1 - الصمت قبل البدايات

في أعماق الليل، حين يخفت ضوء القمر وتغيب آخر نجمة، تستفيق الأرض على همساتٍ خفية. تنسج الريح حكاياتٍ عتيقة بين أغصان الأشجار العتيقة، وتبقى الأسرار المدفونة منذ العصور في الظلال التي لا يجرؤ على اقتحامها إلا القليل.

ومن ذلك الظلام، تخرج أرواح منسية، تهمس بأسماء لم يعد أحد يذكرها، وتتحدث عن زمنٍ كانت فيه القوة تتدفق كمجرى نهر هادر، وكانت الأقدار تُنحت بأصابع من نار وصمت.

السماء تراقب في سكونٍ مهيب، شاهدة على رقصة أبدية بين النور والظلال — حيث كل همسة تغير المصير، وكل خطوة تترك أثراً.

ترتدّ خطوات على حجارة مكسوّة بالطحلب، يتبعها صمت كثيف، يحمل وعدًا: ببداية جديدة… أو نهاية قديمة. في هذا العالم المتقلّب أبدًا، ترقص الأسرار كالدخان، وتنتظر الأرواح من يملك الشجاعة لكشفها.

هنا تبدأ الحكاية. لا بسيفٍ مسنون، ولا بسيرة بطل، بل بصمتِ الكون وهو يستعدّ لكشف حقيقته.

في تلك اللحظة، حين تسكن كل الأصوات، ولا يُسمع إلا نفس الأرض العميق، تهمس النجوم بأسرارها المدفونة، ويتحرّك المجهول خلف ستار الليل. لا نورٌ عظيم، ولا زئيرٌ مدوٍّ يعلن البداية، بل سكونٌ طويل، كوشاح ناعمٍ يلفّ العالم بأسره بسرّه الخفي.

من قلب الظلال، يرتفع همسٌ خافت — لا يُسمع لغالب الناس، لكنه يصل إلى أولئك الذين لا يزالون يحملون نورًا هادئًا بداخلهم. نور هشّ، متذبذب... لكنه لا ينكسر.

ذلك الصوت، غير المرئي، وغير الملموس، يبدأ رحلته عبر الزمن، حاملاً خبرًا لا يعرفه سوى القلّة — عودة تلوح في الأفق، وسرّ مدفون في أعماق العالم، وشرارة قد توقظ المنسيّ.

في هذا الفجر الصامت، حيث ترقص الأوراق بلا ريح، ويتبعثر الدخان بلا لهب، يتشكّل عالمٌ جديد — ببطء، كظل يتكوّن في عتمة الغابة.

ليس كل من يسير في هذه الظلال يعلم أنه يحمل جزءًا من الحكاية، أو أن خطواته قد تفضي إلى حقائق تغيّر كل شيء. ليس كل نور خُلق ليُضيء. وليست كل قصة بحاجة إلى فارس.

فأحيانًا، تبدأ العوالم بخطواتٍ خافتة، وبهمساتٍ أقوى من أي صرخة.

وهكذا، في سكون الليل، بين طيات الظلال، تُنسَج الحكاية — في انتظار من يُصغي، ويفهم، ويتجرأ على السير فيها. ليس الطريق مرسوماً بالنور، ولا يتبع خريطة. إنه درب من الأسرار والظلال، حيث الحقيقة تلتفّ بالكذب، والماضي يرقص مع الحاضر في إيقاعٍ لا نهاية له.

في هذه الظلال، لا مكان للثقة العمياء، وتُختبر القلوب الرقيقة. تُوزَن الأرواح، وتُكشف النوايا. وفي كل نظرة، وزنُ حكاية لم تُروَ.

وحين ينكسر الصمت، تنهض الأشباح القديمة من مخابئها — تحمل حكايات أبطال لم يُغنّ لهم، وأعداء لم يُهزموا، وأحلامًا لم تكتمل.

لا شيء هنا كما يبدو. العالم الذي بدأ كهمسة، بات ينسج قدره برشاقة وصبرٍ لا يُضاهى.

في زواياه الخفية، ستُنسَج تحالفاتٌ غريبة، وتتحرّك حقائق دفينة، وستتلاقى الأرواح المنسية، مرتبطةً بخيوط القدر.

ليست هذه الحكاية عن قوى جبّارة أو حروبٍ مدمّرة، بل عن همساتٍ تشقّ الصمت، عن نورٍ خافتٍ في عالمٍ مظلم.

رحلة تبدأ على الحافة — حيث يلتقي النور بالظل، ويولد العالم من جديد.

°°°

دارت الأرض حول نفسها، وكأنها نسيت طريقها، تنجرف وحيدة في بحرٍ لا نهاية له. تمددت الظلال فوق سهولٍ غامضة، وجبالٍ صامتة، وغاباتٍ لا تعرف سوى صدى الريح.

هناك، كانت الحكايات القديمة تسري تحت السطوح المتجمّدة كأنهارٍ خفية، تحمل أحلامًا مكسورة وحقائق مدفونة. لم يكن هذا العالم بحاجة إلى أبطالٍ لامعين أو أمجادٍ أسطورية — بل إلى من يستطيع أن يعيش في قلب الظلال، ويتنفس صمتها، ويفهم لغة الغياب والانتظار.

أصواته لم تكن تُسمَع بالآذان فقط، بل بالقلب، وبالروح التائهة بلا جسد. بين رياحٍ بلا وجه، وتربةٍ عتيقة، كان يُغزَل عالمٌ جديد من خيوط الغموض.

في قلب الظلال، حيث يتماهى الماضي مع الحاضر، ويذوب المستقبل في ضبابٍ كثيف، هناك قصة تنتظر — ليست كأي قصة أخرى.

حكاية لا تُكتب بالحبر، بل تُروى بعيون من عرفوا الخوف والصبر، بأرواحٍ صمدت مهما حدث.

لا سيف يلمع. ولا نداء حرب. فقط صمتٌ عميق، وهمسةٌ خفية، وخطواتٌ ثابتة فوق أرض لم تعرف السلام أبدًا.

°°°

خلف ستار الليل، في الغابة التي لا تغرب فيها الشمس، انكسر الصمت بصوتٍ رقيق — كخرير ماءٍ بعيد، لكنه ارتدّ عميقًا كرجفةٍ مباغتة.

من تحت جذور الشجرة العظيمة — التي يُقال إنها روح القارّة — ارتفع وهجٌ باهت. ليس نورًا من هذا العالم، بل شيئًا شفافًا، كأنه من نبعٍ مخفي.

ارتجف الهواء. وارتعدت الأرض. شيءٌ قديم نهض من سباته.

تغيّر همس الرياح، وتحول إلى لغة لا يتقنها إلا القدماء — لغة تحرّك القلوب، وتوقظ الذكريات المنسية.

ثم اختفى الوهج. وفي مكانه، بقي بردٌ عميق — دعوة صامتة، لأولئك الذين يملكون الجرأة لكشف ما وراء الظلال.

لم تكن مجرد لحظة.

كانت البداية... بداية عصرٍ جديد. بداية حكايةٍ مكتوبة على أجنحة الصمت.

2025/06/12 · 6 مشاهدة · 710 كلمة
ARIAHZACH
نادي الروايات - 2025