في سجنٍ تحت أرض قرية عفاريت، كانت القضبان الحديدية مقطوعةً بسيفٍ حادٍّ ترك أثره اللامع على أطراف الحديد. كان الهواء مُشبَعًا برائحةٍ كريهةٍ ممزوجةٍ برائحة الدماء والفضلات البشرية والعرق والقيء.

كان كايل يقف في المنتصف، يتنفس ببطءٍ وسط الظلمة، وأمامَه نساءٌ تم اختطافهنّ على يد العفاريت، لكن كايل كان يشكّ في هذا الأمر بشدّة.

«بصراحة، هذا أمرٌ غير ممكن. من المستحيل أن يتمّ اختطاف هؤلاء النساء من قِبَل هؤلاء العفاريت.»

كان سبب اعتقاد كايل باستحالة ذلك هو ضعف هذه القرية أولًا، وحتى لو افترض أنّهم اختطفوهنّ واحدةً تلو الأخرى، فلا يوجد بينهم من يمتلك ذكاءً كافيًا لتنفيذ خطةٍ معقّدةٍ كهذه.

«حتى زعيمهم كان يقاتل مدفوعًا بغرائزه الحيوانية... فكيف له أن يضع خطةً محكمة؟»

والأمر الثاني هو أن هؤلاء النساء، مهما نظر إليهنّ، لم يكن بينهنّ سِمةٌ مشتركة؛ كما لو أنّهنّ جُلبن من مناطقَ مختلفةٍ ومتباعدة. مرّت في ذهنه فكرةٌ غريبة: ربما مملكة الوحوش تستعدّ لحرب شدٍّ وجذبٍ متوقّع أن تندلع خلال سنتين إلى ثلاث سنوات. لكنّه سرعان ما طرد هذه الفكرة من رأسه؛ إذ إنّ جميع الممالك – وحتى مملكة الوحوش – وقّعت اتفاقًا تحت شهادة الحاكم، لذلك لن يكون هناك شيءٌ كهذا.

بينما كان كايل ينظر إليهنّ، وهنّ عارياتٍ بلا حولٍ ولا قوة، شعر بعجزٍ حقيقي. مرّر يده إلى رأسه وحكّ شعره ببطءٍ بينما زفر زفرةً ثقيلةً امتزجت فيها رائحة الدم والعرق برائحة الحديد البارد.

«يبدو أنني أوقعت نفسي في أمرٍ لا يجب أن أتدخّل فيه.»

رغم أنّه أجهض العفاريت من بطون هؤلاء النساء، لم يرَ في أعينهنّ أي شرارةٍ للحياة. حتى الماء المقدّس المُخفّف الذي أعطاهنّ لم يفعل سوى تخفيف الألم قليلًا.

نظر إليهنّ بتمعّنٍ، لاحظ ارتعاش أكتافهنّ، برودة بشرتهنّ التي تكاد تلتصق بالأرض القذرة. فكّر:

«أول شيء يجب أن أفعله هو إيجاد شيءٍ يغطّين أجسادهنّ به. تجوّلهنّ بهذا الشكل سيكون أمرًا سيئًا...»

لم يكن لدى كايل أي ردّة فعلٍ تجاه وجود ثلاثين امرأةً عاريةً أمامه. لم يكن من ذلك النوع الذي يستغلّ مثل هذه المواقف، أو ربّما كان كذلك لو كان نبيلاً بلا ضمير، لطلب أموالاً أو إكسيرًا ثمينًا. لكن رؤية حالهنّ البائسة هكذا أيقظت في داخله شيئًا غريبًا لأول مرةٍ في هذا العالم: غضبًا... شفقةً... وحزنًا ثقيلًا خيّم على صدره كحجرٍ رطب.

لم يعرف هذه المشاعر منذ حصل على سماته الخاصة: سِمة القلب والعقل الباردين؛ إذ كانت مشاعره وأفكاره دومًا تحت سيطرةٍ صارمة.

تنفّس ببطءٍ، شدّ كتفيه، وتقدّم خطوةً، شعر بخطواته تُحدث صدىً باهتًا وسط رائحة الدم والحديد. رفع عينيه، نظر إليهنّ وحاول أن يجمّع نبرةً دافئةً في صوته:

«هل يمكنكنّ الصعود معي إلى الأعلى؟»

ما إن تكلّم حتى لاحظ أنّه لم يكن هناك أي ردّة فعلٍ واضحة، سوى تغيّرٍ طفيفٍ في لون هالاتهنّ، تحوّلت إلى [خوف]. ارتعشت بعضهنّ، وارتجف الهواء من حولهنّ كأنّه يمتصّ حرارة أجسادهنّ الضعيفة.

أضاف بسرعةٍ وهو يشير بيده إلى الممرّ المظلم خلفه:

«لا تقلقن... لقد أَبَدتُ جميع العفاريت في الأعلى.»

لكن هالاتهنّ تحوّلت من [الخوف] إلى [الشكّ والارتياب]. شعر كايل بصداعٍ حادٍّ يخترق رأسه كإبرةٍ باردة. أطلق تنهيدةً طويلةً، حتى بدا زفيره وكأنه ينثر رائحة الحديد العالق في صدره.

قال بصوتٍ منخفضٍ وحاسمٍ، رافعًا يده اليمنى:

«أقسم باسم حاكمة الحياة أنّني كايل، قد أَبَدتُ كلّ العفاريت في هذه القرية، وإن كنتُ كاذبًا، فلتنزل عليّ عقوبةٌ سماوية.»

لم يكن أمام كايل خيارٌ سوى القسم باسم حاكمة الحياة. وما إن فعل حتى بدت النتيجة واضحة؛ إذ تبدّدت هالة [الشكّ والارتياب] وحلّ مكانها [أملٌ خافت]. شعر كايل بشيءٍ يلين في صدره.

استدار نحو الممرّ، وقال بنبرةٍ ثابتةٍ هذه المرة:

«هيا... اتبعنني.»

كان كايل يريد إيجاد حلٍّ بسرعةٍ للتخلّص من هذه المصيبة التي ظهرت له من العدم. تمتم لنفسه بصوتٍ بالكاد يُسمع وسط صدى الممرّ الرطب:

«يا رجل... أنا بالكاد أمتلك القدرة على النجاة حتى انتهاء فترة دراستي والعودة إلى منزلي... وها أنا الآن أواجه مجموعة نساءٍ تمّ استغلالهنّ كأداة إنجاب... ولا أحد يعرف أي مصيبةٍ أوقعتُ نفسي فيها.»

بخطواتٍ حذرةٍ خرج كايل إلى مدخل السجن، ألقى نظرةً يقظةً حوله، يشمّ رائحة الدماء التي تجذب الوحوش عادةً، لكن المكان كان هادئًا، لا أصوات أنفاسٍ، ولا خربشة مخالبٍ في الظلال. كلّ ما كان حوله بقايا معركته ضدّ العفاريت.

همس لنفسه وهو ينظر إلى جثث العفاريت المتناثرة:

«بصراحة، منذ أن كثّفتُ بذرة الحياة، أصبح نادرًا ما أُواجه وحوشًا.»

كان قبل تكثيف بذرة الحياة يواجه وحوشًا كلّ يومين تقريبًا، أمّا الآن، فقد صار نادرًا ما يراها. كان يجهل أنّ وحوش الغابة تخف منه كما انهم أطلقت عليه لقب «ملك الموت»، كائنٌ يمشي على قدمين، بهالةٍ مقدّسةٍ مُرعبةٍ ونيرانٍ خفيّةٍ تحيط به، ولذلك صاروا يتجنّبونه كمنطقةٍ محرّمة.

عندما تأكّد من أنّ كلّ شيءٍ آمن، استدار ونظر خلفه، فرأى النساء يتبعنه، يتشبّثن ببعضهنّ، وفي مقدّمتهنّ المرأة التي أنقذها أوّلًا والتي بدا عليها أنّها أكبرهنّ سنًّا. أشار بيده يدعوهنّ للقدوم:

«المكان آمن.»

خرجت النساء خلفه. وما إن رأين جثث العفاريت المكدّسة والمبعثرة في كلّ مكان حتى شعرن براحةٍ خافتةٍ ممزوجةٍ برائحة دمٍ ساخنٍ يلطخ الأرض. فجأةً انطلقت إحداهنّ نحو جثة عفريتٍ، ركعت عليها وضربتها بقبضتها المرتعشة. وعندما تأكّدت أنّها ميتةٌ تمامًا، أمسكت عصًا سميكةً من مخلفاتهم، وضربت رأس العفريت حتى تفتّتت جمجمته، فتطايرت قطرات دمٍ أسود ولطّخت وجهها ويديها النحيلتين اللتين هزلتهما المجاعة والعطش، لكن كراهيتها جعلتها تضرب مرّةً بعد مرّة.

راقب كايل هذا المشهد بصمتٍ ولم يوقفها، بل ظلّ واقفًا هناك، وعيناه حمراوان تلمعان تحت ضوء قمر الذي أسقط ضوء ابيض مصفر تتابعت النساء خلفها، وكلّ واحدةٍ وجدت ضالّتها في ضرب جثث مضطهديها حتى خارت قواهنّ، فسقطن على ركبهنّ يبكين بحرقةٍ ومرارةٍ ملأت هواء القرية بنشيجٍ متقطّع.

نظر كايل إليهنّ بعيونه الحمراء المشتعلة، ثم فكّر بصمتٍ:

«كلّ واحدةٍ منهنّ لديها قصتها... متزوجةٌ كانت أو شابّةٌ في مقتبل عمرها... لديهنّ عائلات، وخسرن كلّ شيء. كلّ هذا بسبب هذا العرق الدنيء.»

أغمض عينيه للحظة، وشعر بشعره الأسود يتراقص مع نسيمٍ محمّلٍ برائحة دمٍ طازجٍ. فتح عينيه، فتألّق فيهما بريقٌ أحمر دمويّ.

«لكن خطأ من؟ أهو خطأ أسياد الأرض الذين اختُطفن منهنّ؟ أم خطأ الجنود الذين لم ينقذوهنّ؟ أم خطأ عائلاتهنّ؟ أم خطأ مملكة أستاليا؟ لا هذا ولا ذاك... بل خطأهنّ: ضعفهنّ. لو كُنّ أقوى، لحاربن... أو أقوى لإنهاء حياتهنّ وإنهاء عذابهنّ.»

لم يكن كايل يلومهنّ، بل كان يذكّر نفسه فقط:

«الضعف خطيئة... كن قويًّا، أقوى من أي كائنٍ سار على هذه الأرض. عندها لن يهمّ مكانك ولا مكانتك، لأن كلماتك ستكون القانون.»

بحث كايل عن بعض الملابس المصنوعة من جلود الوحوش ليغطّي بهنّ الأجزاء الحسّاسة من أجسادهنّ. ساعدهنّ أيضًا في تجهيز طعامٍ بسيطٍ وماءٍ صالحٍ للشرب. تركهنّ يرتحن بعض الوقت، بينما نصب بعض الفخاخ في الطريق الذي جاء منه تحسّبًا لأي خطر.

ثم جمع جثث العفاريت وعلّق رؤوسهم حول أسوار القرية، بينما كوّم أجسادهم في منتصف القرية، تفوح منها رائحة دمٍ مُختمرٍ وموتٍ لا يرحم. كان ذلك من أجل تخفيف غضبه من هذا العرق القذر.

بعدها توجّه إلى كوخٍ صغيرٍ ليجلس على حصيرةٍ من جلد وحش، يحدّق في خريطةٍ مهترئةٍ أمامه، باحثًا عن مخرجٍ من هذه الورطة. جالت عيناه عبر الخطوط والمسارات حتى توقّفت عند قريةٍ صغيرةٍ قريبةٍ من حدود الغابة. لم يكن فيها ما يميّزها سوى شيءٍ واحد: معبد حياة.

ضرب قبضته على راحة يده بقوةٍ خافتة:

«نعم... يمكن لمعبد الحياة أن يتكفّل بهؤلاء النساء... وربّما يجدون سبب وجودهنّ هنا و بهذه طريقة اجعل معبد حياة يهتم بهذه مشكلة.»

قدّر المسافة من مكانه إلى هناك، رحلة يومين وحده، لكن مع هؤلاء النساء ستصبح أربعة إلى خمسة أيام على الأقل.

«حتى وإن لم تنجح الخطة، يمكن تركهنّ هناك في القرية.»

بهذه الفكرة التي رآها معقولةً، سمح لعينيه أن تثقلا قليلًا وأغمضهما لينال قسطًا من الراحة استعدادًا للرحلة القادمة.

مرّ الليل بسرعة، ومع شروق الشمس، استيقظ كايل وهو يسمع زقزقة طيورٍ بعيدةٍ وحفيف أوراقٍ يابسٍ تحت قدميه. تفقّد استعداداته، ثم التفت إلى الثلاثين امرأةً اللاتي انتظرنه بخوفٍ صامتٍ وأملٍ هزيل. أشار بيده للأمام.

هكذا بدأ كايل رحلته مع هؤلاء النسوة نحو القرية البشرية التي يوجد فيه معبد الحياة.

2025/07/14 · 71 مشاهدة · 1225 كلمة
General_13
نادي الروايات - 2025