كان الليل قد سبغ السماء بظلامٍ دامسٍ مثل هاويةٍ توشك أن تبتلع العالم. في الغابة، كان الجو شديد الصمت ومريعًا، وكان من الممكن أحيانًا سماع زئير بعض الوحوش من بعيد، وصوت صفير الرياح وهي تعصف بين الأغصان، وحفيف أوراق الأشجار يتراقص فوق رؤوسها. كان مكانًا مخيفًا تفوح فيه رائحة التربة الرطبة والخشب المبلل.
لكن في الأفق، كان هناك ضوء صغير يشبه شمعةً في مهب الرياح. وإن اقتربت أكثر، ستجد أنه نار مخيمٍ تتراقص ألسنتها مع النسمات الباردة. كان يجلس هناك شاب ذو وجهٍ جاد، شعره أسود كثيف ومتموج يتساقط إلى الخلف، بينما عيناه الحمراوان الدمويتان تعكسان وهج اللهب فتزيدانه غموضًا وسط عتمة الليل.
كان يمسك بسيخ لحمٍ يقلبه ببطء فوق النار، بينما في يده الأخرى سيخ آخر نُهِش نصفه بأسنانه. وبينما كان يحرك قطعة اللحم، كان صدره يعلو ويهبط ببطء مع أنفاسه التي تحمل رائحة الدخان المشبع بالدهن المحترق.
وإن اقتربت أكثر، ستجد أن الشاب شارد الذهن، حيث كانت الأفكار تمر في عقله بسرعة خاطفة.
كان هذا كايل، يسترجع ما حدث معه اليوم وكيف تعرّض لكمينٍ من اللصوص.
«لو كانت لدي قوة أكبر، لكان ذلك جنّبني عناء تضييع وقتٍ طويل»، تمتم بصوتٍ خافت، وعيناه تحدقان في ألسنة النار وكأنها تحرق أفكاره معها.
كان كايل يفكر أنه يفتقر إلى القوة. ورغم أنه قضى على أعدائه، إلا أن طريقته لم تكن تليق بفارس، بل كانت أقرب إلى طريقة مغتالٍ أو رامٍ، لا لفارسٍ يعرف معنى الشرف.
وحين فكّر في الفرسان وشرفهم، ابتسم بسخرية، وهزّ رأسه ببطء كمن يسخر من نفسه.
«الشرف، هه... هل حقًا لهذا العالم قيمةٌ للشرف؟»
في هذا العالم، هناك قسمٌ يقسمه الفارس والنّبيل، وهو معروف بفضائل سبعة: الشجاعة، الصدق، الإخلاص، الرحمة، الشرف، العدالة، التواضع أو الاحترام. هذه هي الفضائل السبعة التي يُقسَم بها أمام ممثلي الحكّام في أي أرضٍ في هذا العالم، مهما كان الحاكم.
«لا أعرف إن كان سكّان هذا العالم يعملون بهذا القسم أم لا... لكن بالنسبة لي، حياتي هي الأهم وهدفي هو الأسمى. ما لم نتعارض في الأهداف أو نشكّل خطرًا عليّ أو على خططي، فسوف نسير وفق الفضائل السبعة... لكن إن وقف أحدهم في طريقي، أو حتى لو كان سيؤثّر عليّ في المستقبل... سأجعله يتذوّق خطاياه السبعة في الجحيم.»
في تلك اللحظة بالذات، ازدادت السماء ظلمةً، وظهرت غيومٌ متفرّقة شكّلت عيونًا كأنّها تحدّق بالعالم بصمتٍ ثقيل. لم يلحظ أحدٌ في هذا العالم تلك النظرات، لكن بعضهم لمح تغيّرًا مفاجئًا في الطقس، إذ هبّت ريحٌ باردةٌ هزّت أغصان الأشجار ونثرت أوراقها اليابسة على الأرض الرطبة، فتسرّبت منها رائحة العشب المبتلّ والندى.
لكن، ماذا يستطيعون أن يفعلوا سوى أن يرفعوا حذرهم أو يخفوا حماسهم؟ أما كايل، فقد زفر بقوة، ورفع سيخ اللحم ليلتهم آخر قطعةٍ، ثم مسح فمه بظاهر يده وهو يحدّق في بقايا الجمر، وشعره الأسود يتراقص مع نسمةٍ باردةٍ داعبت عنقه.
«لديّ الكثير من الأشياء التي يجب القيام بها... والوقت قصيرٌ جدًا.»
كان عليه أن يُكثّف من زرع بذرة الحياة قبل وصوله إلى أكاديمية الفجر، وعليه أن يكتسب خبرةً في القتال، وأن يتدرّب أكثر، ويبيع عناصر، ويجمع عناصر أخرى من أجل كسب المال، ويستكشف الخريطة القديمة التي يحملها في حقيبته الجلدية.
«الكثير من الأشياء...» تمتم، ثم تنهد بعمق، فتشكّلت سحابةٌ صغيرةٌ من بخار أنفاسه في برد الليل.
هكذا مرّ الليل، حتى بزغ أوّل شعاعٍ من الشمس على الأرض، فطرد ظلمة الليل ببطءٍ ودفء. في ذلك الوقت، كان كايل يقف على غصن شجرةٍ عالية، يرقب شروق الشمس من بين الأشجار الكثيفة، وقد تسرّبت أشعتها الذهبية لتلامس وجنته الباردة.
«حسنًا... أين أبدأ التدريب؟»
همس لنفسه، بينما قبض يده بقوةٍ، وأرخى كتفيه مستعدًا. قرر كايل أن يبدأ بالتدريب أوّلًا، إذ لا يستطيع الركض طوال الوقت يفعل هذا وذاك، كما أنه متأكّد أنه إن بقي يتنقّل بلا خطة واضحة سيجذب انتباهًا غير مرغوبٍ فيه. هو يحتاج إلى القوة قبل كل شيء.
وأهم شيءٍ أن أعظم ركيزةٍ له في هذا العالم هي قوّته الخاصة.
لذلك اختار هذه الغابة الموحشة ليبدأ فيها تدريبه، بينما يتقدّم ببطءٍ نحو هدفه: العاصمة المركزية لشرق مملكة أستاليا. لكن سرعته ستكون أقلّ ممّا خطّط له.
قفز كايل من فوق الغصن، فهبّت رياحٌ باردةٌ حرّكت أطراف شعره الأسود، وثنى ركبتيه حين لامست قدماه الأرض الرطبة، فتطايرت ذرات التراب والأوراق اليابسة تحت حذائه.
هكذا بدأ كايل تدريبه. كان تدريب كايل بسيطًا: تقوية جسده عبر سلسلة من التمارين التي تدفع جسده إلى حدوده. ضغطٌ، قرفصاء، ركضٌ طويل، رفع الصخور ودفعها. كان كل تمرين يهدف إلى صقل جسده خطوةً بعد أخرى. ثم بعدها تمارين السيف، حيث يتدرّب على الأساسيات في البداية ثم ينتقل إلى التمارين الموجودة في كتاب السيف الخاص بعائلة ليوثان: «سيف أسد اللهب». وبعدها يخرج للبحث عن وحوشٍ لتكون شركاءه في التدريب ثم تصبح طعامه.
وفي المساء، كان يتناول إكسيرًا خاصًا، ويتدرّب على تدوير الهالة في جسده مترافقًا مع التأمل العميق. هكذا استمر كايل في تدريبه، روتينٌ يوميٌّ لم تتزعزع إرادته معه لحظةً واحدة.
ولم يكتفِ كايل بذلك، بل أضاف إلى جدوله تناول السموم من أجل استخدام سمة «مقاومة السموم واللعنات». كان يعلم أن هذه السمة تعمل بطريقةٍ سلبية، لكن عليه أن يبني مناعةً حقيقيةً عبر الوقت. جمع نباتاتٍ سامة من الغابة أو استخرج سموم الوحوش واستهلكها بكمياتٍ صغيرة، متحمّلًا مرارة الطعم وحرقة حلقه، إذ يدرك أن ثانيةً واحدة قد تُنهي معركةً حاسمة.
هكذا مرة ثلاثة اسابيع منذ بدا كايل في شقّ طريقه أعمق في الغابة، فازداد عدد الوحوش وكبرت الأشجار حتى بدت كأعمدةٍ قديمةٍ تلامس السماء.
عند بحيرةٍ صغيرة، وقف كايل ينظر إلى أعماقها حيث يتلألأ ضوءٌ ذهبيٌّ خافت تحت سطح الماء الساكن. كانت هذه أكثر إشارةٍ يحبّها كايل.
«ضوءٌ ذهبيٌّ يعني كنزًا... واستثمارًا كبيرًا.»
لكن ما أدهشه أنّ تلك الأضواء الذهبية تتحرّك ببطءٍ في عمق البحيرة. «هل يمكن أن تكون أسماكًا؟»
دون تردّدٍ، خلع كايل ملابسه حتى بقي بسرواله الداخلي، ثم وضع كل شيء في خاتم التخزين. كان جسد كايل مسقولًا، عضلاته بارزة ومشدودة تحت الجلد، وحين قفز إلى الماء البارد ارتعد جسده للحظة قبل أن يعتاد برودته.
غطس بسرعةٍ في أعماق البحيرة الصغيرة، التي لم يتجاوز عمقها خمسة أمتار وطولها ثلاثين مترًا. كان المكان مظلمًا كهاويةٍ زرقاء، لكن عينيه ظلّتا تلاحقان الأضواء الذهبية.
حاول كايل الإمساك بإحداها، لكنها انزلقت من بين أصابعه مثل ظلٍ زلقٍ واختفت بين الأعشاب المائية. صعد كايل إلى السطح يلهث وهو يلفظ أنفاسه الباردة، وشعره يلتصق برقبته وقطرات الماء تتساقط من ذقنه.
«هاه... هاه... حسنًا، لنعتبره تدريبًا تحت الماء... وهذه الأسماك اللعينة سأشويها .»
بعد أن التقط أنفاسه، غطس مجددًا، وهذه المرة تحرّك ببطءٍ، متقنًا حركاته كي لا يثير المياه كثيرًا. دون أن يدرك، بدأت مدة بقائه تحت الماء تتزايد تدريجيًا من ثلاث دقائق إلى خمس، ثم عشر دقائق، حتى وصل إلى خمس عشرة دقيقة بفضل سمة التكيّف، فأصبح تنفّسه أقوى وحركاته أكثر انسيابيةً بين تيارات الماء البارد.
في كل مرة كان يخرج من البحيرة، يحمل سمكةً ذهبيةً تلمع بين يديه أو في بعض الأحيان يخرج فقط بطحلبٍ عالقٍ على ذراعه. وحين أخرج أول سمكةٍ ونظر إلى وصفها، اتسعت عيناه بذهولٍ صامت.
> [الاسم: سمكة تنّين ذهبية
الوصف: سمكةٌ أسطوريةٌ، ظهور واحدةٍ منها قد يتسبب بحمام دماءٍ بسبب ندرتها. أهم ميزتها أنها إن أُكِلَت، ترفع موهبة الشخص درجةً واحدة.]
كان كايل يفهم تمامًا معنى أن ترفع هذه السمكة موهبة شخصٍ درجةً كاملة. شخصٌ مقدّر له أن يصبح فارسًا ذهبيًا قد يحصل على فرصةٍ ليصبح فارسًا أرضيًا!
«حسنًا... هذا يستحقّ أن أحدث من أجله حمام دماء.»
خلال خمس ساعاتٍ، نجح كايل في اصطياد جميع الأسماك في البحيرة. كان عددها عشرًا كاملة. رفع كايل إحدى الأسماك بيده وهو يبتسم ابتسامةً صغيرةً، بينما تتساقط قطرات الماء من شعره على كتفيه العاريين.
«بصراحة... أود رؤية وجوه العالم عندما يكتشفون أنني وجدت عشرة من أسماك التنّين الذهبية.»
لكن كايل لم يكن ينوي كشف هذا السر. صحيحٌ أنه لا يحتاج إليها بفضل سمة الموهبة التي تولد مرةً واحدة، لكنها ستساعده في تسريع تكثيف بذرة الحياة داخل جسده.
كما أن كشف هذا السر سوف ينتهي بها في خطر .
وأمام هذا الكنز الحي، لمعت عيناه الحمراوان بوميضٍ خافتٍ كوميض النار ليلًا، بينما أخذ نفسًا طويلًا، وشمّ رائحة الماء المختلطة بعطر الطحالب و ماء بحيرة.