كانت الشمس تغرق ببطء في الأفق، تصبغ السماء الزرقاء والسحب البيضاء بلونٍ برتقاليٍّ محمّر، يشبه ألسنة اللهب المتراقصة على سطحها. وفي الجهة الأخرى، كانت يد الليل تدفع ما تبقى من نور الشمس، وكأنها معركة صامتة بين النور والظلام على حق السيطرة.
وبينما استمر الاثنان في الصراع، كانت الأرض تحتضن مدينةً مزدحمةً بالمارة والسيارات. الجميع يهرولون كالنمل العامل، يتدفقون عبر الأرصفة والمعابر. أصوات المحركات، وقع الأقدام المتعجلة، وصفارات التنبيه ملأت الأجواء، واختلطت برائحة العرق، ودخان العوادم، وعبق الزيت المحترق المنبعث من عربة طعام تقليدية تقف عند زاوية الطريق.
أضواء الشوارع، والمركبات، والدراجات، والمباني اللامعة تتلألأ كنجوم على سطح أرضٍ لا تنام. أوراق الأشجار ترفرف مع نسمات المساء الباردة، ويصطدم هواء المدينة المتعب بوجوه المارة في خفة وفتور، كأن المدينة نفسها تتنفس بصعوبة.
وبينما الجميع يتسارعون أو ينتظرون إشارة المرور، كان هناك شاب يرتدي بدلة رسمية، وفي يده حقيبة عمل، ويده الأخرى تمسك بهاتفٍ يتصفح من خلاله شيئًا ما. على وجهه، كانت علامات الإرهاق والضجر مرسومة بوضوح، بفعل ضغط العمل اليومي وساعات التنقل الطويلة.
كان الشاب يسير ببطء، لا هو وحده، بل كل من حوله أيضًا. كأن التعب والروتين اليومي قد صبغا المدينة بلون الكسل الداخلي. الجميع أشبه بآلات عمل، تتحرك بلا روح، من العمل إلى المنزل، ومن المنزل إلى العمل.
هذه إحدى طبقات المجتمع الحديث: الطبقة الكادحة، التي تعمل كل يوم وتؤدي ساعات إضافية من أجل لقمة العيش. أجسادهم تمشي، لكن أرواحهم منهكة، تبحث عن فسحة راحة لا تأتي.
استمر الحشد في السير، مرة بسرعة، ومرة ببطء. وفي كل موجة تمر، تتناقص مجموعة أو تزداد أخرى. كل شخص يتخذ مسارًا منفردًا، لا أصدقاء، لا تبادل نظرات، فقط أعين مغمورة في الشاشات. هذا هو الحال في كل مكان: في الشوارع، الحافلات، القطارات، وحتى داخل السيارات. مجتمع محبوس في سجن العالم الافتراضي، وحارس سجنه هو التكنولوجيا ذاتها.
عقول امتلأت بتفاهات، وقلوب أُشغلت عن الأهم: العائلة، الأصدقاء، والحياة نفسها. كل شيء حقيقي أصبح باهتًا... وكل شيء وهمي أصبح مقدسًا.
وبينما كان الحشد يستمر في السير، يتوقف عند شارة مرور ثم يعاود الحركة، كان ذلك الشاب ذو البدلة الرسمية، الذي يركز كل انتباهه على هاتفه، يواصل المشي دون أي اهتمام بمحيطه. لم يلحظ الإشارة الحمراء، واستمر في العبور، بينما الحشد الذي يسير معه لم يلحظه أيضًا. الجميع غارقون في شاشاتهم، كأنها نوافذ تمتص أرواحهم المتعبة.
وفي منتصف الشارع، ظهرت شاحنة مسرعة، دون أدنى نية لتخفيف سرعتها. سائق الشاحنة كان ممسكًا بالمقود بقوة، وعيونه خالية من الحياة، كأنما تاه عقله في عالم آخر.
اقتربت الشاحنة بسرعة من الشاب، وفجأة صدمته بقوة، فأرسلته يطير في الهواء كقذيفة. عندها فقط لاحظ السائق ما حدث، وضغط على الفرامل بعنف، لكن ما الفائدة؟ لقد أزهقت روح.
عندما سمع المارة صوت الاصطدام واحتكاك عجلات الشاحنة بأرض الشارع الزلقة، رفعوا رؤوسهم فجأة، وكأن زرًا سريًا قد فُعل لإخراج أرواحهم من هواتفهم. لكن أحدًا لم يتحرك تجاه الحادث. بل رفعوا هواتفهم، وبدأوا يلتقطون الصور والفيديوهات لجثة الشاب الملقاة على الشارع. تهشمت عظامه، وتناثرت دماؤه من أنفه وفمه وعينيه. الشاحنة توقفت في منتصف الشارع، تعطل حركة المرور، ولكن لم يقترب أحد... فقط صور وفيديوهات، ثم عادت رؤوسهم إلى شاشاتهم لنشر الحدث بأسرع ما يمكن.
لم يمر وقت طويل حتى أضيف صوت صفارات سيارات الإسعاف والشرطة إلى صخب المدينة، كما لو كانت سنفونية عشوائية تُعزف على مسرح من الفوضى، وجمهورها نجوم السماء المعلقة في الأعلى.
وفي عمارة قريبة من مكان الحادث، كان هناك شاب في غرفة ذات إضاءة خافتة، يجلس على كرسي ألعاب فيديو، يرتدي سماعة رأس، وأصابعه تتحرك بسرعة على أزرار الحاسوب والفأرة. الغرفة مكتظة بأكياس طعام فارغة، وعلب مشروبات نصف ممتلئة، وتفوح منها رائحة خانقة من العفن والبقايا القديمة.
لمح ضوءًا ساطعًا من نافذته التي تطل على الشارع، لكنه لم يهتم، واستمر في اللعب. توقف فقط عندما انتهت الجولة، ونزع السماعة عن أذنيه، فامتلأت أذناه بضجيج الشارع وصفارات سيارات الإسعاف والشرطة.
تمتم الشاب بصوت خافت:
"حادث مرور آخر..."
لم تتغير ملامحه. لم تكن لديه نية للوقوف أو النظر. هذه الحوادث أصبحت عادية. استمر في العبث بلوحة المفاتيح والفأرة، ثم تمتم مرة أخرى:
"هل كل من يتعرضون لحوادث شاحنات سيتجسدون من جديد، مثل روايات الخيال؟"
ابتسم بسخرية:
"هذا شيء موجود فقط في الخيال... أما هنا، فالأرض ليست ناعمة ودافئة، بل قاسية وباردة."
كان اسمه جاك. عمره 24 عامًا. تخرج قبل عام من كلية الحقوق، وحاول الاعتماد على نفسه في مواجهة المجتمع. كان شابًا بطموحات كبيرة، لكنه تلقى صفعة من الواقع أجهضت أحلامه.
في هذا العالم، هناك فئتان: أغنياء لا يمكن تصور مدى غناهم، وفقراء مدفونون تحت الأرض وهم على قيد الحياة. إما أن تسير مع التيار، أو تغرق وتختفي. هكذا وضع الأغنياء قوانين هذا العالم.
"تنهد..."
أطلق جاك تنهيدة ثقيلة، وعاد إلى شاشته وبدأ جولة جديدة، وكأن الحياة لا تتجاوز لعبة يعيدها في كل مرة.
رن هاتفه الموضوع على الطاولة. نظر إليه... كانت أمه تتصل. لم يهتم، بل خفّض صوته، وقلب الهاتف على وجهه، ورفع صوت اللعبة.
لم يكن يريد الإجابة. الخجل من نفسه والحزن كانا كافيين ليمنعاه من ذلك. لم يشأ أن تسمع أمه صوته، فتفهم الحقيقة التي يخجل منها.
أمه تزوجت برجل ثري بعد وفاة والده منذ تسعة عشر عامًا. منذ طفولته، عرف أن تلك الأسرة لا تمت له بصلة حقيقية. لم يكن يريد أن يكون عبئًا عليهم، رغم أن زوج أمه لم يشعره يومًا بأنه غريب... لكنه يعلم أنه ليس ابنه.
كان يشعر أن عنايته به نابعة من شفقة، وهذا ما كان يكرهه أكثر من أي شيء. ورغم أنه فقد والده صغيرًا، إلا أن وصيته كانت: "لا تنحنِ لأحد، ولا تقبل شفقة أحد."
ولهذا، كان يتجنب مكالمات أمه. في كل مرة تعرض عليه العمل في شركة زوجها. كان يكره نبرة صوتها الفخورة. رغم حبه لها، إلا أنه كان يكره ذلك الشعور الذي يتسلل في صوته، كما لو كانت تحاول إصلاحه بالكلمات.
ظل الهاتف يهتز على الطاولة، ومع كل هزة، كان ضغطه على لوحة التحكم يزداد، ووجهه يشتد، وعيناه تحمرّان من فرط الانفعال.
كان قلبه ممتلئًا بكراهية دفينة: كراهية لشفقة زوج أمه، كراهية لاحتقار إخوته غير الأشقاء، كراهية لنبرة أمه الممزوجة بالفخر الزائف، وكراهية لهذا المجتمع الفاسد.
كانت أسنانه تحتك ببعضها، ونَفَسُه يتصاعد من صدره، وكلمة واحدة تتكرر في داخله:
"كراهية... كراهية... كراهية..."
فجأة، نزف أنفه. قطرة دم حمراء سقطت على يده المرتجفة. بدا وكأن الوقت أصبح أبطأ. أسند ظهره على الكرسي، ومد يده المرتجفة نحو الهاتف.
رفع السماعة، ووضع الهاتف على أذنه.
سمع صوت أمه تقول:
"لماذا لا تجيب؟ هل تعرف كم كنت قلقة عليك؟"
كانت الكلمات تحمل الخوف، لكن نبرة صوتها عادية... باردة.
أغلق جاك عينيه، وأجاب بصوت خافت:
"لماذا؟"
ثم صمت...
"ماذا تقصد بـ لماذا؟ هاه؟ جاك؟"
سقط الهاتف من يده، وسمعت أمه على الطرف الآخر صوت السقوط، وبدأت تصرخ في الهاتف:
"جاك؟ ماذا بك؟ جاك!"
لكن جاك لم يكن موجودًا ليجيب. لقد ترك الحياة.
لم تكتشف أمه الحقيقة إلا بعد ثلاثة أيام، حين دخل أحد أصدقاء جاك إلى الشقة، فوجد جسده ممددًا على الأرض.
بكت بمرارة، بدموع صادقة...
لكن، هل تعيد الدموع الأموات؟
لا.
كان المكان مظلمًا، كما لو أنه لا يحتوي على ذرة ضوء واحدة. ظلام مخيف، صامت، لا بداية له ولا نهاية. في ذلك الفراغ، كانت هناك روح شفافة تقف وحدها، تتلفّت يمنة ويسرة، ثم تنظر خلفها، وبعدها إلى الأمام.
من الواضح أن هذه الروح تحاول تحديد اتجاهها، لكن في هذا المكان، لم يكن هناك مفهوم للاتجاه أصلًا. لا فوق، لا تحت، لا أمام، لا خلف… فقط العدم.
وفجأة، تحركت الروح نحو الأمام، رغم أن "الأمام" لم يكن موجودًا. كانت تسير في طريق غير مرئي، كأنها تنجرف وسط فراغٍ يسحبها دون توقف، دون إرهاق، بلا شعور بالزمن أو الجسد.
في هذا المكان، لم يكن للوقت معنى. لكن بينما واصلت الروح سيرها، بدأت طاقة غريبة تتسلل إليها ببطء… بهدوء. طاقة باردة، خانقة، كأنها تبتلع شيئًا حيًّا. شيئًا فشيئًا، بدأت الروح تُظلم، وتفقد شفافيتها. ملامحها الروحية تنحلّ، تنكمش، كأنها تُمتص من هذا الفراغ نفسه.
هذا المكان لم يكن يصلح لوجود كائنات… حتى حكّام العوالم لا يجرؤون على دخوله. إنه طبقة خفية بين الأبعاد، حيث لا قانون يسري، ولا قوة تحكم.
وفجأة، انشق الفراغ. شق غريب كُوِّن من ضوء خافت، لكنه قاتم في ذات الوقت، كأنه فم كيان لا يمكن وصفه. الروح لم تتمكن من مقاومته. جُذبت إلى داخله بقوة، ثم اختفت، كأنها لم تكن.
---
في غرفة نوم صغيرة، مضاءة بمصباح خافت، كان هناك شاب يتلوّى فوق السرير، يتعرق بغزارة، ووجهه يعبّر عن ألم حاد.
أنفاسه كانت متسارعة، غير منتظمة. قبضت يداه على الغطاء وكأنهما تبحثان عن ثباتٍ في كابوسٍ متوحش. قطرات العرق تسيل من جبينه إلى رقبته، تبلل الوسادة، ورائحة جسده الساخن المختلطة برائحة الغرفة المغلقة تُحدث ثقلاً في الهواء.
فجأة، انتفض الشاب جالسًا من نومه، فزعًا، كأنما قُذف من أعماق الجحيم.
"أين... أنا؟"
صوته كان مبحوحًا، خائفًا، يتردد بين جدران الغرفة. كان صدره يعلو ويهبط بسرعة، وعيناه متسعتان تبحثان عن تفسير.
كان قلبه يخفق بقوة، ويداه ترتجفان. نظر حوله كمن لا يعرف هذا المكان . كانت الستائر تتحرك بهدوء بفعل نسمة باردة من النافذة، لكن كل شيء بدا له غريبًا… وكأن العالم تغيّر فجأة، أو كأنه لم يعد هو نفسه.