الساعة 10:00 مساءً.
المطر بدأ يهدأ.
والمقهى… لا زال دافئًا.
"مقهى العنبر" ليس مزدحمًا.
ثلاث طاولات مشغولة.
ضوء أصفر خافت.
رائحة قهوة مخلوطة بالعنبر، تتسلل إلى الداخل مثل لحنٍ قديم.
تشاي كان أول من وصل.
جلس في الزاوية التي تطل على النافذة.
أمامه رقعة شطرنج، وفنجان صغير لم يشرب منه بعد.
عيناه تراقبان البخار… لا أحد.
في تمام العاشرة…
فتحت "آني" الباب.
شعرها مربوط بعناية، معطفها طويل، وابتسامتها…
لا تزال كما كانت البارحة.
بسيطة.
هادئة.
لكنّها تحمل شيئًا لا تستطيع وضع اسم له.
اقتربت.
قالت بهدوء وهي تخلع معطفها: — تأخرتُ؟
أجاب، دون أن يرفع رأسه: — دقيقة واحدة فقط.
لكنني انتظرتها وكأنها ساعة.
ابتسمت وجلست.
وضعت حقيبتها جانبًا، ثم نظرت إلى الرقعة:
— بدأت اللعب وحدك؟
— لا، كنت فقط أرتّب الجنود… حتى لا يكونوا خائفين حين تأتي الملكة.
ضحكت بخفة، ثم همست: — مجاملاتك أخطر من نقلك.
حرك الجندي الأول.
بدأت اللعبة.
الصمت كان ثالثهما.
لم يكن صمتًا ثقيلًا.
بل ذلك النوع من السكون الذي لا يحتاج تبريرًا.
أن تكون في حضرة أحدهم… دون أن تضطر للكلام.
نقلت آني الفيل.
قال تشاي: — هل تعرفين أنك أول شخص ألعب معه شطرنج خارج البطولات؟
ردّت، دون أن تنظر إليه: — وهل تعرف… أنك أول من دعاني إلى قهوةٍ في هذا الوقت المتأخر؟
أجاب بسرعة: — أتعلمين لماذا؟
نظرت إليه، متفاجئة بعض الشيء: — لماذا؟
قال، وهو ينظر في عينيها مباشرة: — لأنني لا أريد أن ينتهي هذا اليوم دون أن أراك مرّة أخرى.
نظرت إلى الرقعة بسرعة، محاولة إخفاء توترها: — دورك.
ضحك.
نقل الملك.
ثم تمتم: — من الغريب… كيف يمكن لشخص التقينا به منذ 24 ساعة، أن يبدو مألوفًا أكثر من أناس عرفناهم لعمرٍ كامل.
قالت بصوت خافت: — وربما لأننا كنا نحتاج إلى شخصٍ يسمعنا… دون أن يسأل.
مرت دقيقتان في الصمت.
كش ملك.
آني رفعت عينيها ببطء، نظرت إليه بوجهٍ خالٍ من الغرور… لكنه لا يخلو من النصر.
قالت بهدوء: — انتهت.
تشاي بقي ينظر إلى الرقعة… لم يتحرّك.
ثم فجأة، قال وهو يعدّل نظارته: — لا.
رفعت حاجبها: — لا؟
قال بابتسامة خفيفة، فيها مزيج من الطفولة والكبرياء: — لم أكن مركزًا. كان تركيزي… مشتتًا.
وضعت يدها تحت ذقنها، وسألته: — مشتتًا أين؟ في النقلة الرابعة؟ أم حين قلت إنني الملكة؟
قال وهو يصفّ الرقعة من جديد: — ربما في كليهما.
ثم رفع رأسه، وتلك النظرة في عينيه كانت تشبه التحدي: — جولة ثانية.
لا أقبل الخسارة… خصوصًا إن كانت أمامك.
ضحكت بخفة، ثم قالت وهي تحرك الجندي الأول: — وأنا لا أحبّ أن أُهزم.
كن مستعدًا للكارثة.
بدأت الجولة.
الهواء تغيّر.
القهقهات اختفت.
العنبر في الهواء صار كثيفًا كأنه دخان معركة.
الجنود تحرّكوا.
الفيلة خرجت.
الخيول اندفعت.
الملكتان تنتظران.
آني كانت تهاجم… دون هوادة.
كل نقلة منها… محسوبة، خالية من الرحمة.
نقلاتها لم تكن ذكية فقط، بل جريئة.
تشاي كان في وضع دفاع.
لكنه لم يكن ينهار…
بل كأنه كان… ينتظر.
وفي النقلة الخامسة عشر…
قال بصوت خافت: — أعجبتني طريقتك في مطاردة الملك…
لكن هناك شيءٌ ما.
نظرت إليه، وسألت: — ما هو؟
نقلة.
القلعة إلى اليمين.
— لقد كشفت ظهركِ… حين هجمتِ.
جمدت آني.
نظرت إلى الرقعة…
ثم… فهمت.
نقلة أخرى.
الحصان قفز فوق الجميع، واختنق الملك.
كش ملك.
تشاي لم يضحك.
ولم يتفاخر.
قال بهدوء: — تحركاتك كانت مثالية…
لكنّ النصر أحيانًا لا يحتاج عبقرية… بل لحظة.
رفعت عينيها ببطء… لم تكن غاضبة.
بل كانت… منبهرة.
همست: — لا بأس.
خسرت.
لكنني أعدك… لن تتكرر.
آني" تمسح جبهتها بخفة، رغم أن الجو بارد.
"تشاي" يرتّب القطع من جديد، وهو يبتسم دون أن ينظر إليها.
قالت: — تظنّ نفسك عبقريًا، أليس كذلك؟
أجاب، وهو يعدّل آخر قطعة: — لا، فقط… لا أحبّ الهزيمة مرتين في ليلة واحدة.
ثم لوّح بيده للسّرفور.
اقترب الشاب، شاب شاحب الوجه، يحمل صينية فارغة.
قال له تشاي: — قهوتان… ولعبة واحدة.
رفع السّرفور حاجبه: — أي لعبة؟
قال تشاي، وهو ينظر إلى آني: — "سِجال الممالك".
آني همست: — هذه لعبة؟
ردّ النادل بصوت منخفض: — إنها ليست لعبة… بل اختبار.
---
بعد ثلاث دقائق.
عادت الطاولة برُقعة مستطيلة، مقسّمة إلى ست مناطق:
1. المركز المظلم
2. أراضي الريح
3. هضبة الرماد
4. مستنقع الأوهام
5. قلعة الظلال
6. بوابة النور
كل لاعب يمتلك 15 قطعة.
لكنها ليست متماثلة.
آني معها:
5 "محاربين"
3 "سُعاة"
2 "عيون"
1 "حارسة"
1 "ظِل"
1 "عرّاف"
2 "غُرباء" (قطع غير واضحة الهدف)
تشاي معه:
4 "محاربين"
3 "قنّاصين"
3 "عُقَدة"
2 "مقلوب"
1 "مُبدّل"
1 "حكيم"
1 "قلب الصمت"
قالت آني، وهي تلمس أول قطعة: — هل نلعب بالقوانين؟
تشاي نظر لها وقال: — لا.
لكنّ كل حركة… تترك أثرًا.
---
الجولة تبدأ.
نقلة 1:
آني تدفع "عيونها" إلى مستنقع الأوهام.
تشاي ينشر "عُقَدة" في هضبة الرماد.
نقلة 2:
آني تدفع "حارستها" لتقف بين الريح والبوابة.
تشاي يحرك "قنّاصه" إلى التلّة المعاكسة.
نقلة 3:
آني تُشغّل "ظِلّها"، تحركه من تحت الأرض نحو قلب الرقعة.
همس تشاي: — ممتاز.
ثم يُفعّل "المقلوب"، ويعكس مفعول الظلّ ليتحول إلى نقطة عمياء.
آني تضحك: — لا بأس.
لكنني لم أبدأ بعد.
خمس نقلات لاحقة.
آني تمسك المركز.
قلعة الظلال أصبحت تحت سيطرتها.
تشاي في انسحاب جزئي.
لكن وجهه لا يظهر انزعاجًا.
آني تهمس: — قطعتان فقط وأخترق قلبك.
قال بهدوء: — لكن ماذا لو كنتُ أنا مَن سمح لكِ بالدخول؟
نقلة.
"الحكيم" يتحرّك إلى "أراضي الريح"
يحترق "العرّاف" بلمسة واحدة.
آني تجمد.
قال تشاي: — في "سجال الممالك"، لا تقاتل العدو… بل تكتشف نفسك.
آني تحاول استعادة سيطرتها.
تحرك "الغريب" نحو بوابة النور.
لكن تشاي يفعل شيئًا لا يُتوقّع:
يُفعّل "قلب الصمت".
وهو قطعة لا تتحرك… لكنها تُفعّل مرة واحدة.
وعندما تُفعّل؟
تحرق كل من يقف في مركز الرقعة إذا كان تحت تأثير ثلاث طاقات.
وآني؟
كان "الظل"، و"الغريب"، و"العيون"… في المكان ذاته.
حريق ذهني.
ثلاث قطع تذوب.
الهجوم يسقط.
آني تهمس: — مستحيل…
تشاي يحرّك "المُبدّل"، يخترق قلعة الظلال، ويقلب "الحارسة" إلى "مقلوبة".
نقلة أخيرة.
نصر.
"تشاي" يُطفئ اللعبة بحركة واحدة.
نهاية الجولة.
آني تنظر إلى الرقعة… ثم تضحك بخفة:
— حسناً… هذه ليست لعبة.
قال تشاي: — بل هي الحياة…
لكن على طاولة خشب.
ثم رفع فنجانه، وقال:
— نصرٌ ثاني… لكن طعمه الآن مختلف.