف بجانبها والاحتفاظ بها بين ذراعيه، في عالم كان مليئًا بالألم والحيرة. كان يشعر بتمزق داخلي، وأحيانًا كان يتمنى لو كانت تذكره، لو أنها تستطيع أن تراه بشكل كامل كما كانت في الماضي.
الصداع الذي كانت تشعر به كان يطاردها كالعاصفة، يضرب رأسها بكل قوته، وكأن عظامها تتحطم تحت وطأته. كان صراخها في الأحلام يرن في أذنه، لكن لا شيء كان يتغير. لم يكن يمكنه أن يصل إليها في تلك اللحظات المظلمة. كان يعلم أنه يجب أن تكون قوية. لكنها كانت تغرق في بحر من الألم، تبحث عن ملاذ لم تجد له مكانًا.
وبينما كانت تونه تكافح من أجل استرجاع ذكرياتها، كان سايلوس يعاني بشكل غير مرئي. كلما كانت تسترجع جزءًا من ماضيها، كان جزء منها يُمزق في صمت. كان يشاهد كيف كانت تتألم في الليل، بينما هو لا يستطيع أن يفعل شيئًا سوى أن ينتظر. كان يدرك أن ما كانت تمر به هو ضرورة من أجل أن تتخلص من سلاسل الماضي التي قيدتها، لكن الأمر كان مؤلمًا جدًا بالنسبة له.
الكوابيس التي كانت تلاحقها في الليل كانت بمثابة مرآة لعالم مليء بالظلام. كانت تتخبط في رؤى متشابكة، تتنقل بين الحاضر والماضي، بين الأمل والندم. ومع كل ليلة، كانت تجلب معها مزيدًا من الألم، لكن سايلوس كان يعلم أنه لن يستطيع إيقاف هذا. كان حزينًا من أعماقه، لكنه في نفس الوقت كان يعرف أن هذا هو الطريق الذي يجب أن تسلكه لتعود إلى نفسها.
"هل ستتحملين هذا، تونه؟" كان يسأل نفسه في كل مرة كان يرى ألميها يزداد، بينما كان في قلبه يعصره شعور بالفقد والضعف. "هل يمكنك أن تجدين القوة لتتجاوزين هذه اللحظات، لتعودين إلي؟"
في تلك اللحظات، كان يشعر وكأن الوقت قد توقف، وكأن الزمن يدور حوله، لكنه لا يتحرك. كان يحس بكل لحظة كانت تعيشها تونه كما لو كانت هي جزء منه. وكانت معاناتها هي معاناته. لم يكن هناك شيء أقسى من أن ترى الشخص الذي تحبه يمر بكل تلك الصدمات، وأنت عاجز عن تقديم أي مساعدة. كان فقط يراقبها، يعرف أنها في الطريق، لكن الطريق كان مليئًا بالأشواك..
في عالمه الذي لا يعرف الرحمة، كان سايلوس يقف وحده على حافة الهاوية. كل خطوة كان يخطوها كانت مليئة بالتحديات، سواء من أعدائه أو من أعضاء منظمته "الأونوكاينس" الذين كانوا يشككون في قدراته وطموحاته. كانوا يرونه مجرد قائد يسعى للسلطة، لكنهم لم يعرفوا حقيقة الصراع الذي كان يعيشه داخليًا.
في أعماقه، كان يحمل سرًا لا يستطيع البوح به، سرًا كبيرًا يتضمن ماضيه العميق والظلام الذي يطارد كل أفعاله. كان السر هذا هو العائق الأكبر أمام قدرته على التحليق بحرية. لم يكن هناك سوى شخص واحد يستطيع أن يكشفه، لكنه كان يخشى أن يفقدها إن فعل. كان يخشى أن تفهم تونه الحقيقة، تلك الحقيقة التي ستغير كل شيء بينهما.
لكن على الرغم من قسوة هذا السر، كانت المنظمات الأخرى تزداد قوة، وكان أعداؤه يضيقون الخناق عليه. كلما حاول التقدم، كان يرى نفس الوجوه التي تهدد زعامته، وكلما بحث عن حلفاء جدد، كان يكتشف أنهم كانوا يحاولون خيانته وراء ظهره. في تلك اللحظات، شعر أن الأرض تبتعد عنه أكثر وأكثر، بينما كان هو يحاول جاهداً أن يحتفظ بما تبقى له من السيطرة على عالمه.
بينما كانت تحدياته تتزايد، كان يظل يحمل تلك الهمسات في قلبه، تلك الهمسات التي جاءت على شكل حلم غريب أو لحظة من ذكريات تونه التي بدأت تظهر في عينيه مجددًا، ولكن هذه المرة كانت تحمل علامات التحذير. كان يعلم أن هناك شيئًا ما على وشك أن ينكسر. كان يلمح في كل مرة ملامح المعركة القادمة.. تلك المعركة التي سيخوضها ليس فقط ضد العالم الخارجي، بل ضد ذاته أيضاً.
فكيف سيتحمل كل هذا الضغط؟ وكيف سيخفي سره الذي لو اكتشفه أحد، لربما دمر كل ما بناه؟
كان العداء بين سايلوس وعائلة تونه قد بدأ منذ اللحظة التي شعر فيها والدها، رئيس منظمة الأمن الفضائي، بتهديد وجودي من "الأونوكاينس" ومن سايلوس شخصيًا. لا شيء كان أكثر خطورة بالنسبة لعائلة تونه من تلك المنظمة المظلمة التي تسيطر على العالم السفلي. وكان والدها يرى في سايلوس تهديدًا محتملاً لأمن مجرة بأكملها. كان يراقب تحركاته عن كثب، ويخطط لتحركاته المضادة في صمت، بعيدًا عن الأنظار.
لم يكن سايلوس يهتم كثيرًا لهذا الصراع في البداية. كان يراه مجرد فخًا من فخاخ السلطة، وسرعان ما سيخمد. لكنه لم يكن يعلم أن هذا العداء سيصبح أكثر تعقيدًا مما كان يتوقع. كان والد تونه يمتلك نفوذًا كبيرًا في مجالات عدة: من القوانين الفضائية إلى تقنيات الأمن المتقدمة، ما جعله الخصم الذي لا يمكن تجاهله. وعندما علم بأن ابنته تونه قد دخلت في عالمه، بدأت الأمور تتخذ منحى أكثر حدة. لم يكن مجرد قلق الأب على ابنته، بل كانت هناك أسئلة غامضة تحيط بماضيها، وارتباطاتها مع سايلوس بشكل خاص.
وكان سايلوس في تلك اللحظات محاصرًا بين رغبة في حماية تونه والتزامه العميق بعالمه المظلم. كان يعلم أن أي حركة خاطئة قد تؤدي إلى تعريض حياتها للخطر. فالعائلة التي ولدت فيها تونه، وهي عائلة قوية للغاية، تملك قدرة على تحطيم أي تهديد مهما كان قويًا. كان يعي جيدًا أن والد تونه، الذي يقف على قمة السلطة في منظمة الأمن الفضائي، لن يتركه يمر بسلام.
مع كل خطوة كان يخوضها سايلوس في هذه العداوة، كانت الأمور تزداد تعقيدًا. كان يخشى أن يتورط أكثر من اللازم، لكن في الوقت ذاته كان يحاول حماية تونه من المصير الذي قد تلتقي به بسبب هذا الصراع العائلي. كانت ضغوطه تتضاعف. أما تونه، فقد كانت غارقة في صراعها الداخلي أيضًا. بينما كان قلبها يميل نحو سايلوس، كانت تتساءل عن الحقيقة التي خُبئت عنها طيلة حياتها.
صراعه مع والدها كان يشبه حربًا في الفضاء الواسع، حربًا غير مرئية، تتصارع فيها القوى الكبرى. كان كل طرف يحاول التفوق على الآخر بخططه السرية، وعيناه تتابعان كل خطوة. وبالرغم من أنه كان يعتقد أن انتصارًا قريبًا سيكون في متناول يده، إلا أن التوتر بينه وبين عائلة تونه كان يزداد اشتعالًا، مما جعله يعيد التفكير في الطريقة التي يجب أن يسير بها مستقبله.
كانت هذه الحرب تدور بين عالمين: عالمه المظلم الذي يطمح للهيمنة، وعالمها المضيء الذي يعبر عن الأمل والنقاء. وعندما يلتقي هذان العالمين، ستكون هناك لحظة حاسمة قد تغير كل شيء..
لم يولد سايلوس في القمة، بل وُلد في قاع العالم السفلي، حيث لم يكن للرحمة مكان، وحيث تُصنع الوحوش من الأطفال الذين يُتركون لمواجهة العالم بمفردهم. كان مجرّد طفل ضائع في أحد الأحياء الفقيرة التي تعجّ بالجرائم والاضطرابات، لا اسم له ولا هوية، مجرد ناجٍ في عالم يلتهم الضعفاء دون شفقة.
كانت ذكرياته الأولى مشوشة، لكنها كانت تحمل طعم الدم والدخان. والداه؟ لم يعرفهم أبدًا. الشيء الوحيد الذي كان يملكه هو البقاء، مجرد غريزة خام جعلته يسرق ويقاتل ليحصل على لقمة العيش. لكنه لم يكن طفلًا عاديًا، كان يرى العالم بطريقة مختلفة، بطريقة أكثر حدة، أكثر دهاءً.
في سن العاشرة، وقع في يد إحدى العصابات، حيث تحوّل من مجرد صبي جائع إلى أداة قاتلة. تعلم كيف يستخدم السكين قبل أن يتعلم القراءة، وكيف يقتل قبل أن يفهم معنى الحياة. لم يكن له خيار، فإما أن يصبح أداة أو أن يكون الضحية التالية. لكن سايلوس لم يكن ليقبل أيًا من هذين المصيرين.
كان يتعلم بسرعة، يتسلل بين الظلال، يراقب ويدرس، وعندما سنحت له الفرصة، قتل زعيم العصابة التي كانت تحتجزه، ليس بدافع الانتقام، ولكن لأنه كان يعرف أن القواعد لا تنطبق على من يصنعونها. كان ذلك أول انتصار له، لكنه لم يكن الأخير.
بعد تلك الليلة، بدأ اسمه ينتشر في عالم الجريمة. ارتقى في الرتب بسرعة، لم يكن الأقوى جسديًا، لكن عقله كان سلاحًا لا يُضاهى. لم يكن يقتل لمجرد القتل، بل كان يصنع طريقه إلى القمة بحذر، يزرع الولاء، ويستغل الأعداء قبل أن يقضي عليهم.
لكن التحدي الحقيقي لم يكن في الوصول إلى القمة، بل في الحفاظ عليها. حين أصبح زعيم "الأونوكاينس"، لم يكن ذلك فقط بسبب قوته، بل لأنه استطاع أن يحوّل منظمة فوضوية إلى قوة لا تُكسر، عالمًا يخصّه، حيث القوانين تُكتب باسمه، والولاء لا يُمنح إلا لمن يثبت استحقاقه.
أما والد تونه، فكان في الجانب الآخر تمامًا. رئيس منظمة الأمن الفضائي، رجل صنع نفسه في عالم القانون والنظام. شخص يعتقد أن السلطة الحقيقية تكمن في السيطرة المنظمة، لا في الفوضى التي زرعها سايلوس في المجرة. منذ اللحظة التي بدأ فيها نجم سايلوس يسطع، بدأ التوتر يتصاعد بينهما. لم يكن مجرد صراع بين زعيمين، بل كان صراعًا بين فلسفتين متناقضتين تمامًا: النظام مقابل الفوضى، السلطة الشرعية مقابل القوة غير المقيدة.
كان والد تونه يعرف أن القضاء على "الأونوكاينس" يعني القضاء على سايلوس، لكنه لم يدرك أن هذا الفتى الذي نشأ في الظلام قد أصبح أكثر من مجرد زعيم عصابة. كان يعرف كيف يتحرك بين الخطوط، كيف يختفي حين يُلاحق، وكيف يضرب حيث لا يتوقعه أحد.
ورغم ذلك، كان هناك شيء آخر يجعل هذا الصراع أكثر خطورة: تونه. لم يكن والدها يعلم أنها كانت يومًا ما جزءًا من عالم سايلوس، أنه كان أكثر من مجرد عدو، بل كان شيئًا لا يمكن إنكاره في حياتها. لكن عندما عرف، لم يكن ذلك مجرد صدمة، بل كان إعلان حرب حقيقية.
وبالنسبة لسايلوس، لم يكن هذا الصراع مجرد معركة قوة، بل كان جزءًا من ماضيه، من طفولته التي حوّلته إلى ما هو عليه الآن. كان يعرف أن الماضي لا يموت أبدًا، وأن الأشباح التي تلاحقه لن تختفي إلا عندما يقرر هو مواجهتها.
وهكذا، في ظل هذا الصراع العميق، لم يكن سايلوس يقاتل فقط من أجل السلطة، بل كان يقاتل من أجل شيء آخر... شيء لم يفهمه تمامًا بعد...