عمل ماو تشي كحارس في بلدة الأعشاب الخضراء لما يقارب العقد، رأى خلالها عشرات المزارعين يدخلون ويخرجون من البوابة.

كانت تلك التجربة سلاحًا ذا حدين... الأفضل والأسوأ في عمله.

التقى مزارعين متغطرسين، وآخرين ساديين، وبعضهم كان طيب القلب. هناك من حاولوا التظاهر بالغموض، وهو ما وجده ماو تشي سخيفًا للغاية، خاصة عندما يكون واضحًا أنهم مجرد أطفال او في عمر المراهقة.

لكنه لم يكن ليجرؤ على قول ذلك... وجه لوجه.

هذه المرة، واجه ماو تشي نوعًا نادر من المزارعين، شاب يبدي اهتمامًا حقيقيًا بحياة الحراس. كان يطرح الأسئلة وكانه يتحدث إلى صديق قديم، ولم يستطع ماو تشي إلا أن يبادله الحديث بروح ودية، مما خلق جوًا من الألفة غير المعتادة.

ورغم هذه الودية، ظل ماو تشي متيقظًا، مدركًا للمخاطر الملازمة للتعامل مع المزارعين. فلم يكن يرغب بترك زوجته أرملة، ولا أن ييتم ابنته الصغيرة.

لكن، لم يكن بوسعه إنكار ما يتحلى به الشاب من احترام وأدب .

"بالمناسبة، يبدو أن لا وجود لمزارعين آخرين هنا. هل هذا طبيعي؟ أم أنكم تتعاملون معهم كثيرًا؟" سأل الشاب بنبرة مهذبة.

هز ماو تشي كتفيه بلا مبالاة، "عادةً، لا يقترب مزارعو الطوائف الأخرى من هنا. حتى اختبارات القبول تجرى في المدينة المجاورة. بهذه الطريقة نحافظ على إجراءات أمنية مشددة."

لقد تغير الوضع منذ ارتقاء القائد الجديد لطائفة الشمس الملتهبة قبل خمسة قرون. إذ سعى إلى تنظيم خروج تلاميذ الطائفة إلى عالم العامة، وجعل بلدة العشب الأخطر نقطة التجمع، للحد من الاحتكاك مع المزارعين الغرباء.

على الأقل، هذا ما يتناقله الناس. فحتى ماو تشي لم يكن موجودًا في ذلك الزمن ليشهد هذه التغيرات.

أما حاكم بلدة العشب الأخطر في القرن الأخير، فقد كان سابقًا شيخًا في طائفة الشمس الملتهبة، ولا يزال يحتفظ بعلاقات وثيقة مع الطائفة. ولهذا السبب، نادرًا ما يتجرأ أحد تلاميذ الطائفة على إثارة المشاكل، وإن فعل... فالرد يأتي سريعًا من الحاكم او من قاعة العدالة.

وكلما طال حديثه مع الشاب، شعر ماو تشي أن الهالة الغامضة التي تحيط بالمزارعين بدأت تتلاشى.

"ها قد وصلنا. أعتذر، لكن لا يسمح للحراس بالدخول إلى ما بعد هذا الحد. عليك أن تتابع وحدك،" قال وهو يشير إلى مبنى أشبه بالمعبد، يقصده أناس أنيقو الملبس، يزينهم حلي ذهبية غريبة الشكل.

رمقهم بعض التجار بنظرات خاطفة، لكنهم كتموا أطماعهم ما إن أبصروا لباس ليو فنغ الذي يحمل شعار طائفة الشمس الملتهبة.

ففي نظر الطوائف، لم يكن التجار سوى شخصيات هامشية، يدفعون ضرائبهم السنوية لقاء السماح لهم بالبقاء ضمن نطاق نفوذها. ومهما بلغت ثروة المرء، فإن استفزاز مزارع قد يعني الدمار المحتوم.

"شكرًا لك،" قال ليو فنغ، ثم ألقى بقطعة ذهبية في اتجاه ماو تشي.

تلقفها الأخير بعفوية، لكنه ما لبث أن حدق فيها بدهشة بالغة.

فراتب الحارس في بلدة الأعشاب الخضراء يعد جيدًا، لكن هذه القطعة الذهبية الواحدة تفوق أجر شهر كامل.

وقبل أن يتمكن ماو تشي من التعبير عن امتنانه، كان ليو فنغ قد دخل قاعة التجار. وبعد دقائق، خرج منها يحمل كيسًا ممتلئًا بعملات نحاسية وفضية.

"شكرًا لك مجددًا،" قال ماو تشي، منحنياً احترامًا، محاولًا أن يظهر امتنانه رغم قصر اللقاء.

لوح له ليو فنغ بيده مع ابتسامة ساخرة خفيفة، وقال: "لا داعي للشكر. نحن أصدقاء، أليس كذلك؟"

"إذن، كصديق لصديق... أنت شخص غريب فعلًا،" تمتم ماو تشي، وقد أثارته بساطة هذا التلميذ الغريب الأطوار. من النادر أن يتصرف مزارع بمثل هذه العفوية مع حارس بسيط. فمعظم المزارعين يتصرفون بتعالٍ، وكأن الاحترام لهم واجب لا يناقش.

"أنا فقط أعامل الناس كما أحب أن يعاملوني،" رد ليو فنغ، وهو يهز كتفيه بلا مبالاة.

مرة أخرى، وجد ماو تشي نفسه حائرًا في فهم سلوك هذا الشاب. كان يتحدث عن الطائفة وكأنها شيء عادي، يجردها من هالتها الغامضة، مما أثار فضول الحارس أكثر فأكثر.

هل يوجد المزيد من المزارعين مثله؟ أم أن من دأبوا على زيارة البلدة هم فقط من يحملون طباعًا متغطرسة؟

لكنه احتفظ بهذه التساؤلات لنفسه، شاعرًا بأن ليو فنغ يخفي أكثر مما يظهر. ولم تكن لديه نية للتدخل في شؤونه الخاصة.

"هل تعلم أين يمكنني شراء سلحفاة؟" سأل ليو فنغ بينما كانا يشقان طريقهما نحو السوق.

"بالطبع," أجاب ماو تشي دون تردد.

وبينما كانا يسيران جنبًا إلى جنب، لم يستطع ماو تشي كبح فضوله، فسأل: "إن لم يكن في سؤالي حرج... لماذا تحتاج إلى سلحفاة؟"

"إنها أحد متطلبات تقنية أتدرب عليها. كانت السلحفاة الروحية لتكون خيارًا أفضل، فهي تتمتع ببعض الانسجام مع طاقة التشي، ولديها قابلية أكبر للتطور. لكن حتى السلحفاة الهجينة ، رغم أنها تعد من أضعف أنواع الوحوش الروحية ، إلا أن أسعارها باهظة للغاية... تصل إلى عشرات الأحجار الروحية على الأقل."

"ولم لا تذهب للبحث عن واحدة بنفسك؟" اقترح ماو تشي.

أجاب ليو فنغ وهو يشتري سلحفاة صغيرة من أحد باعة الطعام النيء، "العثور على سلحفاة وحش حية في البرية أمر بالغ الصعوبة." رفعها براحة كفّه، يتفحص حجمها الضئيل.

"سأسميك... سبيدي،" قال مبتسمًا، محاولًا مد يده لمداعبتها، لكن السلحفاة عاجلته بعضة خاطفة. لحسن حظ ليو فنغ، فإن مستوى زراعته كان كفيلًا بحمايته ، فيما ارتدت السلحفاة إلى الوراء متألمة من فشلها.

"رويدك، أيها الصغير. لا تكسر أسنانك في أول لقاء،" قال لها ممازحًا.

لكن، هل تمتلك السلاحف أسنانًا أساسًا؟ ثم إن الاسم "سبيدي" بدا غريبًا ومحرجًا عند نطقه بلغته الأصلية.

"شكرًا على كل شيء، يا ماو تشي،" قال ليو فنغ وهو يربت على كتف الحارس، تنضح عيناه بإخلاص نادر. "وإن حققت نجاحًا في مسيرتي كمزارع، لا تتردد في القدوم لتحيتي."

"هل تقترح أن أستغل صديقي المزارع لبقية حياتي؟" سخر ماو تشي.

"بالضبط،" رد ليو فنغ وهو يبدأ بالابتعاد. "لا داعي لأن ترافقني... لقد حفظت الطريق. خذ الذهب الذي أعطيتك إياه، وخذ لنفسك إجازة من ملل هذا العمل الرتيب."

راقب ماو تشي ليو فنغ وهو يبتعد، ولم يستطع كتم ابتسامة ارتسمت على شفتيه. كم كان متوترًا عندما التقى به أول مرة!

يا له من شاب ودود بحق. ليو فنغ من ذلك النوع من الناس الذين يكونون الصداقات بسهولة. غريب حقًا أن يكون مزارعًا، فهم عادةً كائنات انعزالية، يقال إنهم يقطعون صلتهم تمامًا بالعالم الفاني.

"آآآاه! سيدي!" اخترق صوت حاد الأجواء، قاطعًا أفكار ماو تشي.

استدار بسرعة، فرأى شابًا يقارب ليو فنغ في السن. خلافًا لليو، بدا مظهر هذا القادم الجديد فوضويًا؛ يرتدي ملابس مبعثرة ومعطفًا أسودًا مرميًا على كتفيه. كان شعره الأحمر يجعله بارزًا وسط الزحام، أما ملامحه فكانت عادية إلى حد أنه قد يختفي بين الحشود لولا شعره الغريب.

لكن... هل كان يصرخ؟ ولمن كان يتحدث؟ ولماذا يواصل التحديق إلى جانبه وكأن شخصًا يقف هناك؟

اقترب ماو تشي بحذر، متحسسًا نظرات الفضول التي بدأت تتجه نحوهم. كحارس، كان من واجبه التعامل مع كل ما من شأنه إحداث فوضى في الأماكن العامة.

"لا أصدق أن اختبارات القبول لطائفة الشمس الملتهبة لا تجرى في أقرب بلدة! هذا غير منطقي!" تمتم الشاب الأحمر الشعر بيأس. "لكن على الأقل لم نأت عبثًا، فقد رصدت تلك التقنية من الدرجة الأرضية التي أشرت لها يا سيدي."

سيدي؟ من كان يخاطب؟

تدخل ماو تشي، وقد خفتت نبرته الودية قليلًا مع تحوله إلى وضع الحارس الرسمي: "يا فتى، هلا توقفت عن الحديث مع الهواء ؟"

حديث عن تقنية من الدرجة الأرضية؟ هذا ضرب من الجنون!

في أي مكان آخر، كان من الممكن أن يؤدي هذا التصرف إلى كارثة، حتى وإن بدا واضحًا أن الشاب مصاب بنوع من الهذيان العقلي.

فالعثور على تقنية من الدرجة الأرضية؟ هذا أمر لم يسمع به أحد.

"آه، صحيح. آسف، لم أعتد على هذا بعد،" قال الشاب وهو يحك موخرة رأسه بخجل.

---

_________________________

شكرًا لقراءتك روايتي، وأتمنى أن تنال إعجابك. أكتب بشكل مرتجل إلى حد ما، لذا أرجو أن تنبهني إذا لاحظت أي خطأ إملائي أو تناقض.

AMON

2025/04/07 · 223 مشاهدة · 1182 كلمة
AMON
نادي الروايات - 2025