—
الهواء كان مختلفًا.
باردًا، لكنه ليس برودة الشتاء التي عرفتها… كان نقياً بطريقة غير مألوفة، خالياً من الروائح المعتادة، كأنني تنفست للمرة الأولى في حياتي.
شعرت بقدميّ تلامسان سطحًا صلبًا، لكنني لم أكن واقفة على أرض بالمعنى التقليدي. كان السطح ناعمًا، مصقولًا، أشبه بزجاج ممتد بلا نهاية، لكنه لم يكن زجاجًا. كان ينبض تحت قدمي، وكأنه حي.
رفعت بصري ببطء… ثم شهقت.
العالم من حولي لم يكن مثل أي شيء رأيته من قبل.
السماء لم تكن زرقاء، لم تكن حتى سماءً بالمعنى الذي اعتدت عليه. كانت فضاءً شاسعًا، لكنه لم يكن أسودًا، بل لوحة هائلة من الألوان المتداخلة، دوامات من البنفسجي العميق والأزرق الداكن، مشوبة بلمعان ذهبي متحرك، وكأن الكون ذاته يتنفس من حولي. بين تلك الدوامات، كانت هناك نجوم… أو ربما لم تكن نجومًا، بل مصابيح طافية في الفراغ، تبعث ضوءًا نابضًا، يتحرك بإيقاع لم أستطع فهمه.
أخفضت نظري، فوجدت المدينة تمتد أمامي.
مدينة…؟ لا، لم تكن مجرد مدينة.
أبراج شاهقة، لكنها لم تكن مبنية بالحجارة أو الزجاج، بل من مادة شفافة تشبه الكريستال، تعكس الألوان المحيطة بها، فتجعلها تتغير باستمرار، كما لو كانت تنبض بالحياة. لم تكن الأبراج مستقيمة بالكامل، بل تلتف بانسيابية، تندمج مع بعضها البعض كأنها أشجار عملاقة نمت بطريقة منظمة، جذوعها تمتد وتصنع جسورًا معلقة، طرقًا تتداخل مع السماء نفسها.
بين تلك الأبراج، كانت هناك مسارات طائرة… ليست مركبات عادية، بل هياكل انسيابية، تتحرك دون صوت، أشكالها تتغير أثناء الطيران، كأنها مصنوعة من سائل متصلب. لم يكن هناك عجلات، لم يكن هناك محركات مسموعة… فقط ضوء أزرق خافت يتوهج أسفلها، وكأنه الطاقة التي تبقيها في الهواء.
تحت قدمي، امتدت شوارع ليست شوارع… لم تكن هناك طرق مبلطة أو أرصفة، بل مسارات ضوئية، تتغير ألوانها كلما اقتربت منها، تخلق انعكاسات وأشكال هندسية متحركة، وكأن المدينة تتفاعل معي، تراقبني.
"مرحبًا بكِ في الواقع."
كان صوت سايلوس، هادئًا، لكن فيه تلك النبرة التي تحمل أكثر من مجرد كلمات.
استدرتُ نحوه، فوجدته يقف بثقة، كأنه لم يغادر هذا المكان أبدًا. الضوء المنعكس من الأبراج جعل خصلات شعره الفضية تلمع بشكل غير واقعي تقريبًا.
حاولتُ أن أتكلم، لكن الكلمات لم تأتِ. كيف يمكنني أن أصف شعوري؟
هذا العالم… شعرت أنه مألوف بطريقة ما. ليس كما كان عالمي السابق مألوفًا، بل بطريقة أعمق، كأنني عرفت هذا المكان قبل أن أنساه.
"أين نحن…؟"
أدار وجهه قليلًا، نظراته تمر على المدينة التي تمتد بلا نهاية. "في المكان الذي تنتمي إليه."
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. ليس خوفًا… بل إدراكًا.
"هذا هو الواقع…؟" همستُ، وكأنني أخشى أن ينهار كل شيء إن قلتها بصوت أعلى.
نظر إليّ سايلوس نظرة طويلة، ثم قال بصوت منخفض، لكنه يحمل ثقلًا لا يمكن إنكاره:
"هذا هو عالمكِ الحقيقي، تونه."
—
لم أكن أعرف ما إذا كنت أسير أم أطفو.
الأرض—أو ما يمكن أن أسميه أرضًا—تحتي كانت ناعمة، تشع بحرارة خفيفة كلما لامستها قدماي. كل خطوة تخطوها قدمَيّ كانت تخلق دوائر ضوئية صغيرة تتلاشى سريعًا، كما لو أن المكان نفسه يتفاعل مع وجودي.
سايلوس كان يسير بجانبي، خطواته هادئة، واثقة، كما لو أن هذا العالم صُنع ليناسب إيقاعه تمامًا. لم يكن يتحدث كثيرًا، لكنه كان يراقبني، عينيه تتابع كل حركة أقوم بها، كل نظرة ألقيها على الأبنية المتحركة، على المسارات الطائرة، على السماء التي بدت وكأنها تتغير كل لحظة.
"هل تشعرين بشيء؟" سألني، نبرته كانت أقل قسوة هذه المرة، لكنها لا تزال تحمل ذلك التحدي المعتاد، وكأنه ينتظر مني أن أكتشف شيئًا لم أكن مستعدة له بعد.
هززت رأسي ببطء، عيني لا تزالان تتنقلان على المشهد من حولي. "لا أعلم… إنه غريب، لكن…" ترددت، ثم نظرت إليه. "لكنه مألوف بطريقة ما."
رفع حاجبًا، كأن إجابتي لم تكن مفاجئة بالنسبة له. "هذا جيد. أنتِ أقرب مما تعتقدين."
لم أجب. كنت لا أزال منشغلة بمراقبة المكان…
أخذني إلى طريق مرتفع، يطل على مشهد أكثر شمولًا للمدينة. من هنا، كانت الأبراج تتوهج كأعمدة من الضوء، بينما المركبات الطائرة تركت خلفها آثارًا زرقاء متوهجة في الهواء. كان كل شيء يتحرك بسلاسة تامة، لا ضوضاء، لا فوضى… فقط تناغم غير طبيعي.
"كنا نأتي إلى هنا كثيرًا." قالها بصوت منخفض، وكأنه يختبرني.
نظرت إليه بسرعة. "نحن؟"
أومأ ببطء، عينيه لا تزالان على المدينة. "هذا كان مكانكِ المفضل."
شعرت بشيء يشدني من الداخل، كأن ذاكرة غارقة في أعماقي تحاول أن تطفو على السطح. رفعت يدي ولمست السور الزجاجي الممتد أمامنا… كان دافئًا، كأن حرارة جسدي انعكست عليه.
"أغمضي عينيكِ."
التفتُّ إليه، حاجبي منعقد. "لماذا؟"
ابتسم ابتسامة جانبية، تلك الابتسامة التي تحمل الكثير من الغموض والغرور. "فقط افعليها."
ترددت للحظة، لكنني فعلت.
في البداية، لم أشعر بشيء سوى الهواء البارد على بشرتي… ثم، شيئًا فشيئًا، بدأ صوت الرياح يتغير. لم يعد مجرد همس، بل أصبح أكثر عمقًا، أكثر معرفة.
وفجأة…
رأيت صورة في ذهني.
أنا هنا، واقفة في المكان ذاته، لكن ليس وحدي.
كان هناك ضحك—ضحكي أنا، وصوت آخر يضحك معي.
ثم رأيت يدي تمتد، تلمس السور الزجاجي كما أفعل الآن، لكن في ذاكرتي… كانت هناك يد أخرى فوق يدي.
شعرت بأنفاسي تتباطأ، وكأن جسدي بأكمله قد تجمد في مكانه.
فتحت عيني بسرعة، لأجد سايلوس لا يزال يقف هناك، يراقبني بصمت، عينيه الحمراوان تلمعان بانتباه حاد.
"هل تذكرتِ شيئًا؟"
كان صوته عميقًا، لكنه لم يكن يحمل تلك النبرة الساخرة المعتادة. كان جادًا… ربما حتى فضوليًا.
ترددت للحظة، ثم قلت بصوت بالكاد خرج مني: "رأيت… شخصًا ما معي هنا."
رأيت تعابير وجهه تتغير للحظة، لمعة عابرة في عينيه قبل أن يعود إلى هدوئه المعتاد. لكنه لم يعلق.
بدلًا من ذلك، تحرك، أشار لي بأن أتبعه، ففعلت.
—
أخذني إلى أماكن أخرى.
أراني ممرات تتغير وفقًا لخطواتنا، حدائق غريبة بأشجار ذات أوراق متوهجة، مساحات مفتوحة حيث كان الهواء يهمس بأصوات خفية، كأنه يحمل ذكريات محفورة في طياته.
في كل مكان ذهبنا إليه، كنت أشعر بشيء في داخلي…
ليس ذكرى واضحة، بل شعور… كأنني كنت هنا من قبل، كأنني عشت لحظات في هذه الأماكن، مع شخص ما بجانبي.
مع سايلوس.
رغم كل شيء، رغم غروره، رغم نبرته المتعالية وطريقته المستفزة… كان هناك شيء آخر يطفو على السطح أحيانًا. شيء لم يكن يظهر بسهولة، لكنه كان هناك، خلف العيون الحمراء المتوهجة.
طريقة مشيته وهو يتأكد أنني أتبعه دون أن يشعرني بذلك.
طريقة نبرته وهي تصبح أكثر نعومة حين يسألني إن كنت متعبة.
طريقة نظراته حين يظن أنني لا أراه، كأنه يحاول أن يتأكد أنني ما زلت هنا… معه.
لم أكن أعرف كيف أصفه، لكنني شعرت به.
شعرت أن هذا الرجل، رغم كل قوته ونرجسيته، لم يكن مجرد سيد لهذا العالم…
بل كان شيئًا آخر.
شيئًا يخصني.
لكنني لم أقل شيئًا. لم أكن مستعدة لذلك بعد.
وكأن سايلوس شعر بذلك، لأنه في نهاية اليوم، وقف أمامي، يراقبني بصمت، ثم قال، بصوته العميق الذي بدأ يعلق في ذهني أكثر مما ينبغي:
"غدًا، ستتذكرين أكثر."
ثم ابتسم—ابتسامة لم تكن ساخرة هذه المرة، بل كانت… مختلفة.
وكأنها تخصني وحدي.
—
استيقظتُ على صوت خافت، أقرب إلى همس متداخل مع نبضات قلبي.
في البداية، لم أفتح عينيّ. بقيتُ مستلقية، أستمع…
كان الجو هادئًا، لكن هناك شيئًا غير مألوف. شعرتُ به أكثر مما فهمته—كأن المكان كله ينبض بإيقاع غير مرئي، إيقاع لم أكن قد انتبهت له من قبل. بعد ان انتهينا الامس من جولتنا . اخذني الى فندق فخم.. يملكه ام لا . لا اعلم . لكن لاحظت ان الجميع كان يعمل تحت امرته ويلبون طلباته...
حين فتحت عينيّ أخيرًا… رأيتُ سقفًا شفافًا يمتد فوقي، لم يكن مجرد زجاج، بل مادة شبه حية، تتحرك بلطف، كأنها تستجيب لتنفس المكان.
نهضتُ ببطء، شعرتُ بالسرير الذي كنت أنام عليه يتكيف مع حركتي، كما لو كان يعرف كيف يجعلني مرتاحة دون أن أطلب.
كل شيء هنا… كان مختلفًا.
لم يكن هذا مجرد مكان، بل كان كائنًا بحد ذاته.
"أنتِ مستيقظة."
التفتُ بسرعة، لأجد سايلوس واقفًا عند المدخل، مرتديًا معطفه الداكن، عيناه الحمراوان تراقبانني كما تفعل دائمًا—بانتباه، بثقة، و… بشيء آخر لم أكن قادرة على تسميته بعد.
لكني شعرتُ به.
"كيف كان نومكِ؟" سأل، نبرته أقل حدة من المعتاد، لكنها لا تزال تحمل ذلك الطابع المتفوق الذي لم يتخلَّ عنه أبدًا.
زفرتُ، ثم تمططتُ قليلاً قبل أن أقول: "أفضل من أي مرة سابقة، لكني ما زلت لا أصدق أنني هنا."
اقترب بضع خطوات، حتى بات قريبًا بما يكفي ليجعل الجو من حولنا مشحونًا بشيء غير مفهوم.
"ستصدقين قريبًا." قالها بثقة، ثم أشار لي بأن أتْبَعه.
—
قضينا اليوم نتجوّل في المدينة.
لم يكن هذا مجرد استكشاف، بل كان أشبه برحلة عبر ذكريات غير مكتملة.
كل مكان أخذني إليه… كان مألوفًا بطريقة غريبة.
في أحد الشوارع المرتفعة، أوقفني أمام جدار عملاق شبه شفاف، مضيء من الداخل وكأنه يحتوي على عالم آخر خلفه.
"هنا…" قال بصوت هادئ، ناظرًا إلى الجدار كما لو كان يستطيع رؤية ما وراءه. "كنتِ تحبين قضاء الوقت هنا، تقفين أمامه لساعات، تحدقين فيه، كأنكِ تنتظرين شيئًا."
وضعتُ يدي على السطح الناعم، وشعرتُ بذبذبة خفيفة تسري عبر جلدي.
"ماذا كنتُ أنتظر؟"
"أنا."
التفتُّ إليه بسرعة، لكن ملامحه لم تكن ساخرة هذه المرة، فقط كانت… مباشرة.
لم أعرف كيف أجيب، فقط نظرتُ إليه، ثم عدتُ ببصري إلى الجدار.
ربما، في داخلي، كنتُ أعرف أنه على حق.
—
انتقلنا إلى مكان آخر، ساحة واسعة تمتد أمامنا، تزينها هياكل زجاجية ضخمة تعكس السماء بألوان متغيرة، كأنها تتنفس مع نبض الحياة في هذا العالم.
"كنا نجلس هنا." قال، مشيرًا إلى درجات واسعة منحنية، مصنوعة من مادة سوداء ناعمة تتوهج بخطوط فضية عند لمسها.
لم أعلق، فقط تبعته حين جلس، وبطريقة غريبة… شعرتُ أنني كنتُ قد فعلتُ هذا من قبل.
جلستُ بجواره بصمت، نظرتُ إلى المدينة الممتدة أمامي، إلى الأضواء، إلى المركبات الطائرة، إلى الانسيابية المثالية لكل شيء.
ثم، دون أن أدرك، وجدتُ نفسي أنظر إليه.
سايلوس لم يكن يراقبني هذه المرة، بل كان ينظر إلى الأفق، عينيه تحملان شيئًا لم أرَه فيه من قبل.
"هل تفكر بشيء؟" سألته، متوقعة أن يسخر أو يرد بجملة نرجسية كما يفعل دائمًا.
لكنه لم يفعل.
بل بقي صامتًا للحظة، قبل أن يقول بصوت خافت: "أفكر… كيف سيكون الأمر لو لم تفقدي ذاكرتك."
كلماته… علقت في داخلي.
لم أكن أعرف ماذا أقول.
أخفضتُ نظري إلى يديّ، شعرتُ بقلبي ينبض أسرع قليلًا.
هل كان الأمر سيختلف؟
هل كنتُ سأكون… أنا؟
هل كنتُ سأكون هذه الفتاة التي تنجذب لصوته العميق، لعينيه التي لا تترك شيئًا يفلت منها، لطريقته في الوجود بكل ثقله، كأنه يحكم العالم بأسره؟
أم أنني كنتُ سأكون شخصًا آخر؟
شخصًا لا يحتاج لأن يتعلم كل هذا من جديد؟
لم أجد إجابة، لكنني وجدتُ نفسي أقول بهدوء: "ربما… كان يجب أن يحدث هذا."
التفت إليّ، حاجبه يرتفع قليلاً، كأنني فاجأته. "كيف ذلك؟"
"لو لم أفقد ذاكرتي…" زفرتُ ببطء، ثم أكملتُ بصوت أكثر هدوءًا: "ربما لم أكن سأعرفك من جديد."
لم يقل شيئًا، لكنني رأيت كيف تغيرت عيناه للحظة، كيف ظهر ذلك التوتر الخفي على ملامحه قبل أن يخفيه بسرعة.
وكأنه لم يكن يريد أن أعلم… أن كلماتي تعني له أكثر مما يجب.
—
تجولنا أكثر، رأينا أماكن أخرى.
في كل مكان، كان هناك شيء… ذكرى غير مكتملة، إحساس قديم، شيء يُنادي داخلي ليعود.
وكلما مشينا، كلما تحدثنا، كلما راقبته أكثر… شعرتُ أنني أنجذب إليه أكثر.
لكنني لم أكن مستعدة للاعتراف بذلك.
ليس بعد.
—
في نهاية اليوم، عدنا إلى مكان أشبه بالمحطة المركزية لهذا العالم، حيث تمتد المسارات الطائرة إلى كل الاتجاهات، وتتجمع فيها الأضواء بألوان زاهية.
لكن كان هناك شيء… غريب.
الجو لم يكن كما كان في الصباح.
شعرتُ به، بطريقة لا أستطيع تفسيرها.
توقفتُ فجأة، ونظرتُ حولي، محاوِلة أن أفهم ما الذي جعلني أشعر بهذا التوتر المفاجئ.
ثم، رأيتُه.
رجلٌ يقف بعيدًا، يراقبنا.
كان مختلفًا عن الآخرين… كان ثابتًا.
في هذا العالم الذي يتنفس ويتحرك، كان وجوده غريبًا… كأنه شيء لا ينتمي إلى هنا.
التفتُّ إلى سايلوس، لكنني وجدتُه ينظر في الاتجاه ذاته.
عينيه… لم تكونا تحملان الاسترخاء الذي كان عليه طوال اليوم.
بل كانتا باردتين، حادتين… حذرتين.
"سايلوس…" همستُ، قلبي ينبض بسرعة. "من هذا؟"
لكنه لم يجب فورًا.
وبدلًا من ذلك، نظرتُ إلى الرجل مرة أخرى…
وفي اللحظة التي التقت بها عينانا…
حدث شيء غريب.
شعرتُ بألم مفاجئ في رأسي، كأن أحدًا سحبني بقوة إلى الوراء.
تداخلت أصوات في ذهني، صور خاطفة، ذكريات لا أستطيع فك شفرتها…
ثم، آخر شيء رأيته قبل أن يغمض وعيي…
هو الرجل يبتسم.
ابتسامة لم تكن لطيفة…
بل كانت وعدًا بشيء قادم.
_____
—
استيقظتُ على إحساس غريب… لم يكن الهواء كما كان قبل لحظات، ولم يكن المكان ذاته.
كان هناك شيء خاطئ.
جفناي ثقيلان، ورأسي ينبض بألم حاد، وكأن أحدهم عبث بأفكاري قبل أن أفيق. لكن حتى مع هذا التشوش، كان هناك شيء واحد واضح: أنا لستُ على الأرض.
كان هناك ضغط على جسدي، لكن ليس بطريقة مؤلمة… بل كأنني محمولة، محاطة بشيء ثابت ودافئ.
حاولتُ فتح عينيّ بالكامل، وسرعان ما أدركتُ الحقيقة—سايلوس كان يحملني.
بين ذراعيه، جسدي مرفوع بسهولة كما لو أنني لا أزن شيئًا.
لكن الشيء الأكثر إثارة للدهشة…
لم يكن على الأرض أيضًا.
كان يقفز.
من مبنى إلى آخر، من سطح إلى سطح، بخفة وكأنه لا يتبع قوانين الجاذبية التي أعرفها. حركته كانت سلسة بشكل مخيف، كأنه وُلد لهذا، كأنه يستطيع الطيران حتى وإن لم تكن لديه أجنحة.
شهقتُ، يدي تتشبثان بقميصه الداكن لا إراديًا بينما الرياح تضرب وجهي بقوة. "ماذا… ماذا يحدث؟"
لم ينظر إليّ، عينيه كانتا مثبتتين إلى الأمام، وجهه مشدود بتركيز حاد لم أره فيه من قبل. "عليكِ أن تبقي هادئة."
لكنني لم أكن قادرة على ذلك.
التفتُّ سريعًا، وعندها رأيتُه.
ذلك الرجل… الشخص الغريب الذي رأيناه قبل أن أفقد وعيي.
لكنه لم يكن وحيدًا الآن.
كان هناك آخرون.
لم يكونوا طبيعيين… شيء في طريقتهم بالحركة، في الطريقة التي تمايلوا بها مع الرياح، كان… غير بشري.
كانوا أقرب إلى الظلال، كأن أجسادهم لم تكن ثابتة بالكامل، أطرافهم تتلاشى للحظات قبل أن تعود للظهور.
لكن الأخطر من ذلك كله… كانوا يلاحقوننا.
"سايلوس، من هؤلاء؟!" صرختُ، لكن بدلاً من أن يجيب، أطلق صفيرًا قصيرًا، منخفضًا بالكاد سمعته وسط هدير الرياح.
ثم، من العدم، ظهروا.
الغرابان.
جناحان أسودان عملاقان مزّقا الهواء فوقنا، لكنهما لم يكونا مجرد طيور… كنتُ أعرف ذلك منذ اللحظة الأولى التي رأيتهما فيها.
هبطا بسرعة، شكلهما يتغير في الهواء، يلتف ويتحول…
وبحلول الوقت الذي لامسا فيه سطح المبنى المجاور، لم يعودا طائرين.
بل رجلين.
كل منهما يرتدي معطفًا طويلًا، شعرهما أسود كالليل، وعيونهما لامعة مثل شظايا الزجاج تحت القمر. لم يقولا شيئًا، لكن سايلوس لم يكن بحاجة إلى كلمات.
"أوقفوه." كانت أوامره حادة، واضحة.
لم يسألوا، لم يترددوا. في أقل من ثانية، انطلقا، أجسادهما تذوب في الظلام مرة أخرى، تعود إلى هيئة الغربان قبل أن تندفعا بسرعة لا تصدق نحو الرجل الغريب ومن معه.
لم أستطع سوى التحديق.
"ماذا… من هؤلاء؟! ماذا يحدث؟!"
أخيرًا، شعرتُ بسايلوس يشد قبضته حولي، وكأنه أراد أن يتأكد أنني ما زلتُ هنا. نبرته كانت هادئة، لكنها محملة بشيء لم أسمعه فيه من قبل—خوف.
"ليس الآن، تونه."
"لكن—"
"قلتُ ليس الآن." قاطعني، وعيناه ما زالتا مثبتتين على الطريق أمامنا.
لكنني شعرتُ أن الأمر لم يكن مجرد محاولة لتجنب السؤال…
بل كان يحاول منعي من معرفة الحقيقة.
—
واصلنا التحرك، القفز من مبنى إلى آخر، الهواء يصرخ حولنا، والخطر يطاردنا بلا هوادة.
رغم كل شيء، رغم الخوف، رغم الأسئلة التي لم تُجب بعد…
لم أستطع تجاهل شيء واحد.
وجودي بين ذراعيه.
الطريقة التي حملني بها، كما لو أن تركي يسقط لم يكن خيارًا أبدًا.
الطريقة التي تحرك بها، كيف كان يراوغ، كيف كان يسبقهم بخطوات، كأن العالم كله لوحة شطرنج وهو الوحيد الذي يرى المستقبل.
ورغم كل ما كان يحدث…
رغم أنني كنت في منتصف مطاردة، وأنني لا أفهم نصف ما يجري…
كان هناك شيء آخر يطرق على أبواب وعيي.
سايلوس… كان خائفًا عليّ.
وكان هذا كافياً ليشعر قلبي بشيء لم أكن مستعدة للاعتراف به بعد.
—
لكن قبل أن أستطيع استيعاب كل ذلك، حدث ما لم يكن في الحسبان.
قفز سايلوس إلى سطح آخر، لكنه لم يتوقف.
بل فجأة… اختفى المبنى أمامنا.
لا، لم يختفِ… بل انهار.
كأن شيئًا غير مرئي مزقه من الداخل، تفككت الجدران، وانهارت الأرضية، ووجدتُ نفسي أسقط معه.
شهقتُ، لكنني لم أسقط وحدي.
يد سايلوس شدتني إليه بقوة، وبدلًا من أن نهوى للأسفل…
انعطف في الهواء.
بسرعة غير طبيعية، التف جسده، استخدم ذراعه الحرة للإمساك بحافة معدنية، ثم أطلق نفسه مجددًا للأعلى.
كأن الجاذبية لم تكن قادرة على لمسه.
حاول الهبوط على السطح المجاور، لكنه كان قد تضرر بالفعل… لم يكن مستقرًا.
وفي اللحظة التي لامستْ فيها قدمه الأرض، حدث الشيء الذي لم يكن في الحسبان.
ظهر الرجل أمامنا.
لا أعلم كيف فعلها، لكنه كان هناك، واقفًا بثقة، كأنه لم يكن يطاردنا… بل كان ينتظرنا.
سايلوس توقف فورًا، قبضته ما زالت حولي، عيناه لمعتا بغضب قاتم.
"لا تقترب أكثر." قالها بصوت منخفض، لكنه كان أكثر تهديدًا مما سمعته منه من قبل.
لكن الرجل فقط ابتسم.
ابتسامة بطيئة… خطيرة.
ثم، وأخيرًا… تحدث.
"لقد وجدتُكِ أخيرًا، تونه."
______
—
لم أشعر بقدمي تلامسان الأرض إلا عندما قرر سايلوس ذلك.
كان الهواء لا يزال مشحونًا، وكأن العالم نفسه كان يحبس أنفاسه، يترقب ما سيحدث بين هذين الرجلين.
بمجرد أن أنزلني، وجدتُ نفسي أتراجع تلقائيًا، أقف خلفه. لم يكن قرارًا واعيًا… جسدي ببساطة تحرك وحده.
كان الشعور غريبًا—أن أرى شخصًا يقف كجدار بيني وبين التهديد، وكأنه الدرع الوحيد الذي يمنع العاصفة من اجتياحي.
لكنني لم أكن الوحيدة التي لاحظت ذلك.
الرجل الآخر ابتسم ابتسامة بطيئة، عيناه تنقلت بيني وبين سايلوس كما لو أنه وجد شيئًا ممتعًا في هذا المشهد.
"حسنًا، حسنًا…" قال بصوت مرح بشكل زائف، يرفع يديه في حركة استسلام غير جادّة. "لا حاجة لكل هذا العنف، صديقي القديم."
صديقي القديم؟
عبستُ، نظرتُ إلى سايلوس لأجد وجهه متحجرًا بالكامل.
كانت هذه أول مرة أراه بهذه الطريقة… كان دائمًا متحكمًا، واثقًا، وحتى مغرورًا أحيانًا، لكن هذه المرة؟
هذه المرة، كان هناك شيء آخر تحت تلك الملامح الجامدة—شيء قاتم.
"لا تجرؤ على مناداتي بذلك."
كلماته خرجت هادئة… لكنها حملت خلفها شيئًا قاتلًا.
لكن الرجل لم يتأثر، بل فقط ضحك، وكأنه استمتع بردة الفعل أكثر مما توقع.
"أوه، هيا، سايلوس. كنا أصدقاء يومًا، أليس كذلك؟" قالها بصوت متكلف، كأنها مزحة لا أكثر، ثم أضاف بابتسامة جانبية: "أو على الأقل… كنتُ أعتبرك كذلك."
رأيت كيف شدّ سايلوس قبضة يده، كيف تقلّصت عيناه ببرود واضح، كيف وقف كما لو كان مستعدًا لإنهاء هذه المحادثة بالقوة في أي لحظة.
لكنني لم أفهم…
من هذا الرجل؟
ولماذا أشعر أن هذه المواجهة ليست مجرد ملاحقة عادية؟
"أنت لم تأتِ لمجرد رؤيتي." قالها سايلوس أخيرًا، نبرته كانت تحمل شيئًا خفيًا، وكأنه يتحداه أن يكشف نواياه الحقيقية.
وهنا، تغيرت ملامح الرجل ببطء.
لم يتغير وجهه فعليًا، لكنه تغير.
تلك الابتسامة اللطيفة؟ لم تعد تبدو لطيفة.
ذلك المرح في صوته؟ بدأ يشعرني بالقشعريرة بدلًا من الطمأنينة.
كأن هذا الرجل كان يرتدي قناعًا… قناعًا لم يكن حقيقيًا أبدًا.
"حسنًا، حسنًا…" قال بصوت أكثر انخفاضًا، خطا خطوة صغيرة للأمام، لكن سايلوس لم يتحرك، فقط ثبت مكانه كالصخرة.
ثم، بابتسامة صغيرة، أضاف:
"جئتُ من أجلها."
—
—
جاءتني الجرأة فجأة، كأن شيئًا في داخلي رفض أن يبقى صامتًا أكثر.
خطوتُ للأمام قليلًا، محاذيةً لسايلوس، ثم نظرت إلى الرجل مباشرة وسألته بصوت ثابت، رغم أن قلبي كان يخفق بجنون:
"من أنت؟"
ابتسم.
لم تكن ابتسامة مرحة كما حاول أن يدّعي طوال الوقت… كانت أقرب إلى ابتسامة صائد يرى فريسته تتقدم نحوه دون أن تدرك المصيدة التي دخلتها.
"أوه، عزيزتي، كنتُ أتساءل متى ستسألين." قال بصوت مخملي، ناعم جدًا لدرجة جعلتني أرغب في الابتعاد فورًا.
ثم، بعناية، وضع يده على صدره وانحنى قليلًا في حركة مسرحية مبالغ بها، كأنه يقدم نفسه لملكة:
"اسمي كايلب، ويسعدني أن أخدمكِ، آنستي."
خدمتي؟
شعرت بقشعريرة تسري في ظهري، لكنني تماسكت وسألته بصوت أكثر حدة:
"خدمتي؟ ماذا تقصد؟"
رفع حاجبه قليلًا، وكأن سؤالي كان سخيفًا، ثم أمال رأسه وهو يراقبني بعينين لامعتين.
"ألا تتذكريني؟" قالها بلطف مستفز، ثم ابتسم أكثر، وكأنه يستمتع بكل لحظة من هذا اللقاء.
"أنا أعمل لدى والدكِ."
تجمدتُ.
شعرت ببرودة غريبة تملأ عروقي، وكأن الهواء من حولي أصبح أكثر كثافة، أكثر ثقلًا.
"لدى والدي…؟" كررتُ بصوت شبه هامس، كأنني أحاول استيعاب الكلمات قبل أن أصدقها.
"ليس مجرد عمل، عزيزتي." قال وهو يلوّح بيده بكسل. "أنا في منصب مقرب جدا لديه."
التفتت إلى سايلوس على الفور، لكن ملامحه لم تتحرك قيد أنملة. كان فقط يراقب كايلب بصمت، عيناه مظلمتان كأنهما محيط بلا قاع.
لكنني لم أكن بحاجة إلى تفسير منه… لأنني كنت أشعر بشيء خاطئ.
شيء كان يثقل الجو بيننا، يجعل هذه المحادثة تبدو كأنها أكثر من مجرد كلمات.
كايلب لم يكن هنا مصادفة.
ولم يكن يمزح.
—
—
وقف كايلب اقرب أمامي، لا يزال يحتفظ بابتسامته الهادئة، لكنني كنت أرى ما تحته… كنت أرى خبثًا خفيًا، شيئًا جعلني أرغب في التراجع، رغم أنني تشبثت بمكاني.
حاولت أن أستوعب كلماته.
يعمل لدى والدي؟ في منصب مقرب له؟
لكن… كيف؟ متى؟ ولماذا يظهر الآن؟
شعرت بعيون سايلوس تراقبني، كأنه كان ينتظر ردة فعلي، لكنني لم أتمكن من النظر إليه بعد. كان عقلي يحاول فهم الحقيقة الجديدة التي سقطت فوقي فجأة.
كايلب لاحظ ارتباكي، وأطلق ضحكة خفيفة، كأنه يستمتع باللعبة التي بدأها.
"أوه، لا تنظري إليّ هكذا، تونه." قال بصوت مرح، ثم أضاف بصوت أكثر انخفاضًا: "أنا في صفكِ، أقسم بذلك."
في صفي؟
لا، لا شيء في هذا الرجل يوحي بأنه في صفي.
لم أكن أعرفه، لكنني شعرت أنني لا أريد معرفته أكثر.
"إذا كنت في صفي…" سمعت صوتي يخرج أكثر صلابة مما توقعت. "لماذا لم أركَ من قبل؟"
لمعت عيناه، ثم رفع إصبعًا كما لو أنني طرحت سؤالًا ذكيًا.
"سؤال ممتاز!" قال بحماسة زائفة، ثم أضاف بابتسامة أكثر اتساعًا، "لكن دعينا نقول فقط… أن الوقت لم يكن مناسبًا؟."
الوقت؟
شعرت بأنفاسي تتباطأ قليلًا.
هناك شيء مخفي هنا.
شيء يجعلني أرغب في الابتعاد فورًا، لكنه أيضًا يجعلني أرغب في البقاء لمعرفة المزيد.
لكن قبل أن أنطق بأي كلمة أخرى، سمعت صوت سايلوس أخيرًا.
كان منخفضًا، لكنه حمل شيئًا جعل الهواء بيننا يصبح أكثر برودة.
"كفى عبثًا، كايلب."
التفتّ إليه فورًا، ونظرت إليه عن قرب لأول مرة منذ بداية هذا الحوار.
كانت ملامحه جامدة كالحجر، لكنني رأيت التوتر الخفي في فكه، في الطريقة التي وقفت بها كتفاه.
لقد كان غاضبًا.
لكن ليس غضبًا مشتعلًا… كان غضبًا باردًا، مدروسًا، مميتًا.
كايلب، على عكس المتوقع، لم يتراجع. بل رفع يديه وكأنه يستسلم بمزاح.
"حسنًا، حسنًا، لا داعي لأن تكون رسميًا لهذه الدرجة، سايلوس." قال وهو يميل رأسه قليلًا، ثم نظر إليّ مجددًا.
"على أي حال، عزيزتي تونه، أنا هنا لأقودكِ إلى حيث تنتمين."
إلى حيث أنتمي؟
هذه الكلمات وحدها كانت كافية ليشتعل قلبي بمزيج من الرفض والخوف.
التفتُ إلى سايلوس مجددًا، لكن هذه المرة لم يكن يراقبني.
كان ينظر مباشرة إلى كايلب، عينيه تشعّان بذلك الوهج الأحمر العميق، كأنهما جمرتان في ظلام دامس.
وعندها… أدركت شيئًا.
هذا لم يكن مجرد لقاء عابر.
هذا كان تهديدًا.
وإن لم أكن حذرة… فقد لا يكون هناك طريق للعودة.
—
—
راقبته وهو يبتسم بثقة، وكأن كلماته لم تكن سوى حقيقة واضحة لا تقبل الشك.
"فقدانكِ للذاكرة أمر مزعج حقًا، تونه." قالها كايلب بصوت هادئ، لكنه حمل في طياته نبرة خفية لم أستطع تفسيرها.
اقترب مني خطوة، ثم أضاف، وعيناه تتفحصان وجهي كأنه يبحث عن شيء:
"لقد نسيتِ كل لحظاتنا معًا… كل شيء كنّا عليه."
شعرت بصدري يضيق…
لحظاتنا؟
عن أي لحظات يتحدث؟ من هذا الرجل حقًا؟ ولماذا يشعرني وكأنني كنتُ أعرفه يومًا ما؟
"أنت تكذب." سمعت صوتي يخرج أقرب إلى الهمس، لكنه لم يختفِ.
ابتسامته لم تتغير، لكنه رفع يده ليعدل طرف قفازه الجلدي الأسود، ثم قال:
"أوه، لا أحب الكذب، تونه. لكني أتفهم ارتباككِ."
كان صوته هادئًا جدًا، لكن في داخله قوة غريبة، كأنه واثق تمامًا مما يقول، وكأن الحقيقة معه وحده.
وقبل أن أتمكن من قول أي شيء آخر، انحنى قليلًا، ناظرًا إليّ بعيونه الكحليه الداكنة، وقال:
"سأمنحكِ فرصة لاسترجاع كل شيء… تعالي للقائي وسأخبركِ بكل شيء بنفسكِ."
حدّق بي للحظات، ثم همس بابتسامة ساخرة:
"لديكِ وقت حتى غروب الغد."
وفي رمشة عين… اختفى.
لا صوت، لا حركة… فقط فراغ كان يقف فيه قبل لحظات.
أخذت خطوة إلى الخلف، أنفاسي خرجت ثقيلة، بينما ما زالت عيناي عالقتين في المكان الذي كان فيه.
ماذا… كان هذا؟
كيف… اختفى بهذه السرعة؟
ولماذا… لماذا شعرتُ وكأن شيئًا بداخلي قد اهتزّ لحظة سماع صوته؟
قبل أن أغرق أكثر في أفكاري، سمعت صوتًا منخفضًا خلفي، صوتًا جعلني أعود إلى الواقع.
"تونه."
استدرت فورًا، وعيناي التقت بعيني سايلوس.
كانت نظراته باردة، لكنها حملت خلفها اضطرابًا لم أره فيه من قبل.
لم أنتظر منه أن يتحدث. لا، هذه المرة لن أبقى صامتة.
"أخبرني، سايلوس." قلتها مباشرة، دون تردد. "من هو كايلب؟ وماذا يقصد بأنه كان شخصًا مقربًا مني؟ وما علاقته بأبي؟"
راقبني سايلوس بصمت للحظات، ملامحه لا تزال متحجرة.
لكنني رأيت ذلك التوتر الخفي في يده، في الطريقة التي كان يقبض بها على طرف معطفه الجلدي.
هو لا يريد أن يخبرني…
لكنه لا يستطيع الهروب هذه المرة.
"لا تكذب عليّ، سايلوس." قلتها وأنا أخطو نحوه، نظراتي لا تترك عينيه. "لا مزيد من الألغاز، لا مزيد من التلميحات… أخبرني كل شيء."
كان الهواء بيننا مشحونًا، وكأن العالم كله ينتظر جوابه.
ثم… بعد لحظة صمت طويلة، زفر سايلوس أخيرًا، وأخفض عينيه للحظة، قبل أن يعيدهما إليّ مجددًا، لكن هذه المرة…
كان هناك شيء قاتم في نظراته.
شيء جعلني أدرك أن الحقيقة التي سأسمعها… قد تكون شيئًا لم أكن مستعدة له أبدًا.
—
—
ظل سايلوس يراقبني بصمت، ملامحه لم تتغير، لكنني كنت أعرف أنه لم يكن يفكر في شيء بسيط. كان يقيس كلماته، يقرر كم من الحقيقة يمكنني أن أتحمل الآن.
لكنني لم أعد أطيق المزيد من الأسرار.
"سايلوس، تكلم." قلتها بحزم، عيني لم تترك عينيه.
أخفي تنهيدة ثقيلة، ثم نظر بعيدًا للحظة قبل أن يعود إليّ بنظرة غامضة. "حسنًا… استمعي جيدًا، تونه، لأن هذا ليس شيئًا يمكنكِ نسيانه مجددًا."
ارتفع التوتر بيننا، وكأن الهواء نفسه بدأ يثقل.
"قبل أن تلتقي بي… كنتِ تعيشين حياة مختلفة تمامًا."
تراجعت خطوة، شيء ما في نبرته جعلني أشعر أنني على وشك سماع شيء لا يمكنني الرجوع عنه.
لكنني لم أقاطعه.
"كنتِ تعملين لدى والدكِ… رئيس منظمة الأمن الفضائي."
شعرت بجسدي يتجمد للحظة، لكنني لم أقل شيئًا، فقط انتظرته ليكمل.
"لم تكوني مجرد شخص عادي في المنظمة، تونه." أضاف، عينيه تضيقان قليلاً. "لقد كنتِ… سلاحًا."
شعرت بقلبي يتوقف للحظة، وكأن كلماته سحبت الهواء من حولي.
"كنتِ تعيشين بلا كلل، بلا مشاعر، تنتقلين من عالم لآخر لتنفيذ المهام التي يطلبها منكِ والدكِ… لم يكن لديكِ شيء آخر سواه."
حاولت أن أنكر، أن أقول إن هذا مستحيل، لكنني لم أستطع.
لأنني، في داخلي، شعرت أن كلماته تحمل حقيقة غامضة… شعرت بها تطرق على باب ذاكرتي، تهمس لي أنني قد عرفتها يومًا ما.
بلعت ريقي، وأخذت نفسًا مرتعشًا. "و… أمي؟ وأخي؟"
شيء ما تغير في وجه سايلوس. تلك القسوة الباردة التي اعتدت عليها فيه هدأت قليلًا، وكأنه يعلم أن الإجابة لن تكون سهلة عليّ.
"لقد… فقدتهمِ في حادث غامض."
تجمدت أنفاسي.
"أبوكِ أخبركِ أنه كان من فعل أحد الأعداء." تابع، نبرته منخفضة، لكنها حادة كالسيف.
وضعت يدي على صدري، شعرت وكأن شيئًا بداخلي ينكسر، رغم أنني لم أستطع تذكر أي شيء بوضوح.
لكنني… شعرت بالألم.
"وكايلب؟" خرجت كلمتي بصعوبة، وكأنني أخشى الجواب.
سايلوس ابتسم ابتسامة جانبية، لكنها لم تكن ساخرة هذه المرة… بل كانت مليئة بشيء آخر، بشيء يشبه الاشمئزاز الخفي.
"كايلب… كان اليد اليمنى لوالدكِ." قالها ببطء، وكأنه يمنحني الوقت لاستيعابها. "لقد رباه منذ صغره، وكان يرى فيه الوريث المناسب له."
كان صوته يحمل شيئًا مظلمًا، شيئًا جعل معدتي تنقبض.
"كانوا ينادونه بالجنرال الفولاذي." تابع سايلوس، عيناه تضيقان قليلاً. "بسبب قوته، قسوته، وشخصيته الدبلوماسية المخادعة."
تنفست بعمق، محاولة ترتيب أفكاري.
"إذًا… كايلب لم يكن يكذب عندما قال إننا كنا مقربين؟"
نظر إليّ سايلوس، وعيناه عكستا شيئًا لم أستطع فهمه تمامًا.
"هذا يعتمد على تعريفكِ لـ'المقربين'." قالها ببطء، ثم اقترب مني قليلًا، حتى أصبح وجهه قريبًا من وجهي.
"كان يراكِ شيئًا ثمينًا، تونه."
توقفت أنفاسي.
"ليس لأنه كان يهتم بكِ…" تابع، نبرته تحمل شراسة خفية. "بل لأنكِ كنتِ أقوى سلاح امتلكه والدكِ، ووجودكِ بجانبه يعني السلطة."
لم أعلم متى بدأت يداي ترتجفان، لكنني شعرت بالبرد يزحف إلى داخلي.
كايلب… كان كذلك؟
لكن… لماذا لم أشعر بأنه يكذب عندما تحدث معي قبل قليل؟ لماذا بدا وكأنه… يعرفني بطريقة لم أكن أفهمها؟
سايلوس لم يترك لي مجالًا للغرق أكثر في أفكاري، إذ قال بصوت حاد:
"هذا هو الرجل الذي حدّد موعدًا للقائكِ، تونه."
نظر إليّ مباشرة، كأنه يقيّم ردة فعلي.
"السؤال هو… هل ستذهبين؟"
وقفت هناك، صامتة، بينما داخلي كان عبارة عن إعصار من الفوضى.
اللقاء… غروب الغد… كايلب… كل شيء كان يبدو كقطعة مفقودة من اللغز الذي لم أكن أعرف حتى أنني أملكه.
لكنني كنت أعلم شيئًا واحدًا…
"لن أجد الإجابة إذا بقيتُ هنا فقط."
—
لم يبدُ على سايلوس أي تعبير عندما أخبرته بقراري، لكنني شعرت بشيء غامض خلف عينيه الفضيتين، شيئًا لم أتمكن من قراءته بالكامل.
"يجب أن أقابله، سايلوس." قلت بهدوء، لكن بحزم.
ظل ينظر إليّ للحظات، ثم ضحك ضحكة صغيرة، لكنها لم تكن مرحة تمامًا. "بالطبع ستفعلين."
"أنا جادة." تقدمت خطوة نحوه، عيناي لا تتركان عينيه. "لكل قصة جانبان… يجب أن أستمع لكل شيء قبل أن أقرر ما هو حقيقي وما هو كذب."
هذه المرة، لم يبتسم. فقط نظر إليّ بصمت، وكأنه يقيم كلماتي.
ثم، أخيرًا، زفر بصوت منخفض وقال: "أفترض أنكِ لن تتراجعي عن هذا، أليس كذلك؟"
"لا."
بدا وكأنه كان يتوقع إجابتي، لكنه لم يُظهر أي اعتراض لفظي.
"حسنًا، إذن… استمعي له، ولكن لا تنسي أن بعض الكلمات يمكن أن تكون أسلحة أكثر فتكًا من السيوف."
كانت كلمات سايلوس مثل تحذير بعيد، لكنه لم يكن يعترض على قراري. على العكس، كان صمته يشير إلى شيء آخر، شيء أعمق. شدَّ أصابعه قليلاً، وكأن ملامحه صارت أكثر صلابة، أكثر توترًا.
ثم، بدون تحذير آخر، استدار وبدأ في الابتعاد. لكنه توقف فجأة وأخذ هاتفه، وهو ينضر لي نظرة أخيرة. كانت عيناه مليئة بشيء من القلق الذي لم أره فيهم من قبل.
ثم اختفى من المكان مسرعًا، غارقًا في عتمة الشارع
—
بعد أن غادر سايلوس، وجدت نفسي وحدي للمرة الأولى منذ انهيار عالمي القديم.
وقفت هناك، في قلب هذه المدينة المعدنية المتلألئة، وأنا أتساءل… إلى أين أذهب الآن؟
لقد دُمر العالم الذي كنت أعيش فيه، العالم الذي كنت أظن أنه حقيقي.
لكن… هل يعني ذلك أنني يجب أن أبدأ من الصفر؟ أم أنني كنت مجرد نسخة جديدة لنفس الشخص القديم؟
رفعت بصري إلى السماء المليئة بالأضواء النيونية، والسفن العائمة، والشبكات الرقمية التي تشبه العروق المضيئة في كيان هذا العالم.
لأول مرة، شعرت بأنني بلا جذور.
لكن ربما… ربما هذه ليست نهاية القصة.
ربما هذه كانت البداية فقط.
_____
تقدمت خطواتي ببطء فوق الأرصفة المعدنية، حيث تلتمع الأرضية تحت أضواء النيون المنعكسة من اللوحات الإعلانية الطائرة. الهواء كان مشبعًا بروائح غريبة، مزيج من المعدن الساخن والبلاستيك المحترق ونفحات العطور الاصطناعية التي كانت تتسرب من محلات مصممة كأنها تنتمي لعالم آخر. كنت وحدي.
لم أكن أعرف إلى أين أذهب، أو حتى أين أقف. شعرت وكأنني شبح يتجول في مدينة لا تتعرف عليه.
أشخاص بوجوه محايدة مرّوا بجانبي دون أن يلاحظوا وجودي، أو ربما كنت أنا من لا يلاحظهم. لم أكن أملك أي شيء سوى ملابسي وجسدي المرتبك في هذا العالم الذي لم أعد أميز حدوده. أهذا واقع؟ حلم؟ أو هل أنا مجرد ظل في ذاكرة شخص آخر؟
---
لم أدرك كم من الوقت مضى قبل أن أشعر بتلك النظرة تخترقني.
رفعت عيني ببطء… كان هناك غراب.
وقف فوق أحد الأعمدة، جناحاه السوداوان مطويان بإحكام، وعيناه الداكنتان تتابعانني بصمت. لم يكن مجرد طائر، كان يراقبني، يختبرني.
خفق قلبي، لكنني لم أتحرك.
لقد رأيت غرابًا مثله من قبل… هناك، في حافة وعيي المشوش، في اللحظات التي كنت فيها بين النوم واليقظة، رأيته يحلق حولي بينما كان سايلوس يتحدث معه. كنت شبه غائبة عن الوعي وقتها، لكنني لم أكن واثقة إن كان ما رأيته حقيقة أم مجرد وهم آخر من أوهامي المتزايدة.
لكن الآن… هذا الغراب كان هنا، يحدق بي، وكأنه يعرفني.
"أهذا أنت؟" همست، وكأنني أتوقع منه إجابة.
لم يتحرك.
لم يرفرف بجناحيه، لم يصدر صوتًا، فقط راقبني.
ثم فجأة، كما لو كان يستجيب لنداء غير مسموع، خفق جناحاه مرة واحدة وطار إلى الأمام، لمسافة قصيرة، ثم استدار لينظر إليّ مرة أخرى.
ينتظر.
دعاني.
شعرت بقشعريرة تمر على عمودي الفقري، لكنني لم أتردد.
تبعت الغراب.
---
مشيت خلفه عبر أزقة ضيقة تفوح منها رائحة الماضي، حيث تلتقي التكنولوجيا الحديثة مع آثار العالم القديم. كان يطير ببطء، وكأنه يحرص على ألا أفقده، يختفي خلف الزوايا ليعاود الظهور، متأكدًا من أنني أتبعه.
كل شيء بدا هادئًا على نحو غريب. لم يكن هناك أحد غيري وغير ذلك الغراب.
أخذني إلى منطقة أقل ازدحامًا، حيث لا أضواء نيون، ولا لوحات إعلانية ضخمة، فقط الشوارع المبللة والظلال الطويلة التي تلقيها أعمدة الإنارة الباهتة.
في النهاية، قادني إلى زاوية مظلمة حيث وقفت سيارة سوداء فاخرة، كأنها تنتمي إلى طبقة من الأشخاص الذين لا يمشون أبدًا في هذه الشوارع.
توقفت، أتنفس ببطء، أحدق في السيارة ثم في الغراب.
وفجأة، حدث شيء لم أكن مستعدة له.
في غمضة عين، لم يعد هناك غراب.
كان هناك رجل.
---
حدقت في المشهد أمامي، مشلولة من الصدمة.
كان طويلًا، له ملامح حادة وقوية، شعر أسود فاحم وعينان تحملان بقايا من الغراب الذي تبعته. وقف بثقة، وكأن التحول من طائر إلى إنسان لم يكن سوى أمرًا معتادًا بالنسبة له.
فتح باب السيارة ببطء، ثم انحنى قليلًا كما لو كان خادمًا مخلصًا أمام سيدته.
"تفضلي، سيدتي." قال بصوت هادئ، لكن فيه نبرة من السلطة المخفية.
شعرت برجفة خفيفة في يدي. لم أكن واثقة مما يحدث. كان يجب أن أركض؟ أهرب؟ أم أنه كان عليّ الدخول؟
لم يكن لدي خيار.
بخطوات حذرة، اقتربت وجلست داخل السيارة، يلفني الحذر والشك، فيما أغلق الرجل الباب خلفي بلطف. لم يتحرك بسرعة، لم يبدُ عليه التوتر أو العجلة، كأنه كان يعرف أنني سأدخل في النهاية.
أخذ مكاني في المقعد الأمامي، وضغط على زر خفي، مما جعل النوافذ تعتم تمامًا.
أصبحنا معزولين عن العالم.
---
"من أنت؟" سألت، صوتي ثابت رغم توتري.
لم يلتفت إليّ وهو يشغل السيارة، لكنني رأيت انعكاس ابتسامة خفيفة على زجاج النافذة.
"أنا خادم مخلص." قال بهدوء.
ضغطت على قبضتي. "خادم لمن؟"
هذه المرة، التفت لينظر إليّ مباشرة عبر المرآة، وعيناه السوداوان تحملان شيئًا لا يمكن تفسيره.
"لمن تظنين؟" قال ببساطة.
سايلوس.
كان الجواب واضحًا.
ارتفعت أنفاسي، وأنا أدرك أنني لم أكن مجرد فتاة ضائعة تتبع طائرًا في المدينة.
لقد كنت مُراقبة.
ومنذ البداية…
كنت محميه؟.
ام مستهدفه ؟ ..
---