هل سمعتُ جيداً للتو؟"
"لا، هذا لا يُعقل أبداً… هل هذا حقيقي؟"
"لا تقل لي أن هذا مجرد مزاح؟"
"زينيث مخطوبة؟!"
كان الخبر بمثابة انفجار. ليس فقط لأن ظهور دليلة كان يجذب أنظار الكثيرين، بل بسبب ما تحمله مكانتها ولقبها من أهمية.
فكونها الشخص الذي يقع مباشرة تحت لقب الزينيث، والأقوى في الإمبراطورية، جعلها واحدة من أعلى السلطات في العالم بأسره.
قلة نادرة فقط امتلكت سلطة تفوق سلطتها، وكانوا غالباً الأباطرة. والسبب الرئيس في ذلك أنهم يقودون جيوشاً هائلة، وتحت إمرتهم عدد كبير من الأفراد الأقوياء.
إنما ما جعلهم أعلى منها في المكانة هو أنهم لم يكونوا وحدهم… بخلافها هي.
وهذا ما شكّل الفارق الحقيقي بين الجانبين.
لكن، من ناحية القوة الفردية، لم يكن هناك أحد يعلو عليها.
"إلى من خُطبت؟"
"…هل هو من العائلة الملكية؟ إن كان من العائلة الملكية، فالمعركة على العرش قد حُسمت منذ الآن!"
"لا يجب أن يكون من العائلة الملكية بالضرورة. أي شخص يرتبط بها سيلقى دعماً من دوقية روزنبرغ، وفوق ذلك دعمها هي شخصياً. عندها سيحلّق لمستوى آخر تماماً!"
ساد التوتر القاعة على الفور. وبدأ الجميع يدرك
جوهر الموقف.
لم تكن خطوبة دليلة مجرد إعلان عن حياة ابنة الدوق العاطفية.
بل كانت إعلاناً ذا ثِقَل، يُنذر بتغيّر سياسي وشيك.
أعقب هذا الإدراك لحظة صمت قصيرة تبادل فيها الحاضرون النظرات، قبل أن تتجه كل العيون نحو أورسون الواقف في وسط القاعة بابتسامة رفيعة، وكأنه يستمتع بالفوضى التي اندلعت أمام عينيه.
وحين رأى تغيّر الأجواء، رفع يده، فتلاشى ما تبقّى من الضجيج في القاعة.
انتظر بضع ثوانٍ، ثم تنحنح قبل أن يتابع:
"يبدو أن الجميع هنا مصدوم من هذا الخبر. حتى أنا… لقد صُدمت عندما سمعت به. لم أتوقع أبداً أن تبادر ابنتي بنفسها للبحث عن شريك."
قوبلت كلماته بلحظة صمت وجيزة. توقف الجميع لوهلة لاستيعاب ما قاله.
لكن بعدها—
"ماذا…؟!"
"ألم تكن هذه خطوبة أنت من اقترحها؟!"
"هي بنفسها سعت وراء هذه الخطوبة؟!"
انفجر الحشد مجدداً بالهمسات والتمتمات.
"كيف يُعقل هذا؟! إنّها تبدو مختلفة تماماً عمّا تشاع عنها… من الذي استطاع إقناعها؟"
اتجهت كل الأنظار نحو دليلة ، الواقفـة في وسط القاعة بلا أي تعبير على وجهها، متلقية كل الانتباه.
لقد اعتادت منذ زمن أن تكون محط الأنظار، ولهذا، وبرغم ثقل النظرات المسلّطة عليها، بقيت غير مبالية، مركزة بصرها على والدها.
لكن صمتها وبرودها كانا الدليل القاطع للجميع على صحّة الخبر.
"لحظة من فضلكم."
رفع أورسون يده مرة أخرى، فتوقّف الحشد عن الكلام، وتجمّعت كل الأنظار عليه.
"أفهم أن لدى الجميع أسئلة يريدون طرحها، لكن اسمحوا لي أن أتحدث أولاً."
سادت لحظة صمت، إذ أدرك الجميع فحوى كلماته. أومأ أورسون بهدوء قبل أن يتابع:
"نعم، كانت ابنتي هي من اختارت شريكها مباشرة. لم تكن هذه خطوبة أجبرتها عليها. ولهذا، لا داعي لأن تقلقوا بشأن وجود نوايا سياسية خفية خلف هذا الارتباط."
ثار لاضطراب بين الحضور.
الكثيرون فتحوا أفواههم استعداداً للكلام.
لكن قبل أن يعود الضجيج، رفع أورسون صوته.
"شريكها شخص قررنا الإبقاء على هويته سرّية في الوقت الحالي. أعلم أن الجميع هنا يرغب بمعرفة من يكون، لكننا سنؤجل هذا الأمر لبضعة أشهر. لقد اتخذت هذا القرار أيضاً بناءً على الظروف الحالية. فهذا المكان ليس بالمكان المناسب لإعلان خبر بهذا القدر من الأهمية."
ابتسم أورسون وهو يجول بنظره في أنحاء القاعة.
"…وهذا يقودنا إلى الإعلان الرئيس. بعد شهر أو شهرين من الآن، ستقيم دوقية روزنبرغ حفل خطوبة يجمع ابنتي وشريكها. أودّ أن يشارك جميع الحاضرين في ذلك الحدث حين يحين وقته. ستعرفون هوية شريكها عندها. وآمل أن يتمكن الجميع من الحضور."
دوّي—
فانفجرت القاعة من جديد في فوضى صاخبة.
يبدو أن النبلاء لم يستطيعوا كبح أنفسهم عن إثارة الجلبة عند كل فرصة، فانهالت أسئلتهم على الدوق واحداً تلو الآخر.
لكن الدوق ظلّ متماسكاً، ينظر حوله بلا مبالاة، متجاهلاً كل الأسئلة. فقد كان متمرّساً تماماً في مثل هذه المواقف.
وفي النهاية، ثبّت بصره على شخص بعينه.
ثم رفع صوته قائلاً:
"دعونا نضع أمر الإعلان جانباً، فاليوم لا ينبغي أن يتمحور حول خطوبة ابنتي. اليوم يجب أن ينصبّ التركيز على نجم هذا الحدث الحقيقي."
مع طرقة قدَمه على الأرض، خيّم الصمت القسري على القاعة، على عكس المرات السابقة، ليصبح شخص بعينه محور أنظار الجميع.
بعينين عسليّتين لامعتين تحت أضواء القاعة، وملامح حادّة تكفي لانتزاع الانتباه في اللحظة التي يقع فيها النظر عليه، تقدّم جوليان إلى الأمام.
كان ظهره منتصباً تماماً، كتفاه مشدودتين بثقة، وتعبيره ثابتاً… ثابتاً إلى حد يصعُب معه تمييز ما إذا كان غير متأثر حقاً أم أنه يخفي مشاعره خلف قناع من الهدوء المتماسك.
كل حركة قام بها كانت رصينة، غير متعجلة، محمّلة بوقار صامت جعل الأنظار تنجذب إليه طبيعياً.
وبينما شعر بعيون الجميع تلاحقه، خطا باتجاه الدوق، الذي استقبله بابتسامة.
إلى أن توقّف أخيراً أمامه، لتتوقف عيناه للحظة عند دليلة ، مُلقياً لها إيماءة خفيفة.
بادلتْه دليلة الإيماءة ذاتها، ثم لم ينظر أيّ منهما إلى الآخر مجدداً.
أومأ الدوق برأسه وهو يرى المشهد، قبل أن يحوّل انتباهه إلى اتجاه آخر.
"الماركيز…"
فتحوّلت جميع الأنظار إلى الجهة التي نظر إليها الدوق.
في النهاية، تراجع عدد من النبلاء جانباً، مفسحين الطريق أمام شخصية كان حضورها الهادئ متناقضاً مع التوتر السائد. وبحركة متأنية، عدّل الماركيز نظارته قبل أن يتوقف أمام الدوق وجوليان.
ألقى الدوق نظرة على كلا الطرفين، ثم أخرج ورقتين تحملان توقيعين واضحين.
"هذان هما العقدان اللذان وقّعتما عليهما في بداية الطقس. أنا واثق أنكما تتذكرانهما جيداً."
لم ينبس جوليان ولا الماركيز بكلمة. لكن صمتهما كان أبلغ من الكلام، فيما ناول الدوق الملفات إلى جوليان.
"من هذه اللحظة، ومع تسليم هذه الوثائق، تنتقل جميع الأراضي والشروط المنصوص عليها إلى جوليان من أسرة إيفينوس. بداخلها كل البنود الخاصة بالطرف الآخر. إن كان لدى أيٍّ منكم اعتراض، فليتحدث الآن. وإلا فسأمضي قدماً وأُضفي الطابع الرسمي على عملية النقل."
ثبّت الدوق بصره على الماركيز، منتظراً منه أن يتكلم. كان واثقاً أنه سيفعل. فالأمر كان دائماً كذلك.
'من المؤكد أنه سيستحضر موضوع التنين…لكنني استعديت لذلك بالفعل.'
كان الدوق على أهبة الاستعداد لأي حجة قد تُثار.
ومع ذلك—
"أنا راضٍ عن الشروط."
بدا الماركيز هادئاً على نحو غريب وهو يومئ برأسه.
تصرفه أربك الدوق للحظة، لكنه سرعان ما تماسك، وأومأ بدوره قبل أن يلتفت نحو جوليان ويسلّمه الأوراق.
"في هذه الحالة، سأمضي قدماً بعملية النقل."
ومدّ جوليان يديه، فوضع الدوق الأوراق بينهما، مُضفياً الطابع الرسمي على النقل.
وبتلك اللحظة… انتهى الطقس.
⸻
'هناك أمر غير طبيعي.'
فبعد انتقال البنود، سرعان ما صرفني الدوق، الذي تحدّث لبضع لحظات أخرى قبل أن يغادر في النهاية.
وبينما أحدّق في الأوراق بين يدي، وجدت الموقف غريباً بعض الشيء.
كنت أتوقع أن تثير العملية مشاكل أكبر. لم أتوقع أن تسير بهذه السهولة.
في الواقع، كنت واثقاً أن الماركيز سيثير ضجة بشأن بيبل وما إلى ذلك.
ومع ذلك—
'لقد بدا مطيعاً على نحو غريب… هل لأنه أدرك أن الأمر لن يُجدي نفعاً؟ أم أن هناك ما هو أبعد من ذلك'
لسبب ما، لم يكن لدي شعور جيد حيال الموقف. المشكلة أنني لم أملك فكرة واضحة عمّا قد خطّط له، أو إن كان الأمر مجرد مبالغة من جانبي في التفكير.
فأنا بالفعل أميل أحياناً إلى التفكير الزائد.
تنهدت وألقيت نظرة حولي. بدا أن جميع الأنظار موجهة نحوي. تجاهلت تلك النظرات، واستمررت في مسح القاعة بعينيّ، إلى أن استقر بصري على شخص بعينه.
كان واقفاً بظهر مستقيم، وتعبير وجهه متجمّد ومشدود تماماً.
تقدّمت نحوه وربّتُ على كتفه.
"يا لها من مفاجأة مجنونة…"
فجسَد ليون ازداد تيبساً.
"المستشارة ستخطب؟ يا للعجب!"
ارتجف جسده للحظة.
"أيّ شخص استطاع أن يجذب اهتمام امرأة بتلك الجمال والقوة… لا بد أن يكون وسيماً للغاية، وبارعاً أيضاً."
بدأ وجه ليون يتشنج، فيما ضحكت في داخلي.
كنت أرغب في الاستمرار بمضايقته، لكن قبل أن تسنح لي الفرصة، ارتفعت أصوات أخرى من حولنا.
"لا، على محمل الجد… برأيكم، مع من ارتبطت المستشارة؟ لقد كنت أتوقع أن تكون آخر من يقدم على خطوة كهذه."
التفتُّ باتجاه الصوت، فإذا بإيفلين وكيرا تقتربان نحونا.
وبينما كانت تحمل بضع قطع من المعجّنات، ناولتني كيرا بعضها.
أخذتها دون كثير تردد، وألقيت إحداها في فمي.
قالت إيفلين بملامح جادّة:
"يبدو أنهم سيقيمون نوعاً من حفل الخطوبة خلال الأشهر القادمة. أستطيع تخيّل أن الحدث سيكون ضخماً للغاية… وربما يجذب أنظار العالم بأسره."
كان وجهها يحمل جدية واضحة، وحين فكرت بالأمر، بدا لي أن جديتها مفهومة تماماً.
في الواقع، مجرد التفكير بالأمر جعل معدتي تنقبض.
كنت سأحب لو أنهم أنذروني مسبقاً…
استطعت أن أتخيل بسهولة الفوضى العارمة التي ستجتاح الأيام القادمة بمجرد أن يُعلن الخبر للعامة.
عبثتُ بشعري قبل أن أضع قطعة أخرى من المعجنات في فمي، ثم ثبتُّ بصري على البعيد، حيث برزت شخصية مألوفة وسط الحشد.
وبينما رأيتها تذوب داخل الجموع، التفتت فجأة وكأنها شعرت بنظراتي، وأدارت ظهرها لي مبتعدة. ابتسمت قبل أن ألتهم آخر قطعة معجنات وأتمتم معتذراً.
"عليّ أن أذهب… هناك أمر عليّ الاهتمام به."
ومن غير أن أمنح الآخرين فرصة للرد، تحركت، شاعراً بخفقان قلبي يتسارع.
…لقد مرّ وقت طويل منذ آخر مرة رأيتها فيها.
اشتقتُ إليها حقاً.