"أين... أنا؟"

خرج صوته مبحوحًا، خافتًا، كأنه صدى بعيد لروح تائهة. ارتجف الهواء من حوله مع ارتعاشة أنفاسه المتسارعة، وترددت كلماته بين جدران الغرفة الصامتة.

شفتاه المتشققتان بالكاد نطقتا، وعيناه المتسعتان راحتا تتجولان في المكان بتوتر واضح، تبحثان عن تفسير، عن شيء مألوف... فلم تجدا شيئًا.

كان صدره يعلو ويهبط بجنون، وقلبه يدق بعنف كطبل حرب، فيما راحت يداه ترتجفان كأوراق شجرة في مهب الريح. نظر حوله كمن سقط فجأة في حلم لا يعرف له بداية.

الستائر الرقيقة ترفرف ببطء بفعل نسمة باردة تسللت من النافذة نصف المفتوحة، تحمل معها رائحة تراب مبلل وخشب قديم، كأن المكان بقي مهجورًا منذ زمن.

لم يكن هناك ما يبعث الطمأنينة. الأثاث غريب، الجدران تحمل تصاميم لا يعرفها، والجو مشبع بشيء لا يمكن تسميته. شعور بالغربة اخترق أعماقه كإبرة باردة.

أغمض عينيه بقوة، ورفع يده اليمنى ليغطي وجهه، محاولًا صد الألم الحاد في رأسه، وكأن صاعقة شقت جمجمته.

تنهد بتثاقل، وانخفض رأسه للأمام، لتتساقط خصلات شعره الأسود المبلل بالعرق على وجهه المرهق. ثم خرج صوت آخر من شفتيه المتشققتين، أقرب إلى الهمس:

"من أنا؟... أين أنا؟"

كان هذان سؤالين لا يسألهما إلا من فقد كل شيء... حتى نفسه.

وفي عمق صمته، بدأت ذكريات متضاربة تطفو كفقاعات من الظلام. صور متداخلة... جاك، شاب من عصر حديث ذو 24 عام، خريج كلية حقوق مرموقة، يسير بين الأبراج الزجاجية والمدن المزدحمة... وصور أخرى، كايل ليوثان ذو 15 عام، أصغر أبناء عائلة ليوثان العريقة، عائلة مجدها يمتد لألف عام، لكنه كان وصمة عار عليها؛ ليس بسبب موهبته، بل بسبب كسلٍ.

الماضيان اصطدما في عقله كأمواج متناحرة. الذكريات بدأت تذوب، تندمج، وتتشابك... روحان، جسد واحد.

من هو المسيطر؟ جاك؟ أم كايل؟ سؤال مربك... روح من عالم هش، مليء بالقوانين والروتين، تقابل روحًا من عالم يحكمه السيف والسحر.

لكن الحقيقة؟ روح كايل كانت قد اختفت مؤخرًا، قبل أن تحل روح جاك، إلا أن بقاياها الروحية بقيت، ترفض الرحيل، تقاوم، تحاول التهام الوافد الجديد.

لكن هذه لم تكن روحًا عادية... روح جاك مختلفة، مشبعة بطاقة الفراغ، طاقة لا يمكن تفسيرها. نمت وتطورت داخل فجوة الأبعاد، حيث لا يدخل أحد من دون أن يُمحى.

مكان لم تطأه حتى أجساد حكام العوالم، ناهيك عن أرواحهم. روحه، التي كانت بشرية وفانية، لم تعد كذلك.

لقد أصبحت "روح الفراغ". صلبة، هادئة، بلا حدود. استمر الصراع بينه وبين بقايا كايل، صراع لا يُرى، لكنه احتدم داخل الأعماق.

وفي النهاية... فاز جاك.

التهم البقية، وأخمد آخر شرارة من روح كايل. عندها، انفجر سيل من الذكريات في رأسه. صور، مشاعر، خبرات، أسرار... كل ما كان يملكه كايل أصبح له. وفي تلك اللحظة، بدأت هالة باهتة تتشكل حول جسده.

لم تكن مرئية بالعين المجردة، لكنها أثارت اضطرابًا خفيفًا في الهواء، كأن العالم نفسه أخذ نفسًا عميقًا.

وجلس جاك... أو كايل؟ لا... كان شخصًا جديدًا، مزيجًا من الاثنين، يحمل ماضيين، ويحمل أكثر من مجرد اسم.

أنزل جاك يده المرتجفة عن وجهه، وجسده كله يرتجف كقطة مبللة بمطر. فتح عينيه الحمراوين بهدوء، كأنما يفتح أبواب جحيم ونيران تشتعل خلفها.

رغم الارتجاف، كانت عيناه هادئتين، ثابتتين، كما لو أن هذا الجسد المرتجف لا ينتمي لتلك النظرات الهادئة.

أعاد جاك تجول عينيه في الغرفة. كانت غرفة نوم بسيطة: سرير صغير، شماعة للملابس، باب يؤدي إلى الحمام، مرآة معلقة على الجدار بجانب السرير، طاولة طعام خشبية وكرسي، ومصباحان سحريان على الجدران.

رائحة الخشب القديم والرطوبة العالقة أكدت قدم هذه الغرفة. بسيطة، منظمة... تشبه غرف الفنادق الريفية.

همس مرة أخرى، بنبرة أكثر وضوحًا: "أنا حقًا... انتقلت."

أغلق عينيه من جديد، ثم سقط بجسده على السرير، يفكر فيما يحدث.

أولًا، هو مات... لا يعرف السبب بدقة، ربما بسبب ضغط دم مرتفع.

ثانيًا، تجسد في عالم جديد. عالم يشبه إلى حد بعيد العصور الوسطى من عالمه السابق، لكنه مختلف جدًا: في هذا العالم، توجد المانا، طاقة السماء والأرض، تتجول ببطء في الجو. كثير من الناس يمكنهم امتصاصها عبر تدريبات محددة، وأكثرهم شيوعًا هم المحاربون.

فأن تصبح محاربًا لا يتطلب الكثير، فقط بعض الموهبة والمثابرة. لكن السير في طريق الفرسان أو السحرة أمر آخر تمامًا... يتطلب موهبة عظيمة، موارد هائلة، وقوة لا تُقارن.

ثالثًا، هذا العالم... أكبر بكثير مما كان يتصور، ربما ثلاثة أضعاف حجم الأرض. تلك معلومة من ذكريات كايل، ربما صحيحة، وربما لا.

رابعًا، هناك العديد من الأجناس والممالك. خمس إمبراطوريات عظمى، وأكثر الأجناس تنوعًا هم البشر، الجنس الذي كان في بداية السلسلة الغذائية أضعف كائن، لكنه يمتلك قدرة تعلم مرعبة، وإمكانات هائلة تظهر في هالة الفرسان.

على عكس السحر، الذي إما يُولد معك أو يُورث من دماء الأجناس القوية.

خامسًا، هناك كائنات... حُكّام، تجاوزوا كل شيء، أشعلوا نيران الملكوت، وتربعوا على عروش السماء. أطلق جاك زفيرًا طويلًا، وفتح عينيه مجددًا.

"لم أتوقع ذلك... فكرة التناسخ أو التجسد، التي كنت أراها سخيفة، أصبحت حقيقة. وأنا الآن جزء منها."

رفع جسده الضعيف من السرير، يشعر بالدوار من الجوع.

"اللعنة... لماذا تجسدت في جسد شخص ضعيف؟"

ضعف الجسد لم يكن بسبب الجوع فقط، بل أيضًا بسبب كسل كايل ليوثان، الذي كان دائمًا يتهرب من التدريب، رغم كونه من سلالة نبيلة.

"وفوق كل هذا... تم طرده من عائلة ليوثان."

لم يكن طردًا حرفيًا، بل تعليقًا لاستخدام اسم العائلة. لم يُنشر أمره خارج العائلة، بل بقي ضمنها. ولكن، لاستعادة حقه في الاسم، عليه دخول أكاديمية الفجر، والخضوع لتدريب صارم، ليُثبت نفسه كفارس موهوب.

وإن فشل... عليه أن ينسى أمر العودة نهائيًا.

ولأن كايل كان محطمًا نفسيًا، لم يأكل منذ أسبوع. وبصراحة، الامتناع عن الطعام أسبوعًا لا يعني شيئًا للأقوياء، لكن كايل؟ حتى كلب العائلة كان أقوى منه.

وهكذا... مات، وأخذ جاك جسده. تغيرت ملامح جاك، العبوس يملأ وجهه.

"لو كنت تجسدت قبل الطرد، لكنت ترجيت أمي أن تتحدث إلى أبي ليزيد نفقاتي... ويوفر لي موارد أكثر."

لم يدرك إلا متأخرًا أنه بدأ يفكر بعائلة كايل كأنها عائلته.

أما عن نفقته، فكانت 1000 قطعة ذهبية شهريًا، إضافة إلى بعض موارد التدريب. هذا المبلغ يكفي عائلة عادية لثلاث سنوات، لكنه بالكاد يكفي فارسًا في بداية طريقه، خاصة إن أراد دخول الأكاديمية.

قد تقول: لماذا لا يهرب؟ لكن إلى أين؟ عائلة عمرها ألف عام ليست مزحة... وإن عرف أعداء العائلة، فسيكون موته مؤكدًا.

وبينما كان جاك شارد الذهن، ظهر بريق حاد في عينيه الحمراوين.

"بما أنني هنا... فسوف أعيش. بل أستمتع. سأكتب قدري بيدي... وأدوس على كل من يقف أمامي."

وقف جاك من على السرير وسار نحو المرآة.

كانت خطواته متثاقلة، لكنه بدا أكثر ثباتًا. انعكس وجهه على سطح الزجاج: وجه حاد، هادئ، بشرة شاحبة كمريض، شعر أسود متموج، وعينان حمراوان تشتعلان كجمرة في ليل مظلم.

"منذ اليوم... لم يعد هناك مكان لجاك. من الآن، هناك فقط كايل ليوثان. هذا اسمي... وسأجعل الجميع يعرفه."

في تلك اللحظات التي قرر فيها كايل التخلي عن ماضيه كجاك، وتحول إلى كايل ليوثان، أعاد ترتيب سير الأمور في هذا العالم.

من كان من المُقدَّر أن يكون متشابكًا مثل شبكة عنكبوت، أصبح سلسًا، ومن كان سلسًا أصبح متشابكًا مثل شبكة.

تروس القدر بدأت تعمل، والمستقبل بدأ يتغير تدريجيًا ببطء وثبات. والمسرح بدأ يُعَدُّ من أجل أن تكون المسرحية جاهزة لصعود ممثليها.

لكن من مخرج هذه المسرحية؟ حاكم؟ أم القدر؟ أم ذلك الجانب المخفي؟ أم أن كايل هو نفسه المخرج والممثل الرئيسي؟

وحده الوقت سيكشف الأمر، والأوراق المخفية ستظهر تدريجيًا.

2025/06/13 · 133 مشاهدة · 1121 كلمة
General_13
نادي الروايات - 2025