استيقظت على أصوات الأطفال وهم يتهامسون حولي. فتحت عيني ببطء، لأجد نفسي مستلقيًا على سرير واسع، غير معتاد عليه بعد سنوات من النوم على الأرض الباردة. أدركت سريعًا أني بلا ملابس علوية، وأن وشم العبودية المحفور في صدري ظاهر للجميع. شعرت بالعار ينهش داخلي، فسحبت الغطاء بسرعة لتغطية صدري، ثم نظرت حولي.

كان الأطفال الخمسة يقفون بالقرب من السرير بوجوههم البريئة، بينما جلس سامرو ولوكاس إلى جانبي. أما بوهانكوك فكانت تتحدث مع شخصين غريبين. لم أركز عليهما أولًا، لكن حين شددت تركيزي، تعرفت عليهما: ريلي و شاكوياكو .

أشرت لسامرو بهدوء أن يجلب لي القميص المعلق على الكرسي، ففعل دون تردد. ارتديته ببطء، محاولًا أن أتجنب نظرات الجميع، لكن أعينهم كانت معلقة عليّ، تراقب كل حركة أقوم بها. كان أول ما فعلته هو تغطية الوشم… العار الذي لن يمحوه شيء.

حين التقت نظراتي بريلي، شعرت بتلك القوة الهائلة التي تصدر منه، قوة تجعل الهواء من حوله ثقيلًا. سألته دون تردد:

“هل أنت ملك الظلال… رايلي؟”

أومأ برأسه بهدوء، وكأنه لا يحتاج إلى الكلام لتأكيد وجوده. لم أكن بحاجة إلى المزيد؛ هاكيه وحده كان كافيًا ليخبرني من هو.

سألت بعدها:

“أين نحن؟”

أجاب ريلي بصوت ثابت:

“في بيتي.”

حركت نظري بعدها إلى لوكاس وسامرو، وابتسمت ابتسامة كبيرة لم أظهر مثلها منذ سنين، وقلت:

“لقد فعلناها… لقد بقينا أحياء.”

في تلك اللحظة شعرت بتغير مشاعرهم. لوكاس وسامرو غمرتهما سعادة عارمة لا يمكن وصفها، أما بوهانكوك وأختاها فكانت مشاعرهن خليطًا من الصدمة والاستغراب. التفت نحوهن، فرأيت بوهانكوك تحدق بي بفم نصف مفتوح من الدهشة، شعرها القصير يحيط بوجهها الجميل، بينما أختاها كذلك متجمدتان في أماكنهن.

تساءلت داخليًا عن سبب تلك الصدمة، لكن سرعان ما أدركت السبب: هذه أول مرة يرونني أبتسم حقًا.

ابتسمت بسخرية داخليًا، ثم قلت في نفسي:

لا يهم ما يهم هو اننا نجونا

لكن داخلي كان يعرف الحقيقة:

لولا رغبة ارترو في استخدامنا أو رحمته المريضة، لما كنا هنا اليوم.

لم أفهم بعد ما الذي يريده حقًا… لكن الآن، لا يهم.

لم يبقَ في الغرفة سوى ملك الظلام ريلي ، واقفًا بصلابته المعتادة، عيناه تراقباني وكأنهما تمزقان الطبقات التي أخفيها داخلي. شعرت بنظرات سامرو من خلال المرآة، يستخدم قدرته ليشهد الحوار بصمت.

غمر المكان صمت ثقيل، لا يُسمع فيه سوى صوت أنفاسي. قطع ريلي السكون أخيرًا بصوته العميق:

“من أنت يا فتى؟”

أجبته بهدوء دون أن أحرك سوى شفتي:

“عبد… لم يرضَ بالعبودية.”

حدق فيّ طويلًا دون تعليق، بينما حاولت قراءة مشاعره باستخدام هاكي التنبؤ، لكن ما رأيته كان فراغًا مظلمًا. لا شيء. كأنّه أخفى مشاعره خلف جدار لا يمكن اختراقه.

ظل صامتًا للحظات حتى قال:

“سمعت من الفتاة بوهانكوك أنك كنت الخادم الرئيسي… وأنك قاتل. أخبرني، هل تعرف عدد الذين قتلتهم؟”

لم أجب. نظرت إليه بهدوء، لكن داخلي كان يغلي. شعرت أنه يتدخل في مسؤولية لا تخصه. ارتفع الضغط في الهواء، ثقلٌ يكسر العظام لولا أنني اعتدت على الأسوأ. بقيت ثابتًا، ثم قلت بصوت بارد:

“كل قتلة ارتكبتها… مسؤوليتي وحدي. لا أحد يملك الحق في التدخل فيها. سيبقون معي… حتى اليوم الذي أحقق فيه هدفي.”

سأل بصوت منخفض لكن حاد:

“وما هو هدفك؟”

رفعت رأسي ونظرت مباشرة في عينيه:

“قلب هذا العالم المجنون رأسًا على عقب. سأمزق كل قيد… وسأحطم هذه الحرية المزيفة التي يعبدونها.”

ابتسم ريلي، ابتسامة ذكّرتني بظل ماضٍ بعيد في عينيه، وكأن كلماتي أعادت له شيئًا كان قد دفنه منذ زمن. ثم قال:

“حسنًا…”

استدار قليلًا وأضاف:

“سنبحر بعد قليل.”

سألته:

“إلى أين؟”

أجاب وهو يتجه نحو الباب:

“إلى أمازون ليلي.”

نظرت إليه باستغراب وسألته:

“وما علاقة هذا بي؟”

التفت نصف التفاتة، وقال بابتسامة خفيفة تحمل أمرًا لا يُرفض:

“لأنك ستذهب معنا.”

لم يكن سؤالًا، بل كان أمرًا. أمرًا حمل شيئًا مختلفًا… لم يكن قسرًا، بل دعوة. أومأت برأسي دون تردد، وفي قلبي نار جديدة اشتعلت:

رحلتنا لم تنتهِ بعد.

في عرض البحر، كنا على متن سفينة الكوجا التي تقودها شاكوياكو. البحر هادئ، لكن ملوكه كانوا يراقبون من بعيد، لا يجرؤون على الاقتراب. ريلي كان يقف على السطح بهيبته المعتادة، وكلما ظهر أحد الملوك البحريين، كان يغزوهم بهاكيه الملكي حتى يختفوا في أعماق البحر، خاضعين لسلطته.

أما أنا، فقد بقيت في الغرفة الداخلية. أشعة الشمس تتسلل من خلال النوافذ، تلون المكان بخيوط ذهبية، لكن داخلي ظل معتمًا كما كان دائمًا. جلست على السرير أراقب تلك الخيوط، إلى أن أحسست بحضور قادم من الخارج.

فتح الباب ودخلت بوهانكوك . كانت ملامحها ثابتة، لكن مشاعرها تصرخ في داخلي : غضب، فضول، وحزن مكبوت. نظرت إليّ بصمت، كأنها تنتظر شيئًا. أنا كنت أعلم ما يدور في ذهنها، فابتسمت بسخرية خفيفة وقلت:

“هيا، قولي ما تريدين.”

ترددت قليلًا، ثم نطقت بصوت حاد:

“هل كان هناك مصير آخر… للذين قتلتهم؟”

أجبتها بهدوء:

“نعم.”

صرخت تقريبًا:

“إذاً لماذا لم تساعدهم؟”

حدقت فيها طويلًا. كانت مجرد طفلة في الخامسة عشرة من عمرها، لم تقتل أحدًا بعد، ولم تدرك بعد أن العالم خارج أسوار الماريجوا لا يرحم. أرادت أن تفهم لماذا كنت أنا الوحش الذي تخشاه وتكرهه.

اقتربت منها قليلًا وقلت:

“لأن مساعدتهم… لم تكن ستساعدني على الوصول إلى هدفي. وجودهم كان سيقف عائقًا أمام ما أسعى إليه.”

شعرت بغضبها يتفجر أكثر، وحزنها يثقل الجو من حولنا. صاحت بنبرة ترتجف بين الغضب والدموع:

“لماذا؟! لماذا أنت وحش؟!”

لم أجب فورًا، بل نظرت في عينيها مباشرة حتى شعرت بأنها بدأت ترتجف. ثم قلت بصوت منخفض لكنه حاد:

“هل تعلمين معنى اسم فيرنر؟”

صمتت، وعجزت عن الرد. أكملت كلامي:

“إنه اسم يُطلق على من وُلد عبدًا في الماريجوا. اسم معناه… الذئب الذي يأكل الإله. سُمّي بالسخرية واليأس.”

اقتربت خطوة أخرى، ولمحت في عينيها الارتباك. تابعت:

“كان هذا أول اسم حملته… وأول قسم أقسمته. أول قتل حقيقي ارتكبته، كان بدافع الرحمة. ومنذ تلك اللحظة، أقسمت أن أحقق هدفي، مهما كان الثمن، ومهما كان من يقف في طريقي.”

سكتّ لحظة، رفعت رأسي نحو السماء التي تُرى من خلال النافذة، ثم ختمت:

“لا يهمني إن كرهتِني، أو إن كرهني العالم كله… لكن قسمي سيُنفذ.”

بوهانكوك ظلت صامتة، عيناها تهتزّان بمشاعر مختلطة بين الكراهية والفهم العميق الذي حاولت إنكاره. أما أنا، فابتسمت بسخرية مرة… لأني رأيت في تلك العيون بذور الحقد التي ستكبر يومًا ، تمامًا كما كبرت في قلبي يومًا ما.

خرجت من الغرفة، وتركت خلفي بوهانكوك تغرق في بكائها. لم أفهم سبب دموعها؛ هل كانت حزنًا؟ غضبًا؟ أم مزيجًا من الاثنين؟ لم أحاول التفكير أكثر.

أمام الباب، رأيت سامرو يقف مسندًا ظهره إلى الجدار، نظراته باردة، وصوته ساخر وهو يقول:

“أحمق.”

لم أرد عليه، فقط تجاوزته بصمت. كان يعلم أني لا أحتاج لكلماته الآن.

صعدت إلى سطح السفينة، بحثت عن مكان هادئ لأجلس فيه. جلست قرب حافة السور الخشبي، أراقب السماء الممتدة بلا نهاية، والبحر الذي يعكس زرقتها. شعرت بثقلٍ يزول قليلًا مع كل نفسٍ أتنفسه.

وفجأة، سمعت صوت خطوات هادئة تقترب. كانت شاكوياكو . جلست بجانبي وهي تحمل علبة سجائر. مدت يدها لي وسألت:

“هل تريد أن تدخن؟”

أومأت برأسي دون كلام. أخذت سيجارة، وضعتها بين شفتي، وأشعلتها شاكوياكو بولاعة صغيرة. نفخت الدخان ببطء، ورأيت خيوطه تتراقص مع الهواء وتختفي في السماء.

قالت وهي تنظر للأفق:

“اسمي شاكو… ما اسمك أنت؟”

ابتسمت بخفة وقلت:

“وكأنك لا تعرفين.”

ابتسمت هي الأخرى وقالت:

“عندما يخرج التعريف من الشخص نفسه… يكون مختلفًا.”

نظرت إليها لثوانٍ ثم أجبت بهدوء:

“اسمي جين.”

مددت يدك لمصافحتها وقلت:

“سررت بمعرفتك.”

ابتسمت شاكوياكو وهي تصافحني، بينما البحر يواصل رحلته مثلنا تمامًا… بلا توقف.

2025/08/05 · 26 مشاهدة · 1148 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025