بوّابة قصر "تيوانا" فُتحت ببطء.
لا بصوت… بل بشهيقِ حائطٍ يُدرك مصيره.
دخلت "إيفا" و"ميشا"، تمشيان كأنهما لا تدوسان الأرض، بل تُنزلان الليل على المكان.
الصالة الكبرى للقصر كانت كالسجن المزيّن.
رُفوف من الذهب، أعمدة محفورة بعظام نادرة، وجثث معلّقة في سقفٍ لا أحد يجرؤ أن يراها طويلًا.
رائحة الفورمالين، الدم الطازج، والعطر الرجولي الفاسد… تخلطت في هواءٍ مريض.
وفي نهاية القاعة،
جلس رجل يشرب بهدوء من كأس زجاجيّ داكن، يرتدي ثوبًا أبيضَ بلا أي شارة.
وجهه مربع، عيناه ناعستان، ولكن فيهما شيء لا يُترجم... كأنّه ذئب يُفكر فقط كيف تنضج فريسته.
"توقاي"، زعيم عصابة تيوانا.
رفع عينيه فور دخول "إيفا"، ثم قال دون أن يقف:
— "أهلاً بمن تدوس على جثثنا وكأننا حجرٌ تحت حذاءٍ أنيق."
لم تجبه "إيفا" مباشرة.
نظرت حولها، تفحّصت الحرس المتناثرين على الجدران، ثم قالت بهدوء:
— "أنت هنا منذ مدة… لكنك لم تتغيّر."
ضحك "توقاي"، ضحكة واهنة:
— "وأنتِ تغيّرتِ كثيرًا.
صرتِ باردة أكثر من اللازم… كأنكِ لستِ من هذا العالم."
تقدّمت "إيفا"، سحبت كرسيًا بنفسها، وجلست على بعد ثلاثة أمتار منه، فيما "ميشا" بقيت واقفة، تراقب الصمت.
قال "توقاي":
— "أودجين... تلك العائلة.
حين جئنا إلى هذه الأرض، كان كل شيء ملكًا لنا.
الأعضاء، السوق، القبور، وحتى الدموع.
ثم ... جئتم أنتم، واقتلعتم كل شيء."
تنهدت "إيفا"، ثم قالت بنبرة غير مهتمة:
— "أنتم من صنع هذا السوق…
ومن الطبيعي أن يأكلكم الوحش حين تفتحون بطنه."
"توقاي" رمقها بنظرة طويلة، ثم هزّ رأسه:
— "بل نحن من كان يحرسه.
وكان لنا منطقة حمراء لا يدخلها أحد،
إلى أن سرقتموها... "
صمت.
ثم رفع يده، وأشار إلى لوحة على الجدار، كانت عبارة عن جلدٍ بشريٍّ مشدود عليه وشم أزرق.
— "هذا الوشم؟ من كتف أحد أبناء أودجين .
رسمناه هنا لأننا أردنا أن نتذكر.
نحن لا ننسى من يسرق أرضنا."
قالت "إيفا" وهي تميل برأسها قليلًا:
— "أنتم تظنون أن السرقة جريمة...
لكننا نرى أن الضعف هو الجريمة الكبرى."
"توقاي" ضحك ببطء:
— "إذن أنتم منطقكم: من لا يَقتل، يُقتل؟"
"إيفا":
— "من لا يَقتل، لا يُذكَر."
لحظة صمتٍ طويلة…
ثم تابع "توقاي"، لكن صوته صار أكثر هدوءًا، كأنه يحدث نفسه:
— "هل تعرفين...
أننا كنّا نزرع الأطفال في براميل ليصبحوا خزانًا للأعضاء؟
كان ذلك قبل أن تأتي أودجين، وتُطهر السوق… كما يقولون."
أجابته "إيفا"، تنظر في عينيه مباشرة:
— "بل كنا نطهر الذاكرة.
أنتم لا تموتون... فقط تُنسَون."
اقترب أحد الحراس ليمسح الطاولة بينهما، لكنه قبل أن يلمسها…
سقط.
نعم، سقط بلا أن تلمسه يد.
كأن الهواء طعنه.
"ميشا" لم تتحرّك، ولم ترمش.
نظر "توقاي" إلى الجثة، ثم تنهد:
— "لا زلتم تقتلون كما تتنفسون..."
قالت "إيفا":
— "بل نتنفس كما يُفترض منّا… أن نكون النهاية لكل بداية."
ثم نهضت.
أصدرت كرسيّها صريرًا خفيفًا، وكان ذلك الصوت أشدّ رعبًا من ألف طلقة.
بمجرد أن نهضت "إيفا"، دارت الأرض.
من الجدران… من الأعمدة… من خلف الستائر المهترئة…
خرجوا.
واحدًا تلو الآخر.
أفراد عصابة "تيوانا".
رجالٌ ونساء، يرتدون ثيابًا لا تخفي أسلحتهم، بل تفضح نواياهم.
أقنعة نصف وجه، عيونٌ مشقوقة، وشم على العنق، وجلود مقطعة من بشر آخر.
لم يتكلم أحد.
لم يصرخ أحد.
لكنهم داروا…
داروا حول "إيفا" و"ميشا"، كدائرة مغلقة، صامتة، خانقة.
"ميشا" لم تتحرك.
لكن يدها اليمنى ارتفعت قليلًا… فقط لتزيح خصلة شعر عن عينها.
وذلك وحده… جعل أحد أفراد العصابة يتراجع خطوتين إلى الوراء دون وعي.
أما "إيفا"، فبقيت واقفة، نظراتها ما تزال معلّقة على "توقاي" الجالس.
قالت بهدوء كأن لا شيء تغيّر:
— "كأنك كنت تنتظر هذه اللحظة منذ سنين."
"توقاي" رفع كأسه، حرّكه ببطء، راقب دوران السائل، ثم قال:
— "بل منذ ولادتي.
كنت أعرف أن النهاية ستأتي على يد من لا يشبهنا."
"إيفا":
— "بل من يشبهكم… أكثر مما تعترفون."
نهض "توقاي"، وسار بخطوات بطيئة إلى رقعة وسط القاعة، بين الجثة وبقع الدم
قال:
— "أنتِ من النوع الأول من الفلاسفة.
الذين يرون الحياة تجربةً مؤقتة لإثبات القسوة."
"إيفا" ابتسمت، لأول مرة:
— "وأنت من النوع الثاني…
الذي يظن أن الفهم يُنقذ من السقوط."
اقترب منها أكثر.
أصبحت المسافة بينهما لا تتعدى مترين.
رجاله يشدّون الدائرة.
و"ميشا" ما زالت واقفة كظلّ لا يُمحى.
قال "توقاي":
— "أتعرفين الفرق بيننا؟
أنا أقتل لأنني أبحث عن معنى.
وأنتِ تقتلين لأنكِ قتلتِ المعنى منذ زمن."
أجابت "إيفا":
— "أنت تخاف النسيان،
أما أنا… فأُرحّب به.
النسيان تحرّر،
والذاكرة قيد من عظامٍ متعفّنة."
ضحك "توقاي"، ضحكة منهكة:
— "وهل هذه حياتك؟ قتلٌ ونسيان؟
أين الضوء؟ أين الحب؟ أين حتى الحزن؟"
نظرت إليه نظرة طويلة، ثم قالت:
— "الحبُّ؟
جرّب أن تحبّ وسط بحر من الأعضاء المقطوعة.
سيصير الحبُّ... مجرد ضعف ملوّن."
ثم أضافت وهي تنظر إلى رجال العصابة:
— "قل لي…
هل دربتهم على الموت؟
أم فقط على الحصار؟"
"توقاي" ردّ بهدوء:
— "درّبتهم على أن يحرسوا الوهم،
لأن الحقيقة تموت بسرعة أمامك."
ثم همس كمن يعترف، كمن يسلم رقعته في لعبة شطرنج:
— "أنتِ ملكةٌ لا تُؤكل...
لكن رقعتكِ ممتلئة بالرماد."
"إيفا" رفعت يدها، وأشارت إلى رقعة الأرض بينهما، ثم قالت:
— "كل رقعة أرض تحتنا… لا تعني شيئًا بعد أن تُسفك عليها الدماء.