داخل عقل إيفا أودجين
لا صدى.
لا بداية.
لا وعي.
مجرد طنين قديم…
كأن طفلًا ماتَ وهو يصرخ، ثم ظلّ صراخه يدور في الجمجمة، كروح نسيها الجميع.
في الداخل، لا تُوجد مرآة.
عقلها… غرفة مقفلة، ذات جدران من لحمٍ غير ناضج، يتنفس.
يتنفس، لكنه لا يزفر…
بل يبتلع.
كل فكرة تدخل عقلها، لا تخرج.
بل تُستهلك. تُعاد طبخها.
تتغذى عليها الغرفة، حتى تتحول إلى نبضٍ جديد في عمق الصمت.
"سرقوا الجثث."
الفكرة تدور.
تتلوى مثل ثعبان صغير على مائدة من عظام.
كلما حاولت أن تمسكها، سالت منها سمومٌ قديمة.
صوتها الداخلي… ليس صوتًا واحدًا.
بل ثلاثة:
1. الباردة:
> ("عليّ أن أردّ. لكن الردّ ليس غضبًا… الردّ يجب أن يكون عقابًا لا يُنسى.")
2. الغاضبة:
> ("أقتليهم جميعًا. احرقي قصرهم. ادفنيهم أحياءً.")
3. الساخرة:
> ("أوه، أخيرًا أحدهم يجرؤ! أليست هذه لحظة جميلة؟")
كانت تسمعهم دائمًا.
لكن الليلة، لأول مرة…
تضحك "الأرواح" معهم.
هل وصلتْ لذروتها؟
أم هذه بدايتها الحقيقية؟
داخل عقلها… أرشيف.
أرشيف أحمر.
فيه صور.
صورٌ لأجساد بلا ملامح.
تقارير كتبها أطباء لا يتنفسون.
خرائطُ لقاراتٍ لم تعد موجودة على الخرائط.
كلّها تتحرك الآن.
كلّها تسألها سؤالًا واحدًا:
> "هل كنتِ نائمة؟"
إيفا لا تعرف النوم.
لكنها تعرف الصمت…
والصمت عندها ليس هدوءًا، بل اختيار.
اختارت أن تتجاهل تيوانا.
لأنهم ضعفاء.
أشباح صحراء،
يتغذّون على ما تركته أودجين.
لكن الليلة…
الليلة تجرّؤوا.
ليست السرقة ما أغضبها.
بل النية.
هم لم يسرقوا الجثث…
بل سرقوا الرسالة.
في كل جثة كانت هناك علامة.
كل جسد كان ينطق بسيطرة أودجين على الموت.
لكن تيوانا… مسحوا هذا البيان.
أهانوا الإلهة في عرشها.
صوت ثالث ينبثق، لا من اليسار، ولا من اليمين،
بل من مكانٍ داخل عقلها لم تفتحه منذ سبع سنوات.
صوتٌ بلا اسم،
كأنّه الطفلة التي دفنتها في أحد أقبية بلغراد.
> ("إيفا… لو قتلتِهم الآن، فلن يخافوا.
سيغضبون.
لكن إن انتظرتِ… إن تركتِهم يظنون أنكِ لن تردّي،
ثم فجّرتِ فيهم الحلم ذاته…
فإنهم سيكفرون بما اعتقدوه نصرًا.")
توقفت.
وأخيرًا، ابتسمت داخل عقلها.
"نعم… الانتقام ليس نباحًا."
"الانتقام... هو الصمت الذي يلي الوليمة."
ثم سمعَ عقلها همسًا جديدًا.
همسًا لم تسمعه منذ سنوات…
لم يكن بشريًّا.
لم يكن من الأرواح.
ولا من تلك الأصوات الثلاثة.
بل كان همسًا قادمًا من دمها.
> ("أعيديني.")
"من؟"
> ("أنا… أنتِ كما كنتِ قبل أن تصبحي إيفا.")
تجمدت اللحظة.
كأن العقل ذاته ارتبك.
ثم جاءها وجهها القديم…
فتاة في السابعة عشرة، تحمل كتابًا عن "علم النفس المرضي"، وتركض في أحد شوارع بلغراد قبل أن تُباع لأودجين.
قالت لها الفتاة:
> "هل أصبحتِ ما أردتِ؟"
قالت إيفا:
> "أنا لم أُرِد شيئًا. أنا فقط رفضت أن أكون لا شيء."
ثم انتهى كل شيء.
عادت.
فتحت عينيها.
وفي صدرها…
شيء لم يكن موجودًا من قبل:
نية.
لكنها ليست نية القتل.
ولا نية الانتقام.
بل نية الإلغاء.
إلغاء كل ما يُسمّى "تيوانا".
حتى حروفهم، حتى ذكراهم، حتى ثأرهم.
سيموتون…
ثم يُمحون…
ثم تُلعن كل روح تحاول تذكّرهم.
سكونٌ دام أكثر من دقيقة بعد أن أنهى الخادم تقريره.
ثم... بصوت رتيب، ناعم، حاد كالإبرة،
قالت إيفا:
> "من هي عصابة تيوانا؟"
رفع الخادم رأسه قليلًا، كأن السؤال مفخخ،
لكنه أجاب، بصوت مُنظَّم، خالٍ من الانفعال:
> "مجموعة إجرامية. تأسست في تشاد، قبل خمسة عشر عامًا.
تُعرف بتجارة السلاح، الرق، والمخدرات الكهروكيمياوية.
توسّعت في مالي والنيجر، وكانت تسيطر على ممرات التهريب في الصحراء الكبرى."
ابتسمت إيفا.
ابتسامة بلا حرارة.
ثم همست، بصوت يُشبه جَرَّ زجاج مكسور على صدر طفل:
> "كانت؟"
> "نعم... حتى جاءت أودجين."
صمتت لحظة، ثم قالت:
> "أوه... وكيف جاءت أودجين؟"
> "بدم، سيدتي."
أومأت برأسها، كأنها تقول: جيد... أكمل تمثيليّتك.
> "أتذكر يا بنيّ... حين خُيّروا بين الموت والنسيان؟
واختاروا الفرار؟
تركوا الصحراء كما تترك الجرذان السفينة؟"
لم يردّ الخادم، لأن الإجابة كانت واضحة.
تيوانا هربت في الماضي… كالكلاب التي تعرف أن حديقة الذئاب ليست لها.
ضحكت إيفا بخفة،
ضحكة امرأة تتسلى بإبرة تدخل بها عين دمية.
ثم قالت:
> "وحين غابوا... وابتلعتهم رمال التاريخ...
لماذا يعودون؟"
لم تطلب إجابة.
كانت تسأل الرمل نفسه.
ثم نظرت إليه فجأة، وقالت:
> "من نحن؟"
الخادم، كمن سُئل عن اسمه، أجاب فورًا:
> "أودجين.
أخطر عائلة قتل مأجور في العالم.
مزيج من الفكر القديم والدم الجديد.
لا نخسر. لا نُنسى. لا نُسَامَح."
همست بصوت أقرب إلى التنفّس:
> "جميل... جميل.
وهل نُخطئ؟"
> "لا، سيدتي."
> "وهل نحزن؟"
> "ليس من أجل الجثث، سيدتي."
ابتسمت إيفا، ثم أمالت رأسها قليلًا كما تفعل القطط حين ترى شيئًا يتحرك.
> "وأنت؟ هل تخاف من تيوانا؟"
> "أنا… لا أخاف من شيء... إلا من ألا ترضَي عني."
ضحكت.
ضحكة لا تُشبه البشر.
ضحكة مقطّعة، كأنها سُجلت وعيدت من مسجّل قديم.
ثم أشارت بيدها إشارة خفيفة، كمن يُطرد ذبابة:
> "انصرف."
ركع أكثر، ثم نهض، ثم مشى دون أن يُدير ظهره.
وهي...
ظلت جالسة.
لكن في داخلها؟
بدأ شيء يتحرّك.
شيء قديم، بارد، لم يُستخدم منذ سنوات.
شيء يُشبه: "الحملة."
انغلق الباب خلف الخادم.
وما إن سكنت القاعة، حتى بدأت الأرواح في الجدران تنين،
لا بصوت…
بل بنبضات.
كأن كل وجه يهمس لإيفا:
> "الآن؟ الآن؟ الآن؟"
لكنها لم تُجبهم.
بل نظرت إلى سقف القاعة، الذي لم يُرَ يومًا،
وقالت بصوت ناعم، كأنه اعتراف آثم في كنيسة مهجورة:
> "مرّت سنوات،
لم أخرج في مهمة بنفسي …
ولم أضحك من قلب الخوف.
يبدو أن الوقت حان."
أخرجت من ذراع العرش سلكًا دقيقًا… لا يُرى،
ركّبته في أذنها،
وضغطت على زر داخل خاتمها الأسود.
رنّ الهاتف مرّة واحدة فقط.
ثم التقطته "ميشا".
لم يُسمع صوته.
لكن صوت إيفا كان كافيًا ليملأ الفراغ.
قالت:
> "ميشا…"
توقفت لحظة.
كأنها تختار النغمة المناسبة للدم القادم.
> "هل تعرفين طعم الذكريات حين تتعفّن؟"
صمت.
ثم تابعت بصوت أكثر بطئًا:
> "هم عادوا.
أولئك الذين فرّوا مثل الحثالة،
وعادوا كأنهم نسوا…
من سرق منهم النار."
همسة غليظة خرجت من بين أسنانها:
> "عصابة تيوانا."
ثم صمت.
قالت بعدها:
> "استعدّي.
غدا لا نريد إعلان حرب.
نريد تصفية حساب قديم."
نبرة صوتها تغيّرت.
صارت أخف، لكن أكثر رعبًا… كأنها أمٌّ تطلب من طفلتها أن تحضر الخنجر المخبّأ خلف مرآة جدّتها.
> "تجهّزي… نحن ذاهبون لننهي قصة ما كان يجب أن تُكتب أصلًا.
قولي لظلّك أن يتبعك…
الليلة، لن تعودي وحدك."
ثم أنهت المكالمة.
نزعت السماعة،
ورمتها على الأرض.
فانفجرت إلى رماد.
لم يكن هاتفًا، بل تعويذة اتصال أحادية.
تُستخدم مرةً واحدة…
وتُلعن بعدها
إيفا وقفت.
وخطت خطوة واحدة فقط.
فانفجرت تحتها شمعة،
واشتعلت الأرواح في الجدران،
وصرخ أحدهم: "الملكة خرجت!"