الفصل 45 : ظل الهيبة
في اللحظة التي عبر فيها لوكاس عتبة القصر، حدث شيء ما داخله. العالم الخارجي، بكل ما فيه من سطوع وفوضى، بدا وكأنه اختفى، ليحل محله صمت خانق ينهش حواسه. عندما لامس حذاؤه البارد الأرض الحجرية، اجتاحت جسده قشعريرة، وشعر بثقل المكان القديم يضغط عليه.
كانت الأرض تحت قدميه مكونة من حجر داكن لامع، أسود لدرجة أنه بدا وكأنه يمتص الضوء الخافت الذي كان يكافح لاختراق الظلال. كل خطوة كانت تُصدر أصداء تتردد عبر القاعة الشاسعة، مكسرة السكون الذي يحيط بالمكان. كانت الجدران من حوله تمتد إلى الظلام اللانهائي، مزخرفة بنقوش غريبة لم يستطع لوكاس حتى البدء في فهمها. كانت الرموز تتلوى وتدور، غريبة وغامضة، وكأنها نُقشت بواسطة حضارة منسية. كان الهواء ثقيلًا بطاقة قديمة، تكاد تكون خانقة. كانت تتصاعد في الزوايا كضباب مظلم، كثيف ومخنق.
لم يستطع لوكاس التخلص من شعوره بأنه مراقب. ، صدره يضيق بشعور غريب من الضغط الذي بدا وكأنه يتسرب إلى روحه.كأن القصر نفسه حي، يتنفس بالقوة التي تهدد بابتلاعه بالكامل. كانت كل خطوة على الأرض تُصدر صوتًا وكأن الأرض كانت على وشك ابتلاعه.
بينما تقدم أعمق في القصر، لفت انتباهه التوهج الخافت للمصابيح الغريبة المثبتة على الجدران. كان الضوء الذي تصدره غير مريح خافت لكنه حاد، يلقي بظلال طويلة ومشوهة تتلوى وترقص عبر الأرض كالأيدي الطيفية التي تمتد نحوه. كلما تقدم أكثر، كان الجو يصبح أكثر ضغطًا. كل زاوية في هذا المكان كانت تخفي شيئًا مجهولًا، شيئًا غير مروي. لم تكن الظلال هي التي تزحف على الجدران فقط، بل كانت الطاقة الملموسة، الخانقة، تتسرب من الحجر الذي تحت قدميه.
ثم، حدث ما لم يكن يتوقعه.
صوت خافت كسر الصمت، صوت خشب يئن، وحجر يخدش،استدار لوكاس في الوقت المناسب ليشاهد بابًا ضخمًا يفتح ببطء. صوته رن في القاعات كجنازة الموت، وقبل أن يستطيع حتى التساؤل عن مصدره، كان الباب قد كشف عن ممر مظلم يمتد أعمق داخل القصر.
تردد للحظة قبل أن يتقدم، مسحورًا بقوة غير مرئية. وعندما دخل الممر، مر به نسيم بارد حمل معه همسات خافتة في البداية، بالكاد يمكن سماعها، لكنها أصبحت أكثر وضوحًا مع كل خطوة. كانت الهمسات تأتي من جميع الاتجاهات، وكأن جدران القصر حية وتحاول التحدث إليه. لم تكن كلمات، بل شعور إحساس غامر كان يدفعه للأمام، يحثه على التوغل في قلب الظلام. كان الهواء نفسه يهدر بالقوة، كأن الممر كان له حياة خاصة به.
كان هناك شيء في هذا المكان…قوة، حضور… لا يمكن تجاهله. كان تذكيرًا بأنه مهما بلغ لوكاس من تقدم، فإنه لا يزال لا شيء في الخطة الكبرى للأشياء. كانت القوة التي تسكن هنا قديمة، لا يمكن فهمها، وتفوق كل ما يمكنه استيعابه.
في نهاية الممر، وجد لوكاس نفسه أمام قاعة شاسعة، جدرانها تمتد فوقه كأنها فكي وحش ضخم. وفي وسط الغرفة، جالسًا على عرش من الحجر الأسود، كان والد سيمان.
كان الهواء يبدو وكأنه يشع بقوة غير مرئية، وكان لوكاس يشعر بها تضغط على صدره، مثقلة إياه. الرجل أمامه كان شخصية هائلة، وجوده كان خانقًا. حتى من مسافة بعيدة، كانت هالة الرجل تنبثق بالقوة الخام، الغير محدودة. قوة جعلت لوكاس يشعر بصغر حجمه، وبأنه لا شيء كطفل يلعب في ظلال العمالقة.
عيني والد سيمان، السوداوان كهاوية، التقتا بنظرة لوكاس. كانت عيناه لا تحتويان على أي دفء أو تعاطف فقط سلطة باردة غير مفهومة، تكاد تزن روحه. بدا كأنهما يخترقان كيانه، ويشرحان جوهره، وكأنه لا يعدو كونه بيدًا يتم الحكم عليها والتخلص منها. لم يكن هنا أي نوع من اللطف، ولا أي تمثيل للصداقة فقط الحقيقة المروعة للهيمنة.
ثم تحدث، صوته كان نغمة موحدة، مقلقة. كان كل كلمة كالمطرقة التي تضرب وعي لوكاس، ثقيلة، مدروسة، ودقيقة.
"أنت هنا... لأن سيمان يرى شيئًا مختلفًا فيك. لكن ماذا ترى في نفسك؟... أراك ضعيفًا ضعيفًا جدًا. هل تعرف لماذا؟"
شعر لوكاس بالقشعريرة تغمره عند كلمات الرجل. فتح فمه ليجيب، لكن الكلمات بدت عالقة في حلقه. كان قد توقع الكثير من الأشياء ربما ترحيبًا، ربما تحديًا لكن هذا كان مختلفًا. كان شيئًا أكثر شرًا. كان التوتر في الجو خانقًا، وكأن المسافة بينهما كانت تشع بوعدٍ لحكم رهيب.
لم تتحرك نظرة والد سيمان، عينيه مشتعلة بشدة كان لوكاس يشعر بها حتى من عبر الغرفة. لم يكن في صوت الرجل أي حقد، فقط عدم اكتراث بارد كأن مصير لوكاس قد تم تحديده منذ وقت طويل قبل أن يخطو حتى داخل هذا القصر.
"هل تعتقد أنك مستحق للقوة التي تسعى إليها؟"
ابتلع لوكاس بصعوبة.
مستحق؟
انحنىت شفاه الرجل قليلاً، كأنما مستمتعًا باضطراب لوكاس الداخلي.
"أنت تقف في حضور كائن قد تجاوز حدود البشر العادية. هل تشعر بها؟ ثقل قوتي؟ هل تفهم الفجوة بيننا؟"
وقف لوكاس مجمدًا، عاجزًا عن الرد، عالقًا بين الإعجاب وخوف بدائي عميق. شعر بركبتيه ترتجفان، وقلبه ينبض بسرعة في صدره.
في حضوره، شعر لوكاس بأن إنسانيته قد سُحبت منه، وتحولت إلى لا شيء.
ثم نهض والد سيمان، والهواء من حوله يتشوه بينما يتحرك. كان العرش يئن تحت وزنه الهائل، وكانت الظلال تتباعد إجلالًا عندما اقترب. مع كل خطوة، كان الضغط في الغرفة يزداد
"أنت ضعيف"، كرر الرجل، صوته الآن همسة، لكنها كانت تتردد داخل عظام لوكاس.
"لكن هذا هو السبب في أنك هنا. لكي تُصقل"
انحبس نفس لوكاس في حلقه. كانت الحقيقة تصعقه كصفيحة معدن تتكهرب.
هذه لم تكن محاكمة.
ثم ترددت كلمات والد سيمان للمرة الأخيرة، واضحة وقاطعة.
"أثبت جدارتك، لوكاس. أثبت أنك أكثر من ما أراه أمامي."
ومع تلك الكلمات، بدا أن نسيج القصر يتكهرب هو الأخر.