هكذا انطلق كايل مع مجموعة النساء، وكانت الشمس في منتصف السماء، إذ مرَّ نصف يومٍ منذ رحيلهم من قرية العفاريت. كانت الغابة هادئةً بشكلٍ مبالغٍ فيه حتى إن وحشًا واحدًا لم ينجذب إلى هذه المجموعة.

خلال سيرهم نحو القرية حاول كايل الحديث معهنّ لمعرفة أصلِهنّ أو أي شيءٍ يخصُّهنّ. لكن لم تكن هناك أيُّ ردة فعلٍ تُذكر، كنَّ كالجثث الحيّة، أرواحٌ تائهةٌ تحوم حوله بعيونٍ ميتةٍ لا ترى ولا تومض.

تنهد كايل، وزفر زفرةً طويلةً بينما حكَّ جبهته بأصابعه ببطءٍ في محاولةٍ لطرد الصداع الذي بدأ يعتصر رأسه. شعر بقطرات عرقٍ باردةٍ تنحدر من صدغه.

«بحق السماء... ما الذي أقحمتُ نفسي فيه؟»

كان كايل يلوم نفسه؛ فهو لم يفعل ذلك بدافع الطيبة، بل لأنه أراد اختبار قوّته ضد العفاريت. ولو لم يكن قلبه جامدًا، لما اهتمّ بهؤلاء النسوة شبه الميتات أصلًا.

أدار رأسه ببطءٍ ونظر خلفه. رآهنّ يمشين بخطواتٍ بطيئةٍ كسلحفاةٍ مريضةٍ مقارنةً بسرعةِ سيره المعتادة. كان ضوء الشمس ينعكس على أجسادهنّ المغطّاة بخرقٍ رثة، فتظهر العظام تحتها بوضوحٍ يثير الشفقة. للحظة شعر بثقلٍ كالحجر يضغط صدره.

«هل من الممكن أن يعالجهنّ معبد الحياة؟»

لكن الأمل كان ضئيلًا. فهذا المعبد ليس في مدينةٍ كبيرةٍ، بل في قريةٍ حدوديةٍ عند أطراف الغابة، أي إنّه لا يوجد كاهنٌ عظيمٌ أو سيّدةٌ مباركةٌ تُدير المكان، بل على الأغلب شيخٌ مسنٌّ أو امرأةٌ عجوزٌ تحفظ بعض تعاويذ التطهير والشفاء.

تراءت له صورة كاهنٍ عجوزٍ، بملامح منهكةٍ ولحيةٍ بيضاء، يهزّ رأسه بأسفٍ تحت سقفٍ خشبيٍّ بسيط.

«آه... هذا سيكون صعبًا حقًا.»

فجأةً لمع خاطرٌ باردٌ في ذهنه: ولماذا عليه تحمُّل هذه الرحلة أصلًا؟ لماذا لا يتركهنّ هنا ليجدنَ طريقهنّ بأنفسهنّ؟

هزّ رأسه بسرعة وكأنه يطرد ذبابةً مزعجة. شمّ رائحة التربة الرطبة من حوله، ولفح خدّه نسيمٌ خفيفٌ أعاد إليه بعض التركيز.

وبينما كان ذهنه يتجوّل، لمح كيف بدأ التعب ينهش أجساد النساء أكثر. خطواتهنّ تترنّح، وأكتافهنّ تنخفض شيئًا فشيئًا، كأغصانٍ هزيلةٍ تحت مطرٍ ثقيل.

«هذا أمرٌ متوقّع... في النهاية هنّ نساءٌ عاديّات، عُذّبن لفترةٍ لا يعلمها أحد.»

توقّف كايل فجأة، فتوقّفن خلفه مثل انعكاسٍ صامت. استدار ببطءٍ نحوهنّ، فرفعنَ رؤوسهنّ كمن انتبهنَ لوجوده للمرة الأولى، عيونهنّ الزجاجية تلمع في ضوء الغابة الخافت.

«حسنًا... سنرتاح لمدة نصف ساعة، ثم نتابع الطريق.»

لم يُجبنه، لكن بعضهنّ تبادلن نظراتٍ باهتةٍ قبل أن يحرّكن رؤوسهنّ موافقةً بخنوعٍ غامض.

«جيد... رقم واحد، تعالي ووزّعي الطعام والماء.»

تقدّمت المرأة التي أنقذها أولًا، كانت أكبرهنّ سنًّا وأكثرهنّ تماسُكًا رغم شحوب وجهها وتشقّق شفتيها. أخذت الطعام والماء من كايل وبدأت توزّعه على بقيّة النساء بيدين مرتجفتين كأوراقٍ ذابلة.

تابع كايل مراقبتهنّ، وشعر بشيءٍ من الراحة يتسلّل إليه. على الأقلّ، ما زلن قادراتٍ على تنفيذ الأوامر البسيطة. أمّا إطلاقه أرقامًا بدل الأسماء، فلم يكن له حلٌّ غيره، إذ لا يعرف أسماءهنّ، وكان يحتاج وسيلةً للتواصل، وإن كان بالكاد يُسمّى تواصلًا.

جلس تحت شجرةٍ كثيفةٍ، أسند ظهره إلى جذعها الخشن. بسط ركبتيه ومدّد ساقيه أمامه بينما فتح لفافة الطعام. انتشرت رائحة اللحم المقدّد والخبز اليابس حوله، ممتزجةً برائحة التراب الرطب وعرق الطريق.

«بصراحة... هذا النوع من التجمعات ليس مناسبًا لي...»

ألقى نظرةً على النسوة: بعضهنّ يجلسن على التراب القاسي، يلتقطن الفتات بأصابع هزيلة، وأعينهنّ تحدّق في اللاشيء. وحدته المفضلة بدت فجأة أقلَّ راحة؛ هو يحتاج للوحدة، لكنه أيضًا يحتاج لأيدٍ تعمل معه، كي يتفرّغ لتدريبه وأهدافه.

«ربّما عليّ فعلًا تجنيد بعض الأتباع... لكن المشكلة ليست في جمعهم، بل في ولائهم. لا أريد أن تنتشر أخباري في كلّ مكان مثل نارٍ في هشيم.»

بينما تداعت الأفكار في رأسه، انزلق ذهنه إلى سوق العبيد.

«هذا ممكن... شراء عبيد سيكون معهم ختم عبودية، فلا يمكنهم خيانتي أو عصيان أوامري. ومع تقييمٍ وعين استثمار، قد أجد بعض العبيد ذوي الإمكانيات المدفونة التي لم يسمح لهم القيد بإظهارها.»

تشدّدت ملامحه قليلًا مع تردّدٍ طفيفٍ في صدره.

«رغم أنني أكره العبودية... لكن لا يمكنني تغيير هذا العالم وحدي. هنا، الأمر عاديّ... ليس كأرضي القديمة التي انتهى فيها عصر العبيد وبدأت عبوديات جديدة: الإنترنت، المال، الإدمان...»

عضّ شفته قليلًا وأغمض عينيه.

«على الأقلّ، حين أزرع ولاءهم لي حقًّا، سأحرّرهم من قيود العبيد. هذا أفضل ما أستطيع فعله.»

مع هذه الفكرة زفر بعمق، دون أن يعلم أن الأيام ستجلب له أتباعًا يعبدونه بتعصّبٍ أعمى.

وفجأةً، تذكّر شيئًا. فتح عينيه وحدّق في الفراغ أمامه:

«أكاديمية الفجر تسمح لأول عشرة مراكز بجلب تابعين. هذا ينطبق عليّ أيضًا... فرصة ممتازة لجمع الأتباع وتدريبهم بنفسي، ولإظهار موهبتي للعالم. هؤلاء الأوائل يمتلكون امتيازاتٍ ثمينةٍ لا تُقدّر بثمن.»

فتح كفّه وأغلقه ببطءٍ بينما يراقب ذرات الغبار تتراقص في ضوء الشمس المتسلل من بين الأغصان.

«هذا سيكون مفيدًا عندما أعود إلى منزل عائلة ليوثان. موارد أكثر... إرشاد أفضل... أماكن سرّية لا يجرؤ أحد غيري على دخولها. نعم... سأحتاج كلّ هذا لأبلغ الرتبة الأسطورية... رغم أنني لا أفهم السبب بعد.»

مدّ يده والتقط خريطةً خشنةً مطويّةً بجانبه، تأمّلها قليلًا، ثم زفر بخفّةٍ. بدت له الغابة لحظتها وكأنها تردّ زفيره بأنينٍ خافتٍ بين أغصانها.

انتهت نصف الساعة. انتصب كايل واقفًا، مسح الغبار عن ملابسه، ثم أشار بيده. تحرّكت النسوة خلفه كظلالٍ صامتةٍ، ليواصلوا السير نحو حافة الغابة.

---

بينما كانوا يشقّون طريقهم بين ظلال الأشجار، لمعت أضواءٌ خضراء خافتةٌ من بين الأدغال الكثيفة. ولو دقّق أحد النظر لرأى أنها عيون... عيون ذئاب، قطيعٌ كاملٌ منها، يراقب بخبثٍ وضراوةٍ.

كانت هذه الذئاب تعرف سمعة كايل، بصفته سيّد موتٍ في هيئة بشر. لكن لم يردعها ذلك؛ فقد رأت معه مجموعةً من الإناث الضعيفات، فهذه وليمة لا تُفوَّت. لم يقرّر القطيع الهجوم بعد، بل انتظر الليل ليُسدل ستاره.

كايل الذي كان يسير شعر بشيءٍ ثقيلٍ يقبض قلبه. سرت قشعريرةٌ على ظهره بفضل سمته: «حاسة الخطر».

دارت عيناه الحمراء الدموية ببطءٍ خلف أهدابه دون أن يعطي أدنى إشارةٍ لليقظة، كي لا يُحذّر عدوه.

«يبدو أن هناك من يتربّص بي... يجب أن أبقى حذرًا.»

عرف عبر «حاسة الخطر» مدى الإصابة التي قد يتعرّض لها، لكن ما إن يستعدّ سيغيّر ذلك ميزان الخطر بالكامل.

«لكن السؤال... من؟ وحوش؟ عفاريت؟ أم أنّ أحدًا اكتشف أمر قرية العفاريت وأرسل هذا الفخ لقتلي؟»

دار ذهنه كدوامةٍ لكن لم يجد إجابةً قاطعة.

---

في تلك اللحظة، في القرية التي يقصدها كايل، كانت الاستعدادات جاريةً على قدمٍ وساق لاستقبال ضيفٍ رفيع الشأن. زُيّنت الشوارع بالأشرطة الملوّنة، وارتدى السكان أفضل ما لديهم من ثيابٍ نظيفةٍ زاهية.

الغريب أن هذه القرية بدت نظيفةً بشكلٍ مدهش، طرقٌ مرصوفةٌ جيّدًا، منازل مصطفّةٌ بنظامٍ بديع، وفي وسطها مبنى فخمٌ ذا جدرانٍ ناصعة البياض يحيط به بستانٌ صغيرٌ مرتبٌ بعنايةٍ فائقة. هذا هو معبد الحياة. أطفالٌ يركضون بين الأزهار وابتساماتهم تملأ الهواء، وكبارٌ يتسامرون بوجوهٍ هادئةٍ مطمئنة.

أمام المعبد بئرٌ يروي ظمأ القرية كلّها، وحوله سورٌ بارتفاع خمسة أمتار وسماكة نصف متر. ليس بسورٍ عظيمٍ كسور المدن، لكنه مزوّدٌ بدوائر سحريةٍ لتفعيل درعٍ واقٍ عند الحاجة. ميليشياتٌ محليةٌ تتجوّل في أرجاء القرية، وبعضهم يراقب الأسوار بنظراتٍ حادة.

عند بوابة القرية يقف صفّان من الحرس. طبلٌ ضخمٌ موضوعٌ بجانبهم، وبوقٌ ينتظر اللحظة المناسبة ليُنفخ فيه.

في الأفق، ظهرت غيمةٌ من الغبار تقترب. لمّح أحد الحراس ذلك، فأشار إلى زميله الذي تحرّك بسرعةٍ خاطفةٍ نحو البوابة. بعد لحظاتٍ فقط، دوّى صوت الطبل يتردّد عبر القرية، تبعه صرير البوق يشقّ السماء.

ما إن سمع السكان الإشارة حتى هرعوا نحو الشارع الرئيسيّ للقرية، ينتظرون الضيف الموعود.

اقترب الغبار أكثر حتى انكشف الموكب: مئة جندي بدروعٍ لامعةٍ تحمل نقشًا لطائرٍ يطير وفي منقاره غصنٌ أخضر. خيولهم قويةٌ، ترفع حوافرها بثقةٍ فوق الأرض.

في وسط الموكب عربةٌ فخمةٌ يجرّها أربعة خيولٍ بيضاء نقية، يرفرف فوقها عَلَمٌ يحمل نفس الرمز: رمز معبد الحياة، رمز الأمل والرخاء لكلّ من في مملكة أستاليا. بجانب العربة فارسٌ على حصانٍ أبيض، درعه الفخم يتلألأ ورداؤه يخفق مع الريح. كان من الواضح أنه شخصٌ قويٌّ ذو شأن.

أمّا من بداخل العربة فلم يكن ظاهرًا بعد. لكن ما إن اقترب الموكب من القرية حتى انطلقت أصوات الترحيب تعلو من أفواه الناس:

«حيُّوا القديسة!»

«حيُّوا القديسة!»

تقدّم الموكب بهدوءٍ مهيبٍ نحو قلب القرية، بينما الغبار يتلاشى خلفه شيئًا فشيئًا...

2025/07/21 · 52 مشاهدة · 1236 كلمة
General_13
نادي الروايات - 2025