توجّه كايل نحو كهفٍ قريبٍ من بحيرةٍ كان قد اكتشفها عندما وصل إلى هناك. كان موقع الكهف مخفيًّا عن الأعين، وتفوح منه رائحة بولٍ خفيفة لوحشٍ كان من الواضح أنّه يعيش هنا.

عندما وصل كايل إلى مدخل الكهف، وجد مساحته صغيرة لكنها مناسبة للاستقرار المؤقّت. دفع صخرةً استعان بها كحاجز إلى جانبٍ ودخل. بسرعةٍ أشعل نارًا صغيرة، وبدأ بشواء أسماك التنين الذهبية التي اصطادها من البحيرة.

جلس القرفصاء أمام النار، يقلب الأسماك بهدوء بينما يراقب ألسنة اللهب وهي تتراقص وتلقي بظلالٍ حمراء على جدران الكهف الرطبة. كان يسمع طقطقة الخشب المحترق ويستنشق رائحة الدخان الممتزجة برائحة السمك الدهني، فتتسلّل إلى رئتيه وتجعله يغمض عينيه للحظةٍ قصيرة وكأنه يتذوّق الرائحة قبل المذاق.

كان كايل دائمًا يشعر بانجذابٍ غريبٍ نحو النيران. بحكم صفته الخاصة، كان يؤمن أنّ جذوة النار في داخله ستنمو يومًا ما وتصل إلى مستوى مرعب. أغمض عينيه قليلًا وتذكّر صفته الثانية التي لا تزال، حتى في شاشة حالته، تظهر بعلامة استفهام غامضة. كان متأكدًا أنّه سيكشف سرّها يومًا ما، وستكون إحدى أوراقه الرابحة.

بينما غرق كايل في أفكاره، تسللت إلى أنفه رائحة شهية زكيّة جعلت لعابه يسيل رغمًا عنه. استيقظ من شروده وحدّق في الأسماك التي بدأت طبقتها الخارجية تأخذ لونًا ذهبيًا مقرمشًا، وسمع صوت الدهن وهو يقطر فوق الجمر، يصدر فرقعاتٍ خفيفة تزيد من جوعه.

تمتم لنفسه بابتسامةٍ خافتة: «دعني من التفكير في هذه الأشياء الآن، ولنركّز على الحاضر.»

مدّ يده والتقط سمكةً كانت بحجم كفّ رجلٍ بالغ، شعر بحرارتها تدفئ راحة يده، وقضم منها أول قضمة. في تلك اللحظة، انفجر طعمٌ لذيذٌ في فمه، وكل بُرعمٍ من براعم تذوّقه رقص بسعادةٍ صامتة. أغمض عينيه واستنشق بعمقٍ بينما يمضغ ببطءٍ، كأنّه يتمنى لو أنّ هذه القضمة تبقى في فمه إلى الأبد.

لكنه ابتلعها أخيرًا. وما إن وصل الطعام إلى معدته حتى انتشر دفءٌ مريحٌ في أنحاء جسده. شعر بقوةٍ جديدةٍ تجري في عروقه، وكل خليةٍ فيه تطالب بالمزيد. بسرعةٍ التهم السمكة كاملةً حتى الرأس والأشواك. تحرّكت يداه بلهفة، والتهم واحدةً تلو الأخرى، ولم يترك شيئًا سوى العظام الصغيرة التي ذابت تقريبًا تحت أسنانه.

حين امتلأت بطنه وشعر أنّ جسده قد ينفجر من شدّة الطاقة المتدفّقة في عروقه، اعتدل في جلسته وأخذ وضعيّة تأمل «أسد اللهب». أسند ظهره إلى الجدار الحجري البارد وأغلق عينيه بتركيز. بدأ يتلو تعويذته بصوتٍ خافتٍ ممزوجٍ بأنفاسٍ متقطّعة، يخرج مع كل زفير بخارٌ دافئ يختلط بدخان النار:

﴾من الجمر بُعثتُ، ومن النار اصطفاني القدر، فيَّ تحيا ألسنةُ اللهب وتخرُّ عندي الرماد، بدمٍ من لهبٍ أسود أتسلّح، وبنَفَسِ التنين أزأر. أنا السيدُ على الشررِ والحمم، أُخضع النارَ فتُطيع، وأُحرّك الرمادَ فيركع. في دمي نارٌ لا تخمد، وفي ظلي حريقٌ لا يُطفَأ، فليحترق الكون من حولي... ولينبض قلبي جمرةً لا تموت أنا سيد اللهب، وليشهد الرماد ﴿

ظلّ كايل يردّد تعويذته بينما كان يدور هالته داخل جسده، يدمجها بدمائه شيئًا فشيئًا. خارج الكهف كان الليل قد حلّ، ولفّ الغابة صمتٌ ثقيلٌ كأنّها تحبس أنفاسها. وسط الظلام، بدأت أضواءٌ خضراء صغيرة تظهر قرب المدخل. عيونٌ تلمع في العتمة، لوحوشٍ جذبها عبق الأسماك المشوية المتسلّل من بين الصخور إلى قلب الغابة.

لكنّ هذه الوحوش لم تجرؤ على الاقتراب من الكهف. كانت غرائزها كلها تصرخ في داخلها أنّ دخول الكهف سيكون أمرًا مرعبًا، لأنّ في داخله كائنًا لا يمكن مساسه ولا رؤيته أو تدنيس قداسته.

في هذا الوقت كان كايل قد غرق في تركيزٍ كامل، لم يكن يشعر بشيءٍ من محيطه الخارجي، بل بدا كأنه مندمجٌ بالكامل مع الطبيعة. كان صدره يعلو وينخفض ببطءٍ منتظم، وحبات عرقٍ دافئة تنحدر من صدغه رغم البرودة خارج الكهف، بينما حرارة جسده ترتفع دون أن يرمش حتى.

نيران المخيّم بدأت تتراقص أمام كايل وكأنّها تحتفل بسيّدها. فجأةً حدث شيءٌ غريب: النيران أصبحت أكبر وبدأت تطفو في الهواء وتحيط بكايل مشكّلةً حلقاتٍ تدور بهدوءٍ حوله. بدا وجهه مضاءً بضوءٍ دافئٍ، وتحرّكت خصلات شعره مع تيّارٍ حراريٍ خفي.

لم يشعر كايل بشيءٍ، حتى الحرارة التي ارتفعت بدرجةٍ مرعبة لم تلامس وعيه. عند مدخل الكهف، أصبح الضوء المنبعث من النيران كافيًا لإضاءة الصخور التي بدأت تذوب شيئًا فشيئًا وتقطّر قطراتٍ من الحجارة المنصهرة، تفوح منها رائحة رمادٍ معدني حارق.

تجرّأ أحد الوحوش الذي لم يستطع كبح جوعه على الاقتراب. وما إن خطا خطوةً واحدة داخل المدخل حتى احترق وتحلّل إلى رمادٍ تدحرج مع نسيمٍ ساخنٍ خرج من أعماق الكهف.

عندما رأت الوحوش ذلك، ارتدّت إلى الخلف خطوةً غريزيةً، تراجعت وجلودها تقشعر من الرعب.

في تلك اللحظة، كان تركيز كايل منصبًّا كلّه على تكثيف بذرة الحياة؛ إذ كان يوجّه هالته نحو قلبه في بحرِه الروحي. بدأت هالته تتشكّل في كرةٍ صغيرةٍ، لكنها بدت فوضويةً ومستعدّةً للانفجار في أي لحظة.

كان كايل في هيئته الروحية يراقب تلك النواة تتكوّن أمامه. أراد أن يمسكها ويثبّتها، لكن بدا الأمر مستحيلًا... إلى أن حدث ما لم يكن بالحسبان: ظهر زوجٌ من الأيادي العملاقة المصنوعة من لهبٍ خلفه في هيئته الروحية. شعر أنّها امتدادٌ له، فتحرّك بها بطريقةٍ غريزية وأمسك النواة بقوةٍ وضغط عليها بقسوة.

شعر كايل أنّ النواة ستنهار في أي لحظة، لكنّه لم يتراجع ولم يتغيّر تعبير وجهه حتى. همس بصوتٍ مبحوحٍ داخل وعيه: «أنا كايل، سيّدُ اللهب... في جميع أنحاء العوالم، كلّ لهبٍ تحت حكمي. لذلك... اخضع أو اختفِ.»

لم يعرف كايل لماذا نطق بهذه الكلمات، لكن الغريب أنّ النواة بدأت تهدأ وتستقر بهدوءٍ داخل بحرِه الروحي. وفي اللحظة التي نطق فيها كايل كلماته وأخضع النواة، لم يكن يعلم أنّ صدى صوته تردّد عبر الفضاء، ناقلًا كلماته إلى كل الكائنات الحيّة... أو بالأحرى، إلى كلّ نيران العوالم. هدأت ألسنة اللهب في أماكن بعيدةٍ بطريقةٍ غريبة، حتى خفّ لونها البراق.

كان الجميع في حيرةٍ ممّا حدث.

خارج الكهف، شعرت الوحوش التي تترقّب عند المدخل بضغطٍ مرعبٍ وكأنّ يدًا عملاقةً تهبط على ظهورها وتضغطها إلى الأرض. ارتعدت أطرافها وصدرت عنها همهماتٌ مكتومةٌ حشرجية.

فتح كايل عينيه ببطءٍ. احمرّت حدقتاه بلون الدم، لكنّ اللهب كان يرقص بداخلهما. خارج الكهف، شقّت السماء نفسها، وظهرت عيونٌ من الفراغ تحمل بداخلها شراراتٍ راقبت الوحوش بصمتٍ بارد.

في الكهف، وقف كايل يلتقط أنفاسه، يرفع رأسه قليلًا وكأنّه يتأكد أنّ كلّ شيءٍ حقيقي. أغمض عينيه ثانيةً وأطلق زفيرًا عكرًا ساخنًا. اختفت النيران الراقصة من حول عينيه، وعادت نيران المخيّم إلى مكانها تتراقص بهدوءٍ فوق الحطب.

في الخارج، اختفت شقوق الفراغ. وما إن رأت الوحوش ذلك حتى ارتدّت في الحال، تركض هاربةً بحياتها بين الأشجار، مخلفةً وراءها رائحةً طينيّةً رطبة تختلط برائحة الدخان والرماد.

شعر كايل بقوةٍ تتدفّق داخل جسده، فارتسمت ابتسامةٌ خفيفةٌ على وجهه. «هذا حقًّا شعورٌ مختلف... عندما استيقظت هالتي، إذن هذا هو الفارس البرونزي المنخفض الحقيقي.»

في الحقيقة، لم يكن كايل يعلم أنّ ما فعله سيجعل الجميع يشكّون في أنفسهم؛ من إيقاظ هالته بسهولةٍ إلى تكثيف بذرة الحياة في شهرٍ واحدٍ فقط، والأكثر رعبًا أنّه جعل كلّ نيران العوالم تهدأ وتخضع له.

نظر كايل حوله ولاحظ أنّ الصخور قد ذابت وما زالت محمرّة، ودرجة الحرارة داخل الكهف مرتفعةٌ بشكلٍ خانقٍ. امتدّت منه شهقةٌ قصيرةٌ وهو يلمس بيده جدارًا ما زال يتقاطر بالحجارة المنصهرة. «هل هذا بسبب تشكيل بذرة الحياة؟ حدث هذا الأمر؟»

كانت نظرة استغرابٍ مرتسمةً على وجهه، إذ لم يفهم ما حدث تمامًا، لأنّ الكتاب الذي يحتوي على تقنية التأمّل لم يذكر شيئًا عن ظهور هذه الظواهر عند تكثيف بذرة الحياة.

خرج كايل ليتفقّد المكان خارج الكهف خشية أن يكون قد جذب وحوشًا أخرى. عندما تأكد أنّ كلّ شيءٍ بخير، زفر براحةٍ خفيفة، تناثرت أنفاسه الدافئة في هواء الليل البارد.

أما ما حدث عندما أنشأ بذرة الحياة، فلم يهتمّ له كثيرًا؛ طالما هو بخير، فهو معتادٌ منذ زمنٍ على أن كلّ ما يحدث له يكون غريبًا. هل سيأتي عند هذا الشيء ويستغرب؟ أدار رأسه قليلًا وضحك ضحكةً قصيرةً اختلطت بأنفاسه البخارية. «بالطبع لا.»

____

من اجل دعم اترك تعليق

2025/07/09 · 69 مشاهدة · 1205 كلمة
General_13
نادي الروايات - 2025