3 - "أنتِ من صنعتِ هذا المكان... وأنتِ من تستطيعين هدمه."

الأيام تمرّ بطيئة، وكأنها تسير على أطراف أصابعها، تهمس في أذنيّ دون أن تحمل معها أي إجابة. خمسة أيام؟ ستة؟ فقدت العدّ. كل ما أعرفه أنني محاصرة داخل رأسي، داخل جسدي المتعب، بينما الآخرون يرونني مجرد فتاة أصابتها وعكة صحية عابرة.

"مجرد إنفلونزا، بعض الحمى والصداع"، هذا ما يظنونه. لا أحد يرى الحرب التي تدور داخلي. لا أحد يسمع الأصوات المتداخلة، أو يرى الوجوه الضائعة التي تلوح لي من الظلام، ثم تختفي قبل أن أتمكن من الإمساك بها.

في الخارج، كل شيء طبيعي. أمي المزيفة تحضر لي الحساء، أبي المزيف يطمئن عليّ بين الحين والآخر، وزملائي في المختبر يرسلون رسائل قصيرة يتمنون لي الشفاء. لكن في الداخل... لا شيء طبيعي.

أشعر وكأن رأسي يحترق، ليس من الحمى، بل من الذكريات التي تحاول شقّ طريقها عبر الضباب الكثيف. إنها هناك، قريبة جدًا، أستطيع أن ألمس أطرافها، لكن بمجرد أن أحاول الإمساك بها، تتلاشى كالدخان.

أنا لست بخير.

في الليل، حين يخيّم السكون على المنزل، أستلقي في الظلام، أستمع إلى أنفاسي المتوترة، وأراقب ظلال السقف تتراقص مع ضوء القمر. في كل مرة أغمض عينيّ، أرى مشاهد متقطعة، أسمع أصواتًا غريبة، أعيش لحظات لا أذكرها لكنني أشعر بها في أعماقي.

"تونه..."

صوت، مألوف... لكنه غريب. عميق، ثقيل، يحمل داخله شيئًا يشبه الحنين، أو الحزن، أو ربما الحب.

أفتح عينيّ بسرعة، أنفاسي متسارعة. لا أحد هنا. الغرفة ساكنة، لكن الصدى لا يزال يرنّ في أذنيّ.

أحاول الوقوف، لكن الدوار يضربني بقوة، فأعود إلى السرير، أضغط بأصابعي على صدغيّ وكأنني أحاول منع رأسي من الانفجار.

تونه... من أنا؟

كل شيء مشوّش، كأنني عالقة بين عالمين. هذا العالم، الذي يفترض أنه عالمي، لكنه يبدو غريبًا عني. وعالم آخر... عالم لا أستطيع تذكره، لكنني أشعر أنه يناديني.

هناك شخص ما... شخص ينتظرني.

لكن من هو؟ ولماذا أشعر أنني إذا تذكرت، فإنني سأحترق بالكامل؟

الليل طويل... أطول مما يجب. أشعر أنني أسبح في بحر من الظلام، كل موجة تحاول سحبي نحو قاع مجهول. جسدي مرهق، لكن عقلي مستيقظ، يركض في دوائر، يحاول الإمساك بشيء... بأي شيء.

أغمض عينيّ.

هذه المرة، لا أستيقظ في غرفتي.

هناك ضوء خافت، أزرق شاحب، كضوء القمر المنعكس على سطح مياه راكدة. الهواء من حولي ثقيل، يحمل رائحة معدنية غريبة.

أنا في مكان آخر.

أقدامي حافية، تلامس أرضًا باردة ملساء، كأنني أقف على زجاج. لا جدران، لا أبواب، فقط فراغ يمتد بلا نهاية.

وفجأة، هناك صوت.

"تونه..."

ذلك الصوت مرة أخرى.

ألتفت بسرعة، أنفاسي متقطعة.

هناك رجل يقف على بعد خطوات. طويل القامة، يرتدي معطفًا أسود طويلًا، شعره الفضي يتوهج تحت الضوء الخافت. عيناه... عيناه تشبهان عاصفة صامتة، تموج بالأسرار.

سايلوس.

أعرفه.

لكن كيف؟ ولماذا عندما أنظر إليه، أشعر بشيء يشبه الألم، لكنه ليس ألمًا جسديًا... بل شيء أعمق، شيء يشبه الحنين الممزوج بالخوف؟

أتراجع خطوة. هو لا يتحرك، فقط ينظر إليّ كما لو أنه ينتظر مني شيئًا.

"من أنت؟" صوتي يخرج ضعيفًا، مترددًا.

يرفع حاجبه قليلاً، كما لو أن سؤالي كان غير متوقع. يخطو نحوي، بهدوء يشبه نصلًا يقترب من الجلد دون أن يجرحه بعد.

"أنا من كنتِ تعرفينه قبل أن تنسي."

نبضات قلبي تتسارع. هناك شيء في كلماته يوقظ شيئًا داخلي.

أتذكر... لا، ليس بالكامل. لكنه هناك، خلف الضباب.

"لماذا أشعر أنني أعرفك؟"

يقترب أكثر، حتى أصبح قادرة على رؤية الخطوط الدقيقة حول عينيه، آثار السنين التي مرّت عليه.

"لأنكِ تعرفينني، تونه. لكنكِ نسيتِ."

الضباب في رأسي يضطرب، كأنني على وشك أن أتذكر، على وشك أن أرى الصورة كاملة... لكن فجأة، شيء ما يسحبني للخلف.

الفراغ يتكسر، الضوء الأزرق يتحول إلى ظلام، وصوت سايلوس يتلاشى.

أفتح عينيّ بصدمة، ألهث كمن خرج لتوه من تحت الماء.

أنا في غرفتي.

العرق يبلل جبهتي، قلبي يضرب صدري بجنون.

كان حلمًا.

لكن... لم يكن مجرد حلم.

أضع يدي على رأسي، وأشعر بالنبضات المؤلمة التي تدق في جمجمتي.

شيء ما بداخلي يتحطم.

أنا أعرفه. أعرفه.

لكن لماذا عندما أحاول التذكر، أشعر أنني سأحترق بالكامل؟

لا أحد يشعر بما يحدث داخلي. لا أحد يدرك أنني في حرب دائمة مع عقلي، مع نفسي، مع تلك الصور التي تظهر فجأة وتختفي قبل أن أتمكن من الإمساك بها.

منذ أيام، وأنا أعيش في ضباب. ظاهريًا، أبدو كما كنت دائمًا—الفتاة العادية التي تعمل في المختبر، تقضي وقتها مع أصدقائها، تعود إلى منزلها لتناول العشاء مع عائلتها. لكن داخليًا، أنا شيء آخر.

هناك رجل يظهر في أحلامي. رجل غريب... لكنه ليس غريبًا تمامًا. عيناه، صوته، وجوده... كلها تثير داخلي إحساسًا غريبًا، إحساسًا مألوفًا لكنه بعيد، كأنني أراه من وراء زجاج ضبابي.

سايلوس.

أخبرني أنني أعرفه. أنني نسيته. أنني عشت حياة أخرى قبله.

لكن كيف يمكن أن يكون هذا صحيحًا؟ كيف يمكن أن تكون حياتي مجرد وهم؟

أضع رأسي بين يدي، وأحاول ترتيب أفكاري، لكنها كخيوط متشابكة، كلما حاولت فكّها، ازداد تعقيدها أكثر.

هل جننت؟

ربما... ربما هذه مجرد أوهام.

لقد كنت ألعب لعبة إلكترونية، وجدتُها بالصدفة أثناء تصفحي للإنترنت. لعبة لم أسمع عنها من قبل، لكنها جذبتني بشكل غريب. كنت أتحكم بشخصية تعيش في عالم مستقبلي، وتتواصل مع رجل يُدعى "سايلوس"، قائد منظمة غامضة.

كنت ألعب بها لساعات متواصلة، حتى أصبحت أراها في أحلامي.

إذن، هذا كل ما في الأمر، أليس كذلك؟ مجرد تأثير نفسي، خيال تسببت فيه كثرة اللعب؟

لكن إذا كان الأمر كذلك... لماذا كل شيء يبدو حقيقيًا جدًا؟ لماذا عندما أنظر إلى سايلوس في أحلامي، أشعر أنني أعرفه أكثر مما أعرف نفسي؟

أقف أمام المرآة في غرفتي، أحدق في انعكاسي.

أنا تونه. فتاة عادية. لدي حياة، لدي ماضٍ واضح. درست، كافحت، عملت بجهد لأصل إلى ما أنا عليه الآن. لدي عائلة تحبني، أصدقاء يعرفونني منذ الطفولة.

إذن، كيف يمكن أن يكون كل هذا كذبًا؟

أغمض عيني، وأتنفس ببطء.

في رأسي، تنبض الصور من جديد.

... أركض في ممرات مظلمة، أسمع أصواتًا بعيدة تناديني باسمي...

... يدي مغطاة بالدماء، لكنني لا أشعر بالخوف، بل بالغضب...

... يدان قويتان تمسكان بي قبل أن أسقط، وصوت مألوف يهمس باسمي...

... "تونه، لا تنسي. لا تنسي من أنتِ."

أفتح عيني بسرعة، وأضع يدي على قلبي الذي ينبض بجنون.

لماذا أشعر أنني أعيش في جسد لا ينتمي إليّ؟

---

في اليوم التالي، أقرر التصرّف وكأن شيئًا لم يحدث.

أرتدي معطفي، وأتوجه إلى المختبر.

كل شيء يبدو طبيعيًا. زملائي يلقون التحية، أنا أبتسم، أدخل إلى مكتبي وأبدأ العمل.

لكن عقلي لا يتوقف عن التفكير.

ألاحظ أنني أصبحت أراقب كل شيء حولي بطريقة مختلفة. أبحث عن أي دليل يؤكد لي أن حياتي حقيقية.

أمسك هاتفي، وأفتح صوري القديمة. صور طفولتي، عائلتي، أعياد الميلاد، الرحلات...

لكن، ماذا لو كانت هذه الصور مزيفة؟ ماذا لو لم تكن هذه حياتي الحقيقية؟

أشعر بالقشعريرة تزحف عبر جلدي.

"تونه، هل أنتِ بخير؟"

أرفع رأسي بسرعة. صديقتي سارة تنظر إليّ بقلق.

أجبر نفسي على الابتسام.

"أنا بخير، فقط لم أنم جيدًا."

هي تراقبني لثانية، كأنها لا تصدقني، لكنها تهز كتفيها وتعود إلى عملها.

أنا أيضاً أعود إلى العمل، لكن لا شيء يبدو كما كان.

---

عندما أعود إلى المنزل، أقرر أن أنام مبكرًا.

أستلقي على السرير، وأحاول منع نفسي من التفكير.

لكنني أعرف أنني سأراه الليلة.

وأنا محقة.

---

أنا في المكان المجهول مجددًا.

لكن هذه المرة، سايلوس ليس بعيدًا عني. يقف أمامي مباشرة، عيناه تراقباني بصمت.

لم أعد خائفة كما كنت من قبل.

"تونه..."

صوته عميق، يحمل شيئًا يشبه الحزن.

"هل تذكرتِ؟"

أتردد. لا أعرف الإجابة.

"أنا... لا أعرف. هناك أشياء في رأسي، لكنها مبعثرة."

يتقدم نحوي ببطء.

"أنتِ تحاولين مقاومة الحقيقة."

أنظر إليه بحدة.

"أي حقيقة؟ أن حياتي كذبة؟ أن كل شيء عرفته مجرد وهم؟ كيف تتوقع مني أن أصدق هذا؟"

هو لا يرد مباشرة، فقط يراقبني بعينيه العميقتين.

"أشعر بكِ، تونه. أشعر بصراعكِ."

أشعر بضغط في صدري، كأن الهواء أصبح أثقل.

"هل تعرف كم هو مرعب أن تشكك في كل شيء؟ أن تستيقظ ولا تعرف من تكون؟"

أخفض رأسي، وأهمس:

"أنا خائفة، سايلوس."

هناك لحظة صمت، ثم أشعر بيده تلامس كتفي برفق.

"أعلم."

أرفع عينيّ إليه، وأجد في نظرته شيئًا يجعلني أرغب في التصديق.

"لكن الخوف لن يغير الحقيقة، تونه. مهما حاولتِ إنكارها، ستظل هنا، بداخلكِ."

أبتلع ريقي، وأشعر أنني على حافة شيء عظيم، شيء سيغير كل شيء.

لكن هل أنا مستعدة لمعرفة الحقيقة؟

أستيقظ مرة أخرى.

لكن هذه المرة، لا أشعر أنني نفس الشخص الذي كنت عليه بالأمس.

اليوم مختلف. أشعر بذلك قبل أن أفتح عيني.

هناك شيء ثقيل في صدري، ليس خوفًا، بل إدراكًا يتسلل إليّ ببطء، مثل أشعة الشمس التي تشق طريقها عبر ستائر الغرفة المغلقة.

أتدحرج على السرير، أحدق في السقف.

كل ليلة، كنت أقاومه. أرفض كلماته، أرفض تصديق ما يخبرني به. لكن الحقيقة لم تعد مجرد كلمات عابرة. أصبحت صورًا تملأ رأسي، أصواتًا تتردد داخلي، مشاعر تفيض من أماكن لم أكن أعلم بوجودها.

أشعر بها.

أتذكر لمحات من شيء... لا، من حياة.

---

في الصباح، أجلس على طاولة الإفطار مع عائلتي.

أراقبهم بصمت.

والدتي تضع طبق الطعام أمامي بحركة آلية، كما تفعل كل يوم. والدي يطالع الجريدة، يرفع نظره نحوي للحظة، ثم يعود إليها.

كل شيء يبدو طبيعيًا. لكنني لم أعد أرى الأشياء كما كنت أراها من قبل.

كم سنة عشت معهما؟ منذ متى بدأت ذكرياتي هنا؟ هل هناك لحظة بداية واضحة؟

أفكر في صوري القديمة. في طفولتي.

لا شيء يبدو خاطئًا، لكنه أيضًا لا يبدو صحيحًا تمامًا. كأنني أنظر إلى لوحة جميلة، لكن عندما أقترب منها، أجد أنها مجرد خدعة بصرية، مجرد ألوان متداخلة بلا معنى.

"تونه؟"

أنتفض عندما يناديني والدي.

"هل أنتِ بخير؟ تبدين شاحبة."

أجبر نفسي على الابتسام.

"أنا بخير، فقط لم أنم جيدًا."

كذبة. أصبحت جيدة في قولها.

---

في المختبر، أشعر بالاختناق.

الأضواء الفلورية، صوت الأجهزة، حديث زملائي من حولي—كل شيء يبدو مزعجًا بشكل غير طبيعي.

أشعر أنني غريبة هنا. أنني لستُ من هذا المكان.

قبل أيام، كنت أعتقد أن هذا الشعور مجرد تعب أو قلق. لكن الآن، أعرف أنه أكثر من ذلك.

أفكر في اللعبة.

هل كانت لعبة فعلًا؟

لماذا عندما أفكر بها الآن، أشعر أنني أرى نفسي فيها؟ لماذا تبدو تفاصيلها أقرب إلى ذكريات من كونها مجرد قصة رقمية؟

أشعر بوخزة في رأسي.

أغلق عيني، وأتنفس ببطء.

لكن الصور تضربني كعاصفة.

... أصوات إطلاق نار...

... صراخ شخص ما يناديني...

... ممرات طويلة تحت الأرض...

... رجل يقف في الظل، عيونه تلمع بشيء يشبه الحزن...

أفتح عيني بسرعة، وأجد نفسي واقفة، يداي ترتجفان.

سارة تقترب مني بقلق.

"تونه، هل أنتِ بخير؟"

هذه المرة، لا أجد القوة للكذب.

"لا أعرف، سارة... لا أعرف."

---

في الليل، لا أحاول مقاومة النوم.

أريد أن أراه.

وأراه.

---

أنا في عالم ليس بعالم، مكان بين الحقيقة والحلم.

سايلوس ينتظرني، كعادته.

لكن هذه المرة، لا أشعر بالضياع كما كنت من قبل.

"بدأتِ تتذكرين."

إنها ليست جملة استفهامية. هو يعلم ذلك. وأنا أعلم أنه محق.

أقترب منه خطوة.

"لا زلت لا أفهم كل شيء، لكن... هناك شيء داخلي يخبرني أنني كنت هنا من قبل."

يتأملني بصمت، قبل أن يقول بهدوء:

"أنتِ لا تتذكرين فقط، بل أنتِ تشعرين بذلك أيضاً."

أشد قبضتي، وأشعر بالغضب يتصاعد داخلي.

"لماذا لم تخبرني بكل شيء مباشرة؟ لماذا تركتني أتخبط هكذا؟"

ينظر إليّ بعيونه حمراء اللون العميقة، كأن كلماتي تؤلمه.

"لأنكِ إذا عرفتِ الحقيقة دفعة واحدة، لن تتحمليها."

شيء ما في صوته يجعل قلبي يخفق بقوة.

"إذن، الحقيقة قادمة؟"

هو لا يرد. لكنه لا يحتاج لذلك.

أنا أعرف.

أنا أشعر.

العالم الذي كنت أعيش فيه... ليس العالم الذي أنتمي إليه.

جلستُ على حافة الجرف الصخري، قدماي تتدليان فوق الفراغ، والموج تحتي يضرب الصخور بعنف، كأنه يحاول التهام كل شيء يقف في طريقه. كان النسيم البارد يعبث بشعري، يحركه في جميع الاتجاهات، لكنني لم أشعر بالبرد. على العكس، كان هناك دفء غريب يحيطني، رغم أنني لم أكن أرتدي سوى فستان خفيف بالكاد يحميني من الريح.

إلى جانبي، جلس سايلوس بصمت.

لم يكن يتكلم كثيرًا عندما نكون هنا، لكنه كان حاضرًا بقوة، كأنه جزء من هذا المكان، من الحلم ذاته.

نظرتُ إليه، محاولِةً استجماع شجاعتي لسؤاله عن شيء كان يزعجني منذ مدة.

"كيف تستطيع السيطرة على الأحلام؟ كيف تجعلني أراك كل ليلة؟"

التفتَ إليّ ببطء، عيناه تلمعان تحت ضوء القمر المنعكس على سطح البحر المتلاطم. ثم ابتسم، لكنها لم تكن ابتسامة ساخرة أو متعجرفة كعادته، بل كانت هادئة، حزينة قليلًا.

"أنا لا أسيطر على الأحلام، تونه... أنتِ من يفعل."

تجمدتُ في مكاني، أحدق فيه بعدم تصديق.

"ماذا؟"

أطلق ضحكة خافتة، نظرته ثابتة عليّ، كأنه يراقب ردة فعلي بحذر.

"لطالما كانت لديك هذه القدرة، حتى لو لم تدركيها. أنتِ من تجذبيني إلى هنا، أنتِ من تفتحين الأبواب بين العوالم، من تخلقين هذا المكان."

أشعر بصداع خفيف يتسلل إلى رأسي.

"لكن... هذا مستحيل. لا يمكنني فعل ذلك، أنا مجرد..."

توقفتُ، لأنني لم أكن أعرف كيف أكمل الجملة.

مجرد ماذا؟

مجرد فتاة عادية؟ لا، لم أعد متأكدة من ذلك.

مجرد إنسانة تعيش حياة طبيعية؟ لكن حياتي لم تعد تبدو طبيعية أبدًا.

سايلوس أمال رأسه قليلًا، كأنه يعطيني وقتًا لأفكر، قبل أن يتحدث بصوت هادئ:

"لقد أخبروكِ أن هذا العالم هو حلم، أليس كذلك؟"

هززتُ رأسي، ما زلتُ مشوشة.

"نعم، حلم... لكنه يبدو حقيقيًا جدًا."

"لأنه كذلك."

حدقتُ فيه بعينين متسعتين، في محاولة لفهم كلماته.

"الحلم والواقع ليسا كما تعتقدين، تونه. ليس هناك خط واضح بينهما، بل هما متداخلان. أحيانًا، الحلم يصبح أكثر حقيقة من الواقع نفسه."

ابتلعتُ ريقي بصعوبة، أنظر إلى البحر الممتد أمامي.

"إذن... أنت تقول إنني أستطيع الانتقال بين العوالم؟ أنني أستطيع التحكم بالأحلام؟"

"ليس فقط الأحلام."

نظرتُ إليه بسرعة، ملامحي تعكس دهشتي.

"ماذا تقصد؟"

سايلوس تأملني للحظات، قبل أن يمد يده أمامه، مشيرًا إلى البحر.

"جربي."

حدقتُ فيه، ثم في الماء المتحرك تحتنا، لم أفهم ماذا يريد مني أن أفعل.

"جربي ماذا؟"

"سيطري عليه."

ضحكتُ بعدم تصديق.

"سايلوس، أنت مجنون إن كنت تظن أنني أستطيع تحريك البحر."

رفع حاجبه بطريقة مستفزة.

"ألم تقولي إنه مجرد حلم؟"

تجمدتُ للحظة.

صحيح... هذا مجرد حلم، أليس كذلك؟

أخذتُ نفسًا عميقًا، محاوِلةً التركيز.

لو كان كل هذا حلمًا، فربما... ربما يمكنني التأثير عليه.

أغمضتُ عينيّ، ركزتُ على صوت الموج، على الشعور العجيب الذي يتسلل إليّ عندما أكون هنا.

ثم، كما لو كان حدسي هو من يقودني، رفعتُ يدي.

لفترة، لم يحدث شيء.

كنتُ على وشك أن أشعر بالإحراج، أن أخبره أنني لا أستطيع فعل ذلك، لكن فجأة، شعرتُ بشيء مختلف.

وكأن الهواء من حولي أصبح أثقل، وكأن نبضات قلبي تزامنت مع حركة المياه.

فتحتُ عيني ببطء، وصُدمتُ مما رأيته.

الأمواج التي كانت تضرب الصخور بعنف... توقفت.

كأن الزمن نفسه تجمد للحظة، قبل أن تبدأ المياه بالارتفاع تدريجيًا، ببطء، كأنها تتجاوب مع أفكاري.

شعرتُ بقوة غريبة تتدفق في داخلي، كأنني كنتُ دائمًا قادرة على فعل هذا، لكنني فقط لم أكن أعرف كيف.

نظرتُ إلى سايلوس، الذي كان يراقبني بصمت، نظرة إعجاب خفية في عينيه.

"أرأيتِ؟ لم يكن الأمر صعبًا."

شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي.

هذا مستحيل... أليس كذلك؟

لكنه حدث.

أنا فعلتُ هذا.

خفضتُ يدي ببطء، وشاهدتُ المياه تعود إلى طبيعتها، كأن شيئًا لم يكن.

استدرتُ إلى سايلوس، عيناي تمتلئان بعاصفة من المشاعر المختلطة.

"من أنا؟"

تنهد سايلوس ببطء، صوته مليء بالحنين.

"أنتِ أكثر مما تتخيلين، تونه... وأنتِ لم تكتشفي سوى القليل فقط من حقيقتك."

شعرتُ برأسي يدور.

هذه القوة... لم تكن مجرد حلم.

كنتُ قادرة على التأثير على الزمكان نفسه.

وإذا كان هذا صحيحًا... فماذا بعد؟

ظلت أنفاسي متقطعة، وعيناي معلقتان بالماء، كأنني أخشى أن أغمضهما فأجد أن كل شيء قد عاد كما كان، أنني لم أكن سوى مجنونة تتخيل قدرتها على تحريك البحر.

لكن لا… لقد حدث حقًا.

أنا فعلت هذا.

التفتُّ إلى سايلوس ببطء، لكنني وجدته يراقبني بنفس النظرة التي لطالما أربكتني… نظرة من يعرف عني أكثر مما أعرف عن نفسي.

لم أستطع منع نفسي من الهمس، وكأنني أخشى أن تقول الحقيقة اسمي بصوت عالٍ وتصبح واقعًا لا مهرب منه:

"من أنا…؟"

لم يجبني فورًا. ظل صامتًا للحظات، كأن كلماتي كانت مفتاحًا لصندوق أسرار لطالما أراد فتحه لكنه تردد في ذلك.

ثم تنهد ببطء، وألقى نظره نحو الأفق، قبل أن يهمس:

"أنتِ من صنعتِ هذا المكان، تونه... وأنتِ من تستطيعين هدمه."

تجمدتُ في مكاني.

ما الذي يعنيه؟

أشعر بأن كل شيء ينهار من حولي، كل فكرة كنتُ أؤمن بها عن نفسي، عن حياتي، تتلاشى ببطء مخيف.

"مستحيل... أنا مجرد شخص عادي... كنتُ أعيش حياة طبيعية…"

ضحك سايلوس ضحكة قصيرة، لكنها لم تكن ساخرة، بل كأنها ممزوجة بالحزن.

"أي حياة طبيعية، تونه؟ أي جزء بالضبط من حياتك يبدو طبيعيًا؟"

حاولتُ الرد، لكنني لم أستطع.

كان محقًا.

كل شيء في حياتي كان… غير منطقي.

الذكريات المشوشة، الأحلام التي أصبحت حقيقية، الأشخاص الذين لا أشعر نحوهم بأي صلة رغم أنهم عائلتي، والآن… هذه القوة.

التفتَّ إليّ، عيناه الحمراء اللون تلمعان بضوء القمر، وصوته عميق وهو يقول:

"كل ما عشتهِ لم يكن سوى ظل… وهم صُنع ليبقيكِ بعيدة عن حقيقتكِ."

ابتلعتُ ريقي بصعوبة.

"وهم؟"

"نعم… ذكرياتكِ، حياتكِ… كلها مزيفة."

شعرتُ برأسي يدور.

"لا… لا يمكن…!"

لكنه لم يتوقف.

"عائلتكِ؟ عملكِ؟ دراستكِ؟ كلها ليست حقيقية. تم صنعها… أو بالأحرى، تم زرعها داخلكِ حتى لا تبحثي عن ماضيكِ الحقيقي."

شعرتُ بأن الهواء يضيق من حولي، وكأن الجرف الذي أجلس عليه ينهار تحت قدمي.

"من فعل هذا بي؟!"

نظر إليَّ للحظة، ثم همس:

"والدكِ."

صُدمتُ، عيناي اتسعتا بذهول.

"ماذا…؟"

"والدكِ، رئيس منظمة الأمن الفضائي، الشخص الذي من المفترض أنه يحمي البشرية… هو من انتزع منكِ كل شيء."

هززتُ رأسي بعنف، أرفض تصديق كلماته، أرفض السماح لها بأن تترسخ في عقلي.

"أنت تكذب…!"

لكنه لم يتزحزح، لم يبدُ عليه التردد للحظة.

"أنا لا أكذب، تونه… وأنتِ تعلمين ذلك."

شعرتُ بأنفاسي تتسارع، ووضعتُ يدي على رأسي، أحاول تهدئة الدوامة التي تعصف بداخلي.

لكن مع كل لحظة تمر، بدأت صور تتدفق إلى ذهني… صور ليست من حياتي الحالية، بل من شيء أقدم، شيء أعمق.

صورة لرجل ينظر إليّ بعينين جليديتين، صوته بارد وهو يقول:

"إنها خطيرة… يجب إيقافها قبل أن تدمر كل شيء."

صورة ليد تمسك بي بقوة، تحقنني بسائل بارد، ثم كل شيء يختفي.

شهقتُ، يدي ترتجفان وأنا أتمسك بالأرض حتى لا أسقط في الفراغ الذي أشعر به داخلي.

سايلوس ظل يراقبني بصمت، وعندما رآني أبدأ بالانهيار، مد يده وأمسك بي، يمنعني من السقوط.

"أعلم أن الأمر كثير عليكِ، تونه… لكن يجب أن تتذكري. يجب أن تستعيدي حقيقتكِ."

رفعتُ عيني إليه، صوته كان هادئًا، لكنني استطعت أن أرى الألم الذي يخفيه خلف كلماته.

"لماذا تهتم؟ لماذا يهمك إن كنتُ أتذكر أم لا؟"

نظر إليّ للحظة، قبل أن يهمس:

"لأنكِ عندما تنسين… فإنكِ تنسينني أيضًا."

تجمدتُ في مكاني.

هذا الشعور… كان أكثر وجعًا من كل شيء آخر.

"لكن… لماذا؟ ما علاقتكِ بكل هذا؟"

أغمض عينيه للحظة، وكأنه يستعد لقول شيء كان يخفيه عني طوال الوقت.

ثم فتحهما ببطء، ونظر إليّ مباشرة، وقال بصوت منخفض:

"لأنكِ وعدتِني، تونه… وعدتِني أننا سنكون معًا، دائمًا."

شعرتُ بقلبي يتوقف.

شيء في داخلي… عرف أن كلماته ليست مجرد كلام فارغ.

هذا لم يكن كذبًا، لم يكن خدعة.

أنا فعلًا… وعدته.

لكنني لا أذكر متى… أو كيف.

سايلوس ابتسم ابتسامة حزينة، ورفع يده إلى وجهي، أطراف أصابعه تلامس وجنتي برفق.

"الآن الخيار لكِ… إما أن تستمري في إنكار الحقيقة، وتبقَي محبوسة في هذا العالم المزيف… أو أن تستعيدي من أنتِ حقًا."

حدقتُ فيه، أبحث في وجهه عن إجابة، عن شيء يجعل هذا أسهل.

لكنه لم يكن يقدم لي سوى الحقيقة… وهي كانت مخيفة جدًا.

ثم فجأة، أطلق سايلوس تلك الضحكة الخافتة التي عرفته بها، وقال بصوت منخفض، مستخدمًا إحدى جمله التي لم أنسها منذ سمعتها لأول مرة:

"أتدرين ما المشكلة يا تونه؟ المشكلة ليست أنكِ لا تتذكرين… المشكلة أنكِ لا تريدين أن تتذكري."

توقفتُ عن التنفس للحظة.

لأنه كان محقًا.

أنا لم أكن خائفة من الحقيقة… بل كنتُ خائفة من الألم الذي ستجلبه لي.

لكن الآن… لم يعد هناك طريق للعودة.

إما أن أواجه من أنا… أو أضيع للأبد.

كنتُ أقف على حافة الجرف، أحدق في الأفق البعيد حيث يلتقي البحر بالسماء. كان كل شيء هادئًا… لا عواصف، لا أمواج هائجة، لا شيء يعكر صفو هذا المشهد الساكن. لكنني شعرت أن هذا الهدوء لم يكن سوى خدعة أخرى، كأن الأحلام نفسها تتنفس معي، تتغير بانفعالاتي… تتأثر بي.

لم يعد لدي شك في أن هذا العالم ليس مجرد وهم… لكنه أيضًا لم يعد مجرد حلم.

خرجت الكلمات من شفتيّ دون تفكير، كأنني كنت أطرح السؤال على نفسي أكثر مما كنت أوجهه إليه. "إذا لم يكن مجرد حلم… فما هو إذن؟"

لم ألتفت، لكنني شعرت بوجوده خلفي. ثقله في هذا المكان كان ملموسًا، كما لو أن كيانه نفسه قادر على التأثير على الواقع من حوله.

جاء صوته العميق، ثابتًا، لا يحمل أي تردد. "إنه الحقيقة التي رفضتِ رؤيتها دائمًا."

استدرت نحوه ببطء، عيناي تضيقان بحذر بينما أشعر بالرفض يتصاعد بداخلي. "حقيقة ماذا؟ أن حياتي كلها كانت كذبة؟ أن كل ما أتذكره عن نفسي مزيف؟"

كان ينظر إليّ بتركيزه المعتاد، ذلك المزيج من السخرية واللامبالاة الذي يجعلني أرغب في لكمه، أو ربما الصراخ في وجهه.

أمال رأسه قليلًا، ذراعيه متشابكتان فوق صدره، وكأنه مستمتع بمشاهدتي أحاول فك شيفرة ذاتي. "أوه، تونه… هذه ليست حتى أصعب الحقائق التي ستكتشفينها."

ضغطت على أسناني، ويدي قبضت على جانبيّ بقوة. "توقف عن التحدث بالألغاز!"

رفع حاجبًا ساخرًا، تلك الابتسامة المتعجرفة التي أكرهها تلوح على شفتيه. "ألغاز؟ ظننت أنكِ أصبحتِ أذكى من ذلك." ثم أشار بإصبعه إلى صدري مباشرة، عينيه الحمراوان تشتعلان بتوهج غامض تحت ضوء القمر. "كل الإجابات هنا، لكنكِ تخافين النظر إليها."

شعرت بضيق في أنفاسي. كلماته كانت ثقيلة، كأنها تضغط على صدري، تجبرني على مواجهة شيء لم أكن مستعدة له.

ثم جاء صوته، منخفضًا لكنه كاد أن يهز كياني كله. "أنتِ لستِ جزءًا من هذا العالم الذي عشتِ فيه طوال حياتك." اقترب، خطوة بعد خطوة، حتى كدت أشعر بوجوده يحاصرني. "لم تكوني يومًا جزءًا منه. أنتِ تنتمين لي… إلى عالمي."

تجمدت.

شعرت أن الأرض تهتز تحت قدميّ، ليس حرفيًا، لكن داخليًا… كأن شيئًا ما قد انهار في أعماقي.

كان في نبرته شيء جعلني أشعر بالرعب… ليس لأنه كان يهددني، بل لأنه كان متأكدًا مما يقول.

حاولت أن أتمسك بأي منطق، بأي رفض، لكن صوته عاد مجددًا، أكثر ثقة، أكثر تسلطًا. "لا تقلقي، أعلم أن فكرة أنكِ تخصينني قد تكون مربكة." أدار وجهه جانبًا، نظرة تسلية متكبرة في عينيه. "لكن لا بأس، سأمنحكِ الوقت لتستوعبي ذلك."

كان يتلاعب بي. كنت أعرف ذلك، ومع ذلك… شيء ما داخلي لم يستطع دفع كلماته جانبًا.

شعرت بالغضب يتصاعد في داخلي، وصرخت بصوت مشحون بالإحباط: "أنا لا أخص أحدًا!"

ضَحِك.

لم يكن ضحكًا مرتفعًا أو ساخرًا، لكنه كان كافيًا ليجعلني أرغب في لكمه.

ثم نظر إليّ مباشرة، تلك العيون الحمراء تلمع بشيء يشبه الوعد. "ليس بعد."

لم أستطع التحكم في ردة فعلي—ضغطت على أسناني بقوة، قبضتا يديّ ترتجفان من الغضب والتوتر. "لماذا تتحدث معي بهذه الطريقة؟ لماذا تتصرف وكأنك تتحكم بي؟"

اقترب أكثر، حتى أصبحت المسافة بيننا لا تكاد تُذكر. شعرت بأنفاسه قريبة، بصوته يلتف حولي كوشاح خانق.

"لأنني الوحيد الذي يعرف حقيقتكِ." همس، نبرته قاتمة، مغناطيسية، تحمل سحرًا قاتلًا. "أنا الوحيد الذي يمكنه أن يعيدكِ إليكِ."

شيء ما في كلماته أصابني بصدمة… كما لو أنه ضغط على زر خفي داخل عقلي، زر لم أكن أعلم بوجوده أصلًا.

حدّقت في عينيه، شعرت وكأنني على حافة هاوية أخرى… ليست جسدية، بل وجودية.

خفضت بصري للحظة، ترددي يزحف إلى لساني. ثم تمتمت بصوت بالكاد استطعت سماعه بنفسي:

"وماذا لو لم أرِد أن أتذكر؟"

ساد صمت طويل.

كان الصمت ثقيلًا، خانقًا… كأن الكون بأسره توقف عن الحركة، عن التنفس.

سايلوس لم يتحرك، لم يُظهر أي انفعال. فقط نظر إليّ… نظره جعلني أشعر أنني قد نطقت بأسوأ شيء ممكن.

ثم، أخيرًا، تحدث بصوت خافت لكنه محمل بشيء خطير، شيء جعل شعري يقف على أطرافه.

"إذن…" قال ببطء، كأن الكلمات نفسها كانت عبئًا مظلمًا يخرج من بين شفتيه. "ستعيشين كذبة، وتدمرين نفسكِ ببطء وأنتِ ترفضين ذاتكِ الحقيقية."

استدار مواجهاً البحر . لكنني رأيت تلك الابتسامة تعود إلى وجهه… ابتسامة باردة، بلا دفء، بلا رحمة.

"لكن لا تقلقي، سأكون هنا… أراقب انهياركِ بصبر."

كلماته اخترقتني، صفعتني بقوة لم أكن أتوقعها.

لكنني لم أستطع الرد… لأنني كنت خائفة من أنه قد يكون محقًا.

وقفتُ أمام البحر، عينيَّ تتبعان حركة الأمواج التي بدأت تتلاطم بعنف، كما لو أنها تعكس الصراع المحتدم داخلي. كان كل شيء يبدو أكثر وضوحًا الآن، لكن في نفس الوقت، كل إجابة أحصل عليها تفتح أبوابًا جديدة من الأسئلة.

استدرت نحو سايلوس، أشعر بالاضطراب، لكنه كان هناك… كعادته، يقف بثقة كأنه يملك كل الإجابات، أو ربما لأنه لا يحتاج للبحث عنها مثلما أفعل أنا.

"إذن…" أقول بعد دقائق من الصمت . توقفت لآخذ نفسًا، محاوِلة جمع شتات أفكاري. "ماذا عليّ أن أفعل الآن؟"

بدا وكأنه كان ينتظر هذا السؤال. ابتسامة جانبية مائلة للغرور ارتسمت على شفتيه، وكأنه كان يتوقع أن أصل إلى هذه اللحظة عاجلًا أم آجلًا.

"أخيرًا، السؤال الصحيح."

توقعت أن يمنحني إجابة مباشرة، لكنه لم يفعل. اكتفى بالنظر إليّ، طويلًا، وكأنه يقيّمني، يبحث عن أي تردد متبقٍّ في داخلي. ثم، بعد لحظة صمت، تنهد ببطء وقال: "عليكِ أن تستعيدي ذاكرتكِ بالكامل أولًا. لا مزيد من التردد، لا مزيد من الهروب."

شعرت بشيء ثقيل يسقط على صدري، لكنني قاومت ذلك الشعور. لم يكن هناك مفر من هذه الخطوة، كنت أعرف ذلك… لكن ما سيأتي بعدها كان أصعب.

"ثم ماذا؟"

ثبت نظره عليّ، وعيناه تلمعان بحدة. "ثم… عليكِ مواجهة والدكِ الحقيقي."

شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. والدي…؟ لا، ذلك الرجل الذي صنع من حياتي جحيمًا، الرجل الذي جعلني افقد كل شيء… الرجل الذي، بسببه، وُلدت في عالم لم يكن لي أصلًا.

شعرت أن الهواء أصبح أثقل حولي، وكأن الواقع نفسه يضيق عليّ. كنت أريد الهروب، ولو للحظة، لألتقط أنفاسي…

"لكن…" ابتلعت ريقي بصعوبة، ثم حسمت أمري. "أحتاج وقتًا."

رأيت حاجبه يُرفع قليلًا، كما لو أن كلامي لم يعجبه. "وقت؟ لأي شيء؟"

تجنبتُ النظر في عينيه مباشرة، كأنني أخشى أن يرى الصراع الذي يدور داخلي. "لأودّع عائلتي."

شعرت بتغيّر طفيف في تعابيره، شيء في عينيه أظلم، لكنه لم يقل شيئًا على الفور. انتظرني لأكمل.

"أعلم أنهم ليسوا حقيقيين… أعلم أن هذا العالم بُني ليعيشني في وهم… لكنهم كانوا معي طوال حياتي." ابتسمتُ بحزن، وأنا أسترجع لحظاتي معهم. "أحببتهم، وهم أحبوني. حتى لو كان كل شيء مزيفًا، فإن المشاعر لم تكن كذلك."

أخذ سايلوس نفسًا عميقًا، وكأنه يحاول كبح تعليق ساخر كان على وشك الخروج، ثم قال بنبرة هادئة لكنها لا تخلو من حدّته المعتادة: "حسنًا، لن أمنعكِ من وداع عالمكِ الوهمي… لكن لا تنسي أن كل ثانية تقضينها هنا، تضعف جدران الواقع أكثر."

في اليوم التالي، وقفتُ أمام المنزل الذي ظننتُ أنه منزلي طوال حياتي.

كان كما هو دائمًا… مألوفًا، دافئًا، لكنه الآن بدا مختلفًا. كأنني كنت أرى التشققات التي لم ألاحظها من قبل، وكأن العالم نفسه لم يعد يستطيع خداعي أكثر.

عندما دخلتُ، وجدتُ والدتي في المطبخ، تحضّر العشاء كما تفعل كل ليلة. والدي كان يجلس على الأريكة، يقرأ الجريدة، وأخي الصغير منشغل بلعبته المفضلة.

شعرتُ بغصة في حلقي.

"تونه، كيف تشعرين اليوم؟" سألت والدتي بلطف، تدسّ خصلة من شعري وراء أذني كما كانت تفعل دائمًا.

أخذتُ نفسًا عميقًا، محاوِلة أن أستجمع شجاعتي. "أنا بخير… لكنني أريد التحدث معكم عن شيء مهم."

رأيتُ القلق يظهر على وجوههم. لم يكونوا معتادين على جديتي المفاجئة.

جلستُ أمامهم، يداي متشابكتان على حجري، ثم نطقت بالكلمات التي شعرت أنها ستكسرني من الداخل. "أنا… سأرحل قريبًا."

ساد الصمت.

"ماذا؟" نطقها والدي باستغراب، بينما بدت أمي مرتبكة.

"إلى أين؟" جاء صوت أخي الصغير، عينيه الواسعتين تمتلئان بالحيرة البريئة.

شعرتُ بقلبي يتقلص داخل صدري، لكنني لم أستطع التراجع الآن. ابتسمتُ له بحزن، محاولة أن أبدو قوية، رغم أنني بالكاد كنت أتمكن من التنفس.

"لا أستطيع شرح كل شيء الآن…" كنت أسمع رعشة في صوتي، لكنني أجبرته على الثبات. "لكنني… وجدتُ شيئًا كان مفقودًا، وعليّ استرجاعه."

رأيتُ أمي تقترب مني، القلق يملأ عينيها. "لكن، تونه، نحن عائلتكِ… ألا يمكننا مساعدتكِ؟"

نظرتُ إليها، شعرتُ أنني أريد التمسك بها، بالبقاء هنا… لكنني كنت أعرف أنني لا أستطيع.

"أحبكم…" تمتمت، ودموعي بدأت تتجمع في عينيّ. "لكن هناك حياة أخرى تنتظرني… حياة لم أعد أستطيع تجاهلها."

شعرتُ بوالدتي تعانقني بقوة، كما لو أنها تحاول إبقائي هنا بالقوة، وكأنها إن تمسكت بي بما يكفي، لن أفلت من بين يديها.

والدي لم يقل شيئًا، لكنه نظر إليّ نظرة جعلتني أشعر أنه يعرف الحقيقة، حتى لو لم يعترف بها.

حتى أخي الصغير، رغم أنه لم يفهم كل ما يحدث، اقترب وعانقني بقوة، كأنه يشعر أنني لن أعود.

لحظات الوداع هذه كانت ثقيلة، مؤلمة أكثر مما توقعت… لكنها كانت ضرورية.

لكنني لم أكن مستعدة لما حدث بعد ذلك.

عندما خرجتُ إلى الشارع، شعرتُ بشيء غريب… الهواء أصبح أثقل، والسماء التي كانت صافية قبل لحظات، بدأت تتشقق.

حرفيًا.

وقفتُ في مكاني، عينيّ تتسعان برعب وأنا أرى التشققات السوداء تنتشر في السماء، كأنها زجاج يتكسر ببطء.

ثم… سمعتُ صوته خلفي.

"قلت لكِ إن الوقت ليس في صالحكِ."

التفتُ ببطء، ورأيته واقفًا هناك، يراقب الانهيار دون أي انفعال، وكأنه كان يتوقع ذلك.

"ما… ما الذي يحدث؟" همستُ، أشعر أن الهواء من حولي بدأ يختفي.

رفع يده، مشيرًا إلى السماء. "السقف الزمكاني بدأ بالانهيار… عالمكِ الوهمي لم يعد قادرًا على الاستمرار. بسبب ادراككِ للواقع"

وفجأة… بدأ كل شيء من حولي ينهار.

المنازل، الأشجار، حتى الأرض تحت قدميّ بدأت تهتز.

سمعتُ صراخ عائلتي، التفتُ إليهم، رأيتُ الرعب في عيونهم…

لكنني، في داخلي، كنت أعرف الحقيقة.

هذا العالم كان ينهار… لأنه لم يكن حقيقيًا أبدًا.

لم أعد أسمع سوى صوت الريح… عواءً مزمجرًا يمزق السماء.

كل شيء كان يتشقق… المنازل، الشوارع، الهواء نفسه… كأن الواقع يُمزّق أمام عينيّ مثل ورقة قديمة لم تعد قادرة على حمل ثقل الحبر الذي كُتب عليها.

"لا… لا لا لا لا!" صرخت، عيني تتنقل بين الأشياء التي عرفتها طوال حياتي وهي تتحول إلى شظايا، إلى غبار يتلاشى مع الريح.

أدرت رأسي نحو عائلتي—أمي، أبي، وأخي الصغير—لكنهم لم يعودوا كما كانوا قبل دقائق. وجوههم بدأت تبهت، كأن ألوانهم تتلاشى ببطء، كلوحة يُغسل عنها الطلاء تحت المطر.

أمي مدت يدها نحوي، لكن أصابعها بدأت تتحلل إلى ذرات قبل أن تصلني.

"تونه… لا تتركينا…"

شهقت، قلبي يخفق بجنون. "أنا لا أريد…! لم أكن…"

لكن صوتي ضاع وسط الضوضاء.

كل شيء كان ينهار.

كانت يد سايلوس على كتفي. ثابتة، قوية، تُبقي قدميّ على الأرض بينما العالم من حولي يُمزق كصفحة في كتاب قديم.

لم يبدُ عليه أي تأثر، لم يرتعش أو يتراجع… فقط راقبني، كأنه كان يعرف أن هذه اللحظة ستأتي، وكان ينتظرها بصبر مرعب.

"هذا ليس حقيقيًا، تونه." قالها بصوت ثابت، عميق، كأنه يحاول سحبي إلى الواقع الحقيقي.

لكن… كيف لي أن أصدقه؟

كيف لي أن أترك عائلتي تختفي أمامي؟ كيف لي أن أسمح لهم بأن يتلاشوا كما لو أنهم لم يكونوا شيئًا أبدًا؟

"لكنني…" كنت أرتجف، أشعر بالبرد رغم أنني أعلم أنه ليس حقيقيًا. "أنا… عشت معهم… أنا… أحببتهم…"

"وهذا لا يجعلهم حقيقيين."

كلماته كانت كالسكين، حادة، قاطعة، لكنها لم تكن قاسية. كانت الحقيقة… فقط الحقيقة.

أغلقت عيني، شعرت بالدموع تسيل على وجنتي.

هذا هو الواقع، أليس كذلك؟

أمي وأبي… لم يكونوا أبدًا أمي وأبي.

أخي لم يكن أخي.

منزلنا، أعياد ميلادنا، لحظات الفرح والحزن… كلها كانت مجرد صورة، قفصًا ذهبيًا صُمم ليبقيني محبوسة في عالم لم يكن لي أبدًا.

عندما فتحت عينيّ… لم يكن هناك شيء.

لا شارع، لا منازل، لا سماء زرقاء… لا عائلة.

كنت واقفة وسط فراغ رمادي، وكأن العالم قد طُمس بفرشاة عملاقة.

تنفست ببطء، صدري يعلو ويهبط وكأنني قد ركضت لأميال.

سايلوس لا يزال بجانبي. لم يتحرك، لم يقل شيئًا. فقط انتظر.

ثم أخيرًا، بعد لحظات بدت كالعمر كله، همست بصوت خافت، بالكاد مسموع:

"أنا مستعدة."

رأيت كيف انحنى حاجبه الفضّي قليلًا، وكأنه لم يكن يتوقع أن أقولها بهذه السرعة.

لكنني كنت أعنيها.

أنا مستعدة لأعرف…

مستعدة لأتذكر…

مستعدة لمواجهة من كنت عليه… ومن سأكون.

2025/03/17 · 9 مشاهدة · 4926 كلمة
Fatima
نادي الروايات - 2025