الكلمات.
"أخيكِ".
"سيريس".
سقطت الكلمتان في الصمت المطبق للمكتبة المستحيلة، وكان لهما ثقل جاذبية نجم منهار.
تجمد كل شيء.
الطفلة، سيريس، التي كانت قبل لحظات بركانًا من الغضب الطفولي، توقف بكاؤها فجأة. الدموع تجمدت على خديها. فمها بقي مفتوحًا قليلاً في منتصف صرخة لم تكتمل.
استدارت ببطء شديد، كدمية ميكانيكية تعطلت، ونظرت إلى المرأة التي أطلقت عليها اسم "أمي"، ثم إليّ، وعيناها القرمزيتان الواسعتان تحملان تعبيرًا من الصدمة المطلقة، والارتباك، وشيء يشبه... الاشمئزاز الخالص.
كأنها للتو علمت أن الحشرة المقرفة التي كانت تصرخ عليها قد تكون مرتبطة بها بالدم.
وأنا... تجمدت أيضًا.
عقلي، الذي كان بالكاد قد بدأ يعالج حقيقة أن "أرشيف الظلال" هو في الواقع مسرح لكوميديا منزلية غريبة، توقف عن العمل تمامًا.
أخ؟ من؟ أنا؟ الكلمات كانت تدور في رأسي بلا معنى، كأنها رموز من لغة ميتة. لم يكن لدي أخت. الرواية لم تذكر أي أخت. أليستر هو أخي الوحيد. هذا... هذا لم يكن منطقيًا.
شعرت بأنني أقف على حافة الجنون، أنظر إلى هاوية من العبث.
وفجأة، تغيرت الأجواء.
ظهر جسر من الضوء الفضي المتلألئ من العدم، وامتد من إحدى جزر الكتب العائمة البعيدة حتى وصل إلى حافة الشرفة التي نقف عليها.
ومشى عليه رجل.
خطواته كانت هادئة، موزونة، لا يصدر عنها أي صوت. كان يرتدي زيه الرسمي الأسود، الذي كان مكويًا بدقة لا تشوبها شائبة. شعره الرمادي كان مصففًا بعناية، ووجهه... كان ذلك القناع الجليدي، المألوف، الذي تعلمت أن أقرأ أدق التغيرات فيه.
أليستر.
توقفت أنفاسي في حلقي.
ماذا... ماذا بحق الجحيم يفعله أليستر هنا؟!
رؤيته في هذا المكان المستحيل، هذا الفضاء الذي لا يجب أن يوجد، كانت أكثر صدمة من كل ما حدث حتى الآن. لقد حطمت آخر بقايا من فهمي للواقع. هل هذه هلوسة جماعية؟ هل مت في البرج وأنا الآن في نوع من المطهر الغريب مع أفراد عائلتي المفقودين والموجودين؟
توقف أليستر عند نهاية الجسر الضوئي، الذي تلاشى خلفه بصمت.
لم ينظر إليّ، ولم ينظر حتى إلى الطفلة المصدومة. عيناه الرماديتان الباردتان استقرتا مباشرة على المرأة ذات الشعر الأسود الطويل.
لم يكن في نظرته أي مفاجأة. بل كان هناك... توبيخ مكتوم. انزعاج بارد، كشخص وصل إلى اجتماع مهم ليجد أن الشريك الرئيسي لم يلتزم بالخطة.
"لماذا لم تمهدي له الموضوع؟"
صوته، البارد والحسابي، قطع الصمت المتوتر كشفرة جليدية. "أين كل تلك الدراسات التي درستيها عن التأثير النفسي للصدمات المفاجئة؟ كان من المفترض أن يكون هذا انتقالًا سلسًا."
نظرت المرأة إلى أليستر، وابتسامة باهتة، متعبة، لعبت على شفتيها. "أوه، أليستر. دائمًا عملي."
قالت، وصوتها كان يحمل نبرة من المودة الممزوجة بالسخرية.
"ربما..." مالت برأسها قليلاً، ونظرت نحوي. "...كي لا يموت على يد سيريس في أول خمس دقائق."
ثم أضافت، ولوحت بيدها بحركة أنيقة، لامبالية، "وربما لأني نسيت كل هذا. كما تعلم، مرت ربما... عشر سنوات؟ التفاصيل الصغيرة تصبح ضبابية."
عشر سنوات؟ نسيَت؟
شعرت بجنون وحيرة لا توصف. ما الذي يحدث؟! ما معنى هذا الكلام؟! من هذه المرأة؟! وما الذي أتى بأخي أليستر إلى هنا؟! هل يعرفها؟ بالطبع يعرفها! لقد تحدث إليها كأنه يعرفها طوال حياته!
التفت أليستر نحوي أخيرًا، ولأول مرة، رأيت وميضًا من شيء يشبه... الشفقة في عينيه الجليديتين.
"يبدو أنك مرتبك، يا أخي الصغير."
"مرتبك؟!" صرخت في عقلي. "أنا على بعد ثانية واحدة من الانهيار العصبي الكامل!"
لكن أليستر لم يمنحني وقتًا لمعالجة أي شيء. استدار مرة أخرى نحو المرأة. "أين والدي؟ لماذا لم يأتِ؟" سأل، وعاد إلى أولوياته: رأس العائلة، مصدر السلطة.
تنهدت المرأة. "ڤاليدور... أظنه يتحدث مع الإمبراطور لأجل هذا اللقاء. لا بد أن ظهور 'أرشيف الظلال' فجأة في سجلات الأكاديمية قد أثار بعض الضجة."
رد أليستر ببرود ساخر. "وكأنه يستطيع الرفض."
هنا، رفعت المرأة حاجبًا قرمزيًا أنيقًا. نظرت إلى أليستر، وابتسامتها أصبحت أوسع قليلاً، وأكثر خطورة. "ولماذا لا يستطيع أن يرفض، يا عزيزي أليستر؟" قالت بهدوء مرعب. "هذه مكتبته."
أليستر بدا متفاجئًا للحظة، قبل أن يعود إلى قناعه. "يالكي من متواضعة يا أمي."
أمي.
أمي؟!
الكلمة انفجرت في عقلي كقنبلة.
المرأة الجميلة... ذات الشعر الأسود... والعينين القرمزيتين... هي أمي؟ والدتي التي قيل إنها "سافرت"؟
والطفلة الصغيرة... سيريس... هي أختي؟
شعرت بالدوار يهاجمني. استندت إلى أحد رفوف الكتب الطائرة، وشعرت بأن ساقي لم تعد تحملاني.
"هل هذا هو نير يا أمي؟"
صوت سيريس الطفولي، الذي استعاد بعضًا من قوته، اخترق ضباب ذهني. كانت قد تجاوزت صدمتها الأولية، والآن كانت تنظر إليّ بفضول حاد، كأنها تفحص حشرة غريبة.
"أوه نعم، يا عزيزتي. هذا هو."
اقتربت مني. كل خطوة كانت رشيقة، صامتة. وقفت أمامي، ورائحتها كانت تشبه رائحة أزهار ليلية وكتب قديمة. رفعت يدها، وأرادت أن تلمس وجهي.
تراجعت بشكل غريزي.
توقفت يدها في الهواء، ورأيت وميضًا من الحزن يمر في عينيها القرمزيتين.
ثم، تغيرت نظرتها. أصبحت حادة، تحليلية. عيناها... بدأتا تتوهجان.
توهج قرمزي عميق، شعرت به يخترقني، يقرأ روحي، يرى كل شيء. رأيت في وهجها صدىً لـ"عين الحقيقة"، لكنه كان أقدم، وأقوى، وأكثر تعقيدًا بألف مرة.
"ڤاليدور..." تمتمت، والغضب البارد تسلل إلى صوتها الناعم. "ذلك اللعين."
حدقت في عيني مباشرة، وتوهجها ازداد قوة.
"ألم يزل الضباب عن ذاكرتك؟"
الكلمات الأخيرة... كانت هي المسمار الأخير في نعش عقلي.
الضباب.
نفس الكلمة التي استخدمتها سيرافينا.
ونفس الكلمة التي استخدمها كايلين.
والآن... أمي.
والضباب... لم يكن شيئًا حدث لي. كان شيئًا... فُعل بي.
"ألم يزله؟" هذا يعني أنه كان من المفترض أن يزيله. من؟ والدي.
والدي... هو من وضع هذا الضباب على ذاكرتي. هو من جعلني أنسى. أنسى ماذا؟ أنسى أمي؟ أنسى أختي؟ أنسى... كل شيء؟
لماذا؟
لم أعد أستطيع التحمل.
العالم حولي بدأ يدور. وجوههم - وجه أليستر البارد، وجه سيريس الطفولي الغاضب، وجه أمي الحزين القوي - بدأت تتموج وتتشوه.
أصواتهم أصبحت بعيدة، مكتومة.
شعرت بأنني أسقط.
أسقط في دوامة لا نهاية لها من الحيرة، والصدمة، والأسئلة التي لا إجابة لها.
وآخر ما رأيته قبل أن يبتلعني الظلام... كان تلك العينين القرمزيتين، تحدقان فيّ، ليس بشفقة، بل... بشيء يشبه الأسف.
الأسف على كذبة... دامت طويلاً جدًا.
...
...
الظلام لم يدم طويلاً.
لم أستيقظ في المكتبة المستحيلة. لم أستيقظ في جناحي في الأكاديمية.
فتحت عيني، ووجدت نفسي... صغيرًا.
كنت أنظر إلى العالم من ارتفاع منخفض جدًا. يداي كانتا صغيرتين، ناعمتين. كنت أرتدي ملابس نوم من الحرير الأزرق الداكن، عليها نجوم فضية صغيرة.
كنت في الخامسة من عمري.
كنت أقف في ممر ضخم، طويل، في قصر ڤيرتون. الأرضية الرخامية السوداء كانت باردة تحت قدمي العاريتين. الأعمدة الحجرية كانت ترتفع نحو سقف يختفي في الظلال، كأنها أرجل عمالقة.
الصور المعلقة على الجدران، صور أسلافي ذوي الوجوه القاسية، كانت عيونهم تبدو وكأنها تتبعني.
شعرت بالخوف. خوف طفل صغير، ضائع في مكان ضخم، وبارد.
"نير."
صوت ناعم، دافئ، ناداني.
استدرت.
كانت هي. والدتي.
كانت تبدو تمامًا كما رأيتها في المكتبة، لكنها كانت تبدو... أكثر حيوية. لم يكن هناك ذلك الحزن العميق في عينيها القرمزيتين.
كانتا تلمعان بالحياة، وبابتسامة دافئة كانت مخصصة لي وحدي.
كانت ترتدي رداءً بسيطًا، أبيض اللون، وشعرها الأسود الطويل كان منسدلاً على كتفيها.
ركضت نحوها، وعانقت ساقيها.
ضحكت ضحكة خفيفة، موسيقية، وربتت على رأسي. "ما الذي تفعله هنا وحدك، يا ظلي الصغير؟"
"كنت أبحث عنكِ." قلت بصوتي الطفولي.
"حسنًا، لقد وجدتني." قالت، وأمسكت بيدي الصغيرة. يدها كانت دافئة، وناعمة. "هيا، أليستر ينتظرنا في المكتبة. حان وقت درسنا."
سرت بجانبها، ممسكًا بيدها بقوة. معها، لم يعد الممر مخيفًا. لم تعد الصور تحدق فيّ. كانت هي درعي، هي شمسي في هذا العالم المظلم.
دخلنا إلى مكتبة العائلة الخاصة. لم تكن بتلك الضخامة المستحيلة، لكنها كانت لا تزال كبيرة، ومليئة بالكتب التي تفوح منها رائحة الجلد والزمن.
أليستر كان هناك. كان يبدو في الثامنة أو التاسعة من عمره، لكنه كان جادًا كالعادة. كان يجلس على مقعد كبير، ويقرأ في مجلد ضخم، أكبر منه تقريبًا.
"أليستر،" قالت أمي. "اترك كتابك الآن. حان وقت الدرس."
رفع أليستر رأسه، وأغلق الكتاب ببطء. "صباح الخير، يا أمي." قال، ثم نظر إليّ وأومأ برأسه إيماءة خفيفة.
لم يكن درسنا عن القراءة أو الكتابة. كان عن الظلال.
"تذكروا، يا أولادي،" قالت أمي، وهي تجلس على الأرض معنا. "قوتنا لا تأتي من فرض إرادتنا على الظلام. بل تأتي... من الاستماع إليه. الظل ليس خادمًا. إنه صديق. همس. ارقصوا معه."
رفعت يدها، والظل الذي ألقته الشموع على الحائط خلفها بدأ يتحرك. لم يكن مجرد ظل، بل أصبح حيًا. تشكل على هيئة طائر صغير، ثم ذئب، ثم تنين يرقص.
كنت أنا وأليستر مذهولين.
"دوركما الآن." قالت.
حاول أليستر أولاً. ركز، ورفع يده. ظله... تحرك. ارتجف قليلاً، ثم امتد، وتشكل على هيئة خنجر حاد.
"ممتاز، يا أليستر." قالت أمي بابتسامة فخورة. "دقيق، وقوي. كالعادة."
ثم جاء دوري.
حاولت. ركزت بكل ما أملك من قوة طفل في الرابعة. رفعت يدي.
ظلي لم يتحرك. بقي مجرد بقعة داكنة، عنيدة، على الأرض.
شعرت بالدموع تتجمع في عيني. "لا أستطيع."
ط"بالطبع تستطيع." قالت أمي، واقتربت مني، ووضعت يدها على كتفي. "أنت لا تفرض عليه شيئًا، يا نير. أنت تصرخ عليه. استمع. اشعر به. هو جزء منك."
أغمضت عيني. حاولت أن أشعر بظلي.
وفجأة، لم يعد مجرد فراغ. شعرت به. باردًا، هادئًا، وينتظر.
همست له في عقلي. "ارقص."
عندما فتحت عيني، كان ظلي... يرتجف. لم يتشكل على هيئة أي شيء، لكنه كان يهتز، كأنه ماء داكن.
ضحكت من الفرح. "لقد فعلتها!"
"لقد فعلتها." أكدت أمي، وعيناها تلمعان.
في تلك اللحظة، أصبح الهواء في الغرفة أبرد فجأة.
التفتنا جميعًا.
كان والدي، ڤاليدور، يقف عند مدخل المكتبة. صامتًا، كشبح.
تجمد أليستر في مكانه. أما أنا، فاختبأت خلف أمي.
والدتي كانت الوحيدة التي لم تتأثر. نهضت، وابتسمت له.
"ڤاليدور. لقد انضممت إلينا."
لم يرد. فقط تقدم إلى داخل الغرفة، وظلاله تمتد أمامه. توقف، ونظر إلى الظل المرتجف الذي خلقته أنا.
بقيت أحدق فيه، لا أعرف ما إذا كان غاضبًا، أم راضيًا. لم يكن هناك أي تعبير تحت ذلك الظلام الذي يلف وجهه.
ثم، مد يده، ولمس رأسي.
كانت يده باردة كالثلج. لم تكن لمسة حنونة. كانت مجرد... لمسة. فاحصة.
ثم سحب يده، واستدار، وغادر بصمت كما أتى.
"لا تقلق،" قالت أمي بعد أن غادر. "إنه فقط... لا يعرف كيف يعبر."
لم أكن أعرف ما الذي يعنيه ذلك في ذلك الوقت. لكن الآن، وأنا أعيش هذه الذكرى، شعرت ببرودة أعمق من لمسة والدي.
برودة الحقيقة التي لم أكن أفهمها.
الذاكرة بدأت تتلاشى.
آخر ما أتذكره من ذلك اليوم... كان الغداء.
كنا نجلس جميعًا على طاولة الطعام الضخمة. والدي على رأس الطاولة، صامتًا. أليستر بجانبه، يأكل بدقة. وأنا بجانب أمي.
كانت هي الوحيدة التي تتحدث، تملأ الصمت بضحكتها، بقصصها.
"سنسافر قريبًا، يا نير." قالت لي فجأة. "إلى مكان جميل جدًا، مليء بالزهور القرمزية."
"هل ستأتي معنا؟" سألت، وأنا أنظر إلى والدي وأليستر.
نظرت أمي إليهما، وابتسامتها تلاشت قليلاً. "لا يا عزيزي." قالت بهدوء. "ستكون... رحلتنا نحن فقط."
رأيت في عينيها في تلك اللحظة... حزنًا عميقًا، لا نهائيًا.
ثم...
كنت أقف في مكان أخر... مكان لم أره في حياتي، لكن روحي عرفته على الفور.
حديقة.
لكنها لم تكن كأي حديقة. كانت حلمًا مرسومًا بألوان الكآبة والجمال المطلق.
لم تكن هناك شمس. السماء فوقي كانت لوحة من الشفق الأبدي، مزيجًا من اللون الأرجواني الداكن والبرتقالي المحترق، كأن العالم يعيش في لحظة غروب لا تنتهي.
الأشجار لم تكن خضراء، بل كانت أشجار صفصاف عملاقة، أوراقها فضية اللون، تتدلى أغصانها حتى تلامس الأرض، وتتحرك بلطف مع نسيم لا وجود له، محدثة حفيفًا موسيقيًا، حزينًا.
والأرض... كانت مغطاة بالكامل بسجادة من الأزهار.
أزهار قرمزية.
نفس اللون القرمزي الذي يسكن عيني أمي وأختي. كانت أزهارًا ذات خمس بتلات، تتوهج بضوء داخلي خافت، وكأن كل زهرة تحمل في قلبها جمرة صغيرة.
رائحتها كانت تملأ الهواء، رائحة حلوة بشكل لا يصدق، لكنها كانت تحمل في طياتها لمسة خفيفة من الحزن، كرائحة المطر على التراب الجاف.
كنت أرتدي ملابس بسيطة من الكتان الأبيض، وشعري الأسود يداعب جبهتي.
نظرت حولي، والدهشة الطفولية تمحو كل أثر للخوف.
ثم رأيتها.
كانت تقف في وسط الحديقة، بجانب بركة صغيرة من الماء الصافي الذي يعكس السماء المشتعلة.
أمي.
كانت ترتدي فستانًا أسودًا بسيطًا، طويلاً، ينساب على جسدها الرشيق كأنه ليل سائل. لم يكن عليه أي زخارف، أي جواهر. كان مجرد ظلام أنيق، يتناقض بشكل صارخ مع شعرها الأسود الحالك الذي كان ينسدل على ظهرها، ومع بشرتها الشاحبة كضوء القمر.
لم تكن تنظر إليّ. كانت تنظر إلى السماء، ويداها معقودتان أمامها. كان هناك حزن في وقفتها، حزن عميق، قديم، لم يستطع حتى جمال هذا المكان أن يخفيه.
"أمي؟"
ناديتها بصوتي الطفولي، والكلمة خرجت كأنها المرة الأولى التي أنطق بها حقًا.
التفتت نحوي ببطء. وابتسمت.
كانت ابتسامتها أجمل وأحزن شيء رأيته في حياتي.
"نير، يا عزيزي." قالت، وصوتها كان كالموسيقى. "لقد أتيت."
مشيت نحوها، خطواتي الصغيرة تغوص قليلاً في بحر الأزهار القرمزية. عندما وصلت إليها، ركعت أمامي، وأصبحت في مستوى عيني.
"أمي، لماذا أنتِ حزينة؟" سألتها، وأنا أمد يدي الصغيرة وألمس دمعة لم تكن هناك على خدها. "هل هذا المكان لا يعجبك؟"
ضحكت ضحكة خفيفة، لكنها كانت مليئة بالألم. "لا يا صغيري. هذا المكان... هو أجمل مكان في العالم." نظرت حولها. "لكنه أيضًا... سجني."
رفعت نظرها نحو السماء المشتعلة مرة أخرى، وتنهدت تنهيدة عميقة، تحمل في طياتها ثقل عصور لا تحصى.
"من كان يعتقد،" تمتمت، وكأنها تتحدث إلى نفسها، إلى الأشباح التي تسكن هذا المكان الجميل. "أن الوصول للمرتبة الثامنة، متجاوز، سيجعلني أبعد عنكم جميعًا."
الرتبة الثامنة... متجاوز...
الكلمات، التي لم يفهمها عقلي ذو الأربع سنوات، انفجرت في وعيي البالغ كرعد صامت.
أمي... كانت من الرتبة الثامنة؟
بقوة الإمبراطور المؤسس؟
هذا... هذا يفسر كل شيء. يفسر قوتها، وعينيها، وهذا المكان المستحيل.
"من كان يعتقد أن هنالك حاجزًا،" تابعت، وصوتها يرتجف قليلاً. "عيوبًا لكل من يصل لمتجاوز؟ وربما أيضًا لما هو أعلى... يبدو أن هنالك حواجز... لهذا لم يستطع، أو يتجرأ، أحد من القدامى من بعد الإمبراطور الأول أن يحاولوا الوصول لرتبة متجاوز."
كانت تتحدث عن ثمن القوة المطلقة. ثمن لم تذكره أي رواية، أي أسطورة. ثمن العزلة، ثمن الابتعاد.
"مالذي يعنيه هذا أمي؟" سألتها، وصوتي الطفولي كان مليئًا بالحيرة.
نظرت إليّ مرة أخرى. وفي تلك اللحظة، انهار قناعها الهادئ.
تجمعت الدموع في عينيها القرمزيتين، وانهمرت على خديها الشاحبين. أمسكت بوجهي الصغير بكلتا يديها، ويدها كانتا باردتين كالثلج، وترتجفان.
"هذا يعني... يعني أنني سأبتعد عنكم قليلاً، يا ظلي الصغير." بكت، وصوتها كان ممزقًا.
"هاه؟ أمي؟" شعرت بالخوف البارد، الحقيقي، يمسك بقلبي الصغير.
"مالذي تقولينه؟"
لم تكن رحلة. لم تكن سفرًا. كانت كلماتها تحمل نهائية الموت.
"عندما ألتقي بك مجددًا،" قالت بين شهقاتها، وجبهتها تلامس جبهتي. "عندما تصبح قويًا بما يكفي لتفهمني... سأشرح لك كل شيء! أعدك!"
"لا!"
صرخت، والدموع انفجرت من عيني أنا أيضًا. "لا يا أمي! لا تذهبي!"
تشبثت بفستانها الأسود، ودفنت وجهي في ثناياه، وأنا أبكي بحرقة طفل يرى عالمه ينهار.
"لن أترككِ أبدًا! أبدًا!"
"لقد حان الوقت، يا ليليث."
صوت والدي.
لم يكن قادمًا من مكان معين. كان في كل مكان. كأنه صوت الحديقة نفسها، صوت السماء.
ظهر فجأة. لم يأتِ من أي مكان. كان مجرد... هناك. ظل أسود، أعمق من ظلال الحديقة، يقف على بعد خطوات قليلة.
شعرت بأمي تتصلب.
رفعتني، واحتضنتني بقوة، بقوة يائسة. شممت رائحتها للمرة الأخيرة. رائحة الزهور والكتب والدموع.
"أنا أحبك، يا نير." همست في أذني. "لا تنسَ ذلك أبدًا."
ثم، وضعتني على الأرض.
واستدارت، وواجهت والدي.
"لا تفعل هذا، ڤاليدور." قالت، وصوتها كان يحمل توسلاً باردًا. "لا تمحُ هذا منه. اتركه يتذكرني."
الظل الذي كان والدي لم يرد. فقط مد يده، التي كانت مصنوعة من ظلام خالص.
بدأ المشهد حولي يتلاشى.
الأزهار القرمزية أصبحت باهتة. السماء المشتعلة أصبحت رمادية.
"لا!" صرخت، وأنا أمد يدي نحو أمي. "أمي!"
كانت تنظر إليّ، والدموع لا تزال تنهمر من عينيها، وابتسامة محطمة على شفتيها.
ثم، تلاشى كل شيء.
تحول إلى شظايا من الضوء واللون، ثم... إلى ظلام مطلق.
استيقظت، وأنا أشهق، كغريق أُخرج للتو من الماء.
كنت ممددًا على السجادة الأرجوانية في المكتبة المستحيلة.
أمي... لا، ليليث... كانت راكعة بجانبي، ويداها على كتفي. عيناها القرمزيتان كانتا مليئتين بالقلق.
أليستر كان يقف خلفها، ووجهه يحمل تعبيرًا معقدًا من القلق والانزعاج.
وسيريس... كانت تقف بعيدًا، وعيناها الصغيرتان تحدقان فيّ بخوف ودهشة.
كنت ألهث، والدموع الحقيقية تنهمر على خدي. لم تكن دموع طفل. كانت دموع رجل تذكر للتو كيف تم انتزاع روحه منه.
لقد تذكرت.
تذكرت كل شيء.
تذكرت أمي. تذكرت حبها. وتذكرت... كيف أُخذت مني.
ووالدي... هو من فعل ذلك. لم يأخذها فقط. بل أخذ ذاكرتي بها أيضًا. لقد محاها من وجودي، ليحميني من ألم فقدانها، أو ربما... لسبب أظلم بكثير.
نظرت إلى وجه أمي أمامي.
لم تكن مجرد امرأة جميلة وغامضة.
كانت جرحًا مفتوحًا في روحي، كنت قد نسيت أنه موجود.
"أمي..."
الكلمة خرجت مني كهمس مكسور، قبل أن يبتلعني الظلام مرة أخرى، هذه المرة، ليس ظلام الذاكرة، بل ظلام الإرهاق المطلق، والحزن الذي لا يمكن لقلب بشري أن يحتمله.
---
---
---
الفصل الخمسون...
رقم ليس مجرد عدد، بل شاهد على رحلة طويلة من الكلمات، من الصراع، من النَفَس المتقطع بين سطرٍ وآخر.
"تجسدت كابن الدوق الأقوى" لم تعد مجرد فكرة عابرة في ذهني، بل أصبحت عالمًا ينبض بالحياة، بالفوضى، بالقوة، وبالمصير الذي لا يمكن الهرب منه.
خمسون فصلًا من البناء، من التدمير، من الأسرار التي لم تُكشف بعد، ومن الوجوه التي تخفي أكثر مما تظهر.
أكتب هذه الكلمات، وأنا أعلم يقينًا أن الطريق لا يزال طويلًا، وأن القادم سيكون أكثر ظلمة، أكثر تعقيدًا، وأكثر إثارة.
لكنني وصلت إلى هنا، وسأستمر بإذن الله.
شكرًا لكل من يقرأ، ينتظر، ويعيش هذه الرحلة معي.