وسط سِجن الروح، حيث الأرض من ذكريات مشققة، والسماء تضحك بوجوهٍ شيطانية…

‎لم يبقَ واقفًا إلا العجوز.

‎توقاي.

‎ظهره مستقيم.

‎يداه خلف ظهره، لا يحمل سلاحًا.

‎نظر إلى النسخة التي خرجت منه، تقف على بعد بضعة أمتار…

‎بنفس ملامحه، بنفس تعبيره الحيادي، بنفس تجاعيد السنوات.

‎لكنه لم يظهر أي ارتباك.

‎بل همس لنفسه:

‎— "جعلتني إيفا أواجه نفسي… كم أنتِ لعينة يا عجوز"

‎نسخته ابتسمت.

‎تقدّمت خطوة.

‎"توقاي" لم يتحرّك.

‎قالت النسخة، بنفس صوته:

‎— "هل تعرف لماذا أنا أقوى منك؟

‎لأني أنا... من دون خوفك."

‎أجاب توقاي، ببرودة الرمل بعد المطر:

‎— "وأنا… من دون أوهامك."

‎ثم أغلق عينيه.

‎وبصوت خافت… لفظ كلمتين:

‎> "الخطوة الثالثة عشرة."

‎وفي لحظة… تغيّر كل شيء.

‎■ مهارة توقاي: الخطوة الثالثة عشرة

‎مهارة من نوعٍ نادر، لا تُستخدم إلا مرة واحدة في القتال الحقيقي.

‎مزيج من تحكم بالعقل، والوقت، والإستراتيجية.

‎كل من يقاتله…

‎يُدخلهم في رقعة افتراضية من الشطرنج،

‎لكنهم لا يعلمون…

‎أنهم بالفعل تحرّكوا على الرقعة.

‎إنه لا يتنبأ بخطواتك…

‎بل يبرمجها داخلك قبل أن تبدأ.

‎فجأة، توقّفت النسخة.

‎عيناها ارتجفتا.

‎قدماها أصبحتا ثقيلتين، كأن الأرض ترفضها.

‎"توقاي" فتح عينيه… تقدم خطوة واحدة.

‎قال:

‎— "أنتَ الآن في النقطة التي أخطأتُ فيها في شبابي…

‎لكني اليوم؟ تجاوزت تلك الخطوة."

‎ركّز.

‎مدّ يده بهدوء… ثم أدارها في الهواء كمن يحرّك حجر شطرنج خفي.

‎والنسخة؟

‎اختنقت.

‎نعم… بدأ جسدها ينكمش.

‎عينها اليمنى ذابت، يدها انكسرت،

‎وفجأة… طُعنت من داخلها.

‎صرخت:

‎— "ماذا فعلت؟!"

‎أجاب توقاي، وهو يضع إصبعه على صدغه:

‎— "أقنعتُ عقلك… أنك خسرت.

‎والجسد... ينهار حين يؤمن بالهزيمة."

‎النسخة سقطت على ركبتيها، ثم على وجهها.

‎ماتت.

‎ليس بسيف،

‎ولا بسحر…

‎بل بكذبةٍ عقلية هندسها توقاي ببراعة.

‎الصمت ساد.

‎حتى الوجوه المعلّقة على حوافّ سجن الروح… توقفت عن الضحك للحظة.

‎"إيفا"، من فوق، فركت ذقنها، ثم تمتمت:

‎— "يا لك من ذئبٍ قديم… ما زلت تعرف كيف تقتل بحكمة."

‎"ميشا" ابتسمت وهي تراقب:

‎— "أحببتُ الطريقة… ليس فيها فوضى. فقط انقر واضرب."

‎"توقاي" مسح الدم من طرف أنفه.

‎لا يعرف من أين جاء،

‎لكنّه يعرف المعنى:

‎هذا المكان… لا يحترم حتى كبار السن.

‎نسخته الثانية وقفت هناك، تتنفس بهدوء، يديها خلف ظهرها كما يفعل هو تمامًا،

‎لكن شيئًا في ملامحها تغيّر.

‎الوجه نفسه.

‎التجاعيد ذاتها.

‎لكن العينين؟

‎ليستا عينيه.

‎قالت النسخة، بنبرة مشبعة بالذكريات:

‎— "أتتذكر والدتك، توقاي؟"

‎تجمّد.

‎كأن أحدًا أطفأ النار داخله فجأة.

‎قالت النسخة، تقترب ببطء:

‎— "تلك الليلة… حين ماتت بين يديك.

‎وأنت صغير، لا تزال ترتجف، لا تفهم لماذا الدم دافئ لهذه الدرجة…

‎لماذا قلبك بقي ينبض بعدها بعامين فقط."

‎"توقاي" تمتم:

‎— "أنت لستَ أنا… أنت شيء خرج من لعنةٍ قديمة."

‎النسخة ابتسمت:

‎— "أنا أنت... لو كنتَ أضعف بقليل فقط."

‎ثم هاجمت.

‎الهجوم لم يكن جسديًا فحسب.

‎بل ذهني، زمني، نفسي.

‎كل ضربة من النسخة كانت ذكرى.

‎صفعة من والدته حين سرق لأول مرة.

‎نظرة خيبة حين خان صديقه القديم.

‎لحظة دفن شقيقه بيديه.

‎وخوفه الدفين… من أن لا يترك أثرًا بعد موته.

‎توقاي حاول الدفاع.

‎استعمل الخطوة التاسعة.

‎ثم الخطوة الحادية عشرة.

‎ثم تكتيك الالتفاف العقلي…

‎لكن النسخة لم تتراجع.

‎بل كانت تسبقه دائمًا…

‎نصف خطوة.

‎كأنها تعرف تفكيره قبل أن يفكر.

‎صرخ توقاي:

‎— "أنت لا تُقاتلني.

‎أنت تفضحني!"

‎النسخة بصوت والدته:

‎— "بل أُريك حقيقتك، يا صغيري."

‎سقط توقاي على ركبته.

‎لكنّ جسده ما زال يقاتل.

‎نعم، لم يستسلم.

‎ضرب من دون وعي.

‎عضّ، التف، خدع، تراجع،

‎لكن كل مرة… يُطرح أرضًا.

‎دم على زاوية شفتيه.

‎عينه اليسرى تورّمت.

‎يده اليمنى انكسرت.

‎لكنّه ضحك.

‎ضحك بصوت أجشّ، مليء بالدم والتراب والذكريات.

‎— "أنا لم أكن يومًا قويًّا...

‎كنت فقط أُجيد التظاهر بذلك."

‎ثم همس لنفسه:

‎— "والمتظاهرون… لا يموتون بسهولة."

‎النسخة اقتربت لتُجهز عليه،

‎لكنها توقّفت.

‎نظرت فيه…

‎ورأت فيه شيئًا لا يمكن قتله.

‎عناد الأب،

‎دمعة الطفل،

‎وخدعة الشيخ.

‎"إيفا"، من الأعلى، راقبت كل ذلك، ولم تتدخّل.

‎قالت بهدوء:

‎— "جعلتُكَ ترى نفسك…

‎وهذا أشد من قتلك."

‎وما زال "توقاي" في ساحة القتال،

‎جاثيًا… ينزف، يتنفس،

‎ويفكر في الخطوة القادمة…

السكون...

‎كأن الزمان نفسه قد أُجبر على أن يتوقف احترامًا لما سيقع.

‎كانت وجوه الضحك على حواف سجن الروح تئنّ،

‎النسخ لا تزال تُحاصر

‎"توقاي" ، لم يعد يقوى على الوقوف،

‎والهواء ملوّث برائحة الماضي والاعتراف.

‎لكن فجأة...

‎في لحظة لم يُدركها حتى الظل...

‎— انفجرت الأرض تحت قدمي ميشا.

‎لم يكن انفجارًا تقليديًا...

‎بل انبعاثًا.

‎تحوّلت إلى ومضة من السرعة،

‎تجاوزت كل قوانين الحركة،

‎وتركت خلفها شريطًا أزرقَ باهتًا كأنها قطعت ستارًا بين العوالم.

‎قفزت فوق القصر،

‎إلى أعلى نقطة فيه،

‎ثم، دون أن تلتفت،

‎قالت بصوت ميت، لا عاطفة فيه، لا حياة:

‎— "امتصاص النواة."

‎العالم ارتجف.

‎لم يكن ذلك سحرًا.

‎ولا تقنية داخلية.

‎ولا فنًا قتاليًا.

‎بل إعلان نهاية.

‎في أقل من ثانية،

‎تقلّص القصر الضخم،

‎الجدران، الأعمدة، الأثاث، حتى الصراخات،

‎كله طُوي إلى نقطة سوداء… ثم انضغط كأنه ورقة.

‎ورقة.

‎نعم… القصر صار ورقة.

‎ورقة صغيرة، سوداء، تسقط كرماد،

‎حتى اختفت هي الأخرى.

‎نزلت "ميشا" بهدوء،

‎كأنها نزلت من سلم غير مرئي،

‎مقلّة العينين، يداها خلف ظهرها، لا أثر لانفعال.

‎من خلفها…

‎ظهرت "إيفا"، تطفو في الهواء.

‎لم تتحدث.

‎لكن "ميشا" هي من قطعت الصمت أولًا، بنبرة فيها شيء من الطفولة:

‎— "أعتذر، إيفا... لقد مللت فقط، وأردت تغيير الأجواء."

‎إيفا، التي تجمد وجهها للحظة، نظرت نحو حيث كان القصر،

‎ثم عادت بعينيها نحو ميشا، وقالت بصوت خافت:

‎— "في المرة القادمة...

‎حذريني قبل أن تستعملي تلك المهارة،

‎فأنا عجوز يا ميشا،

‎وقد أحتاج ثانية إضافية لاستيعاب ما تفعلينه."

‎ابتسمت ميشا.

‎ثم نظرت حولها...

‎ولا شيء.

‎لا قصر.

‎لا عصابة.

‎فقط نسخ من ذكريات من اختفوا،

‎تتلاشى رويدًا رويدًا...

‎الصحراء أكلت آثار كل شيء.

‎لا قصر، لا جثث، لا غبار.

‎حتى النسيم... عاد نقيًا كأنه لم يمرّ على موت.

‎كانت "ميشا" تسير ببطء، و"إيفا" بجانبها، تمشي الهوينى، وقد نزلت لتوّها من سجن الروح.

‎صمت بسيط بينهما، تُرافقه خطوات خفيفة على الرمال، ثم قطعت "إيفا" الحديث بنبرة باهتة:

‎— "لقد ندمت."

‎لم تلتفت "ميشا"، بل اكتفت بابتسامة مائلة:

‎— "بسبب القصر؟ أم العقول؟"

‎إيفا تنهدت كأنها تشتم الهواء:

‎— "كلاهما... عائلة تيوانا؟

‎هه... كنا نظنهم ملوك تجارة الأعضاء في تشاد،

‎لكنهم بالكاد نجوا من مهارتي الأولى،

‎وكانوا سيسقطون لولا مجاملتي."

‎— "أجل..."

‎قالتها ميشا وهي تمدد ذراعيها بتكاسل،

‎"لو أرسلنا أحد الخدم بدلًا منا، لانتهى الأمر في دقيقة.

‎"

‎إيفا تمسح حذاءها بطرف عباءتها السوداء،

‎وتقول:

‎— "كان توقاي يتكلم كفيلسوف، لكنه نسي قاعدة بسيطة:

‎الفلسفة لا تصنع قوة."

‎ضحكت ميشا، ضحكة قصيرة وساخرة:

‎— "وهل الفلاسفة يُجيدون القتال أصلاً؟"

‎ساد صمتٌ بسيط، ثم رفعت "ميشا" يدها فجأة،

‎وأخرجت من كُمّها قطعة حلوى مغلّفة.

‎— "هل تذوقتي هذه من قبل؟"

‎قالتها كأنها تسأل عن شيء في السوق، لا عن موقع مجزرة.

‎إيفا نظرت إليها، ثم قالت:

‎— "ما هذه؟"

‎— "حلوى تونسية.

‎اسمها 'كعب الغزال'... اشتريتها من سوق في بنزرت."

‎إيفا رمشت ببطء، ثم قالت ببرود:

‎— "ذكّرتني، يجب أن أشتري صبغة للشعر.

‎اللون بدأ يتلاشى."

‎— "أوه، أي لون هذه المرة؟"

‎— "ربما الأزرق الداكن... ليشبه دماء الفلاسفة."

‎ضحكت ميشا، وقالت:

‎— "تبًا لك يا إيفا."

‎ثم واصلتا المشي،

‎خلفهما صحراء تمسح كل ذاكرة،

‎وأمامهما عالم لن يعرف أبدًا ماذا حدث هنا.

2025/08/03 · 5 مشاهدة · 1263 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025