شعر كايل بقوة تتدفق في عروقه كتيار نهر جارف، وكأن كل خلية في جسده ترقص فرحًا من نشوة هذا السيل المتواصل من الطاقة.
تمتم بابتسامة خفيفة، وهو يشعر بالنشاط ينبض في أطرافه:
"حسنًا... أعتقد أن الوقت قد حان للخروج وتناول بعض الطعام."
نهض بخفة من على السرير، وحرّك جسده في مرونة ليتحقق من حالته البدنية. شد عضلاته التي باتت أكثر صلابة، ثم بدأ بتبديل ملابسه. ارتدى قميصًا أسود بأكمام طويلة، وسروالًا بسيطًا لكنه متين، وحذاءً جلديًا لامعًا يلتف بإحكام حول قدمه، يصدر صريرًا خافتًا كلما حرّك قدميه.
طبق على جسده دروعًا خفيفة، لكنها ذات جودة عالية، تمنحه الحماية دون أن تعيق حركته. ثبت سيفه عند خصره الأيسر بطريقة تتيح له سحبه بسرعة وسهولة، ثم دس خنجرًا خلف خصره، موجّهًا المقبض نحو يده اليسرى، تحسبًا لأي طارئ.
أخيرًا، ارتدى رداءً أسود طويلًا، وغطى رأسه بغطاء رداء، فانغمر نصف وجهه في الظل، ولم يتبقَ سوى عينيه الحمراوين اللامعتين كجمرتين تحت الرماد.
تحقق من هيئته في المرآة، وهمس:
"كل شيء جاهز... أولًا، تناول الطعام في مطعم الفندق، ثم جولة سريعة في المدينة."
كان كايل ينوي البقاء في المدينة المركزية لمدة أسبوع واحد فقط، وذلك لعدة أسباب. أولًا، لم يعتد بعد على جسده الجديد؛ فالتعايش مع الجسد يختلف عن مجرد تقبله. ثانيًا، أراد جمع مزيد من المعلومات عن هذا العالم. ثالثًا، خصص وقتًا لتدريب جسده وصقل مهاراته القتالية. وأخيرًا، كان يرفض تبذير موارده الخاصة، وطالما أن نفقات الفندق على حساب العائلة، فلا بأس بالبقاء أسبوعًا دون المساس بأمواله.
تفقد الغرفة قبل مغادرتها، ألقى نظرة خاطفة على الزوايا، وتحقق من أماكن معينة وضع فيها أشياء صغيرة كفِخاخ بدائية أو مؤشرات إنذار، بل وخلف آثارًا خفية ليتأكد لاحقًا إن كان أحدهم دخل الغرفة أثناء غيابه.
كان كايل مهووسًا بالحذر، مصابًا بشيء من جنون العظمة، خاصة بعد قراءته لعشرات الروايات والأعمال التي تتناول الاغتيالات والمكائد. وهو في النهاية من عائلة ليوثان، ولا مكان فيها للثقة العمياء.
أغلق الباب بهدوء، وانطلق في ممرات الفندق بصمت. تحت قدميه، كانت الأرضية الخشبية تصدر صريرًا خافتًا مع كل خطوة، واختلط في أنفه عبق الغبار المعتق برطوبة الليل، مما أضفى على المكان هالة من السكون، وكأن الزمن توقف فيه.
وصل بسرعة إلى المطعم الواقع في غرفة جانبية قرب صالة الاستقبال. لم يطل الانتظار؛ ما إن جلس وطلب الطعام حتى وُضعت الوجبة أمامه بخفة ومهارة.
كانت القاعة شبه فارغة، ويبدو أن النزلاء لم يستيقظوا بعد، أو أنهم لا يفضلون النزول في هذا الوقت الباكر. لم يُعر الأمر اهتمامًا، وركّز على طعامه. الجو كان هادئًا، يقطعه صوت تقطير ماء خافت من الزاوية، وتفوح منه رائحة القهوة المحمصة ممزوجة بعبق التوابل.
أمضى حوالي خمس عشرة دقيقة وهو يتناول وجبته بهدوء، مستمتعًا بكل لقمة. ثم مسح فمه بمنديل، وتمتم مبتسمًا وهو يربت على معدته الممتلئة:
"يبدو أن شهيتي ازدادت كثيرًا منذ أصبحت فارسًا برونزيًا منخفض الرتبة."
ثم عقد حاجبيه وهو يسند ذقنه على يده:
"لكن الغريب أنني لم ألاحظ هذه الشهية الكبيرة عند أفراد العائلة..."
صمت قليلًا، يفكر، ثم ومضت شرارة إدراك في عينيه، وهمس:
"ربما السبب في نوعية اللحم؟"
في ذكريات كايل السابقة، كانت هناك أنواع من اللحوم مأخوذة من حيوانات سحرية... طعمها لذيذ، وغنية بالطاقة الطبيعية.
استنشق بعمق، وكأن حاسة الشم لديه استدعت رائحة ذلك اللحم السحري، الممزوجة بتوابل عتيقة ونار برية. وكان الفرق واضحًا بين الحيوانات السحرية والوحوش: فالأولى يمكن ترويضها وتربيتها، بينما الثانية فوضى متجسدة لا تهدأ إلا بموتها.
هز كايل رأسه بخفة، طاردًا تلك الأفكار، ونهض من على الكرسي استعدادًا لجولته.
---
خرج من الفندق بسرعة، وشق طريقه في شوارع المدينة. الشوارع كانت مرصوفة بدرجة مقبولة، لكنها تفتقر إلى النظافة؛ فبين الحين والآخر، تضرب أنفه روائح كريهة تُثير الغثيان.
تجولت عيناه بين الناس والمباني، وسرعان ما لخص عدة أمور في ذهنه. أولًا، يبدو أن هذا العالم لا يهتم كثيرًا بنظافة الطرق. لو كانت القمامة عادية، لكان الأمر مقبولًا، لكن وجود فضلات بشرية في كل مكان جعل كايل يشعر بالغثيان، حتى كاد يفقد وعيه للحظة.
ثانيًا، بدا أن الفقر والجوع منتشران في هذه المدينة بشكل واسع؛ فقد شاهد متشردين نحيلين، جلدهم ملتصق بعظامهم، عيونهم فارغة، خالية من أي بريق، وكأنهم فقدوا أمل الحياة.
"هل ستكون أعماق المدينة هكذا؟ إن كان كذلك... فسيكون الأمر مخيبًا للآمال."
تحرك كايل برشاقة، محاولًا تجنب تلطيخ ملابسه. نظر إليه بعض المتشردين بنظرات غامضة، لكن الهالة التي تحيط به جعلتهم يصرفون أنظارهم في صمت، ناسين حتى فكرة الاقتراب منه.
مع تقدمه، بدأ يلحظ تغيّرًا تدريجيًا. اختفت الفضلات من الشوارع، وأصبحت الرائحة الكريهة أخف وإن بقيت عالقة. كما لاحظ أن ملابس العامة باتت أنظف، ووجوههم أقل بؤسًا.
رأى جنودًا يقومون بدوريات منتظمة، كما لمح أعلامًا نُبلاء رائدين مرفرفة في بعض الشوارع. راقبهم من بعيد، لكنه لم يتعرف على شعاراتهم، مما قاده إلى استنتاجين: إما أنه لم يدرس جيدًا – وهو أمر مستبعد، لأن عليه على الأقل معرفة العائلات المؤثرة – أو أن هؤلاء من النبلاء الجدد أو الصغار الذين لا يُعرفون بعد.
"يبدو أن قانون النبلاء الرائدين بدأ قبل مئة عام بعد حرب شد وجذب، حيث انتصرت مملكة أستاليا، وأصدرت العائلة الملكية هذا القانون من أجل استصلاح الأراضي الجديدة غير المستغلة، ولإنشاء درع بشري ضد الوحوش."
كان لهذا القانون أهمية كبيرة، خصوصًا للعائلات التي تراجعت مكانتها. يمكنهم طلب أرض ليصبحوا لوردات رواد، وإعادة بناء مدن، والتدرج في السلطة. حتى أبناء العائلات النبيلة الساقطة وجدوا فيه فرصة، وكذلك العباقرة المدنيون.
لكن مملكة أستاليا لم تكن لتترك الأمور هكذا؛ فالسنة الأولى تُعفى من الضرائب، ثم تبدأ التكاليف، وتُقيم المملكة الأرض كل ثلاث سنوات. إن لبت الشروط، يُمنح اللورد لقب بارون. وإن فشل، فلن يرى النور مجددًا إلا بثمن باهظ.
"بصراحة... لماذا لم يتم إرسالي لأصبح لوردًا رائدًا، بل أُرسلت إلى أكاديمية الفجر؟"
فجأة خطر هذا السؤال في ذهنه ولم يجد له جوابًا.
"ربما اعتقدت العائلة أنني سأتكاسل حتى يحين وقت إرسالي إلى الأرض التي سأُكلف بها..."
كان أهم شرط لتصبح لوردًا رائدًا هو أن تبلغ الثامنة عشرة من العمر.
تابع كايل سيره، متجهًا نحو السوق.
---
في الجهة المقابلة، جنوب مملكة أستاليا، كانت مدينة ليوثان تشع نظافةً ونظامًا، والابتسامات ترتسم على وجوه العامة.
في أعلى نقطة منها، ارتفعت قلعة ضخمة تحيط بها أسوار عالية. عند مدخلها، انتصب تمثالان لأسدين عملاقين، رمز عائلة ليوثان، يزينان المكان.
داخل القلعة، وتحديدًا في مكتب فاخر، جلس رجل في منتصف العمر، بشعر أسود وعينين حمراوين لامعتين. لو كان كايل هنا، لأصابه الذهول...
"سيد العائلة."
نعم، هذا هو زعيم عائلة ليوثان، والد كايل.
في الحقيقة، كايل هو الوحيد من أبنائه الذي ورث مظهره بالكامل. ورغم كسله، إلا أن نظراته أحيانًا كانت تعكس نظرة والده الباردة بدقة مدهشة.
لكن العلاقة بينهما كانت شبه منقطعة؛ كونه أصغر الأبناء وأكثرهم كسلًا، لم يكن والده يهتم به كثيرًا، خاصة أن كل التركيز كان على الابن الأكبر، الوريث المنتظر. أما والدته، فقد كانت تهتم به، لكن اهتمامها كان أقل من اهتمامها ببقية الأبناء الأكبر سنًا. وهكذا، تطورت شخصية كايل لتصبح متمردة.
عرفه الجميع في العائلة بلقبين: "الأسد الكسول" و**"الأسد المتمرد"**.
فهو الوحيد الذي وقف أمام رب العائلة دون خوف أو خنوع. حتى الابن الأكبر لم يجرؤ على ذلك، ولا أحد يجرؤ سوى الشيوخ القدماء، لكنهم ملزمون باحترامه.
كان هذا ما يميز كايل؛ لم يكن يهتم برأي الآخرين أو ما يعتقدونه.
وقد اعترف رب العائلة نفسه في أحد المجالس:
"كايل مختلف. تحت كسله وتمرده، رأيت لحظة واحدة فقط... لحظة نظر فيها مباشرة إلى عينيّ، كان كوحش مكبّل على وشك التحرر. إن تحرر، سيهز أركان هذا العالم. إنه مُقدّر له أن يصل إلى رتبة الأسطورة."
لهذا السبب، أُرسل كايل إلى أكاديمية الفجر؛ فقد رأت العائلة، أو بالأحرى الشيوخ القدماء، أن موهبته مخفية، تنتظر التحفيز لتنفجر إلى العالم. وكانوا ينتظرون منه أن يفتح فصلًا جديدًا في تاريخ عائلة ليوثان.
عاد المشهد إلى المكتب، حيث جلس رئيس العائلة يقرأ بهدوء كتابًا قديمًا... يمكن قراءة عنوانه بوضوح:
<حرب الألفية>
__
في هذا الوقت، كان كايل يقف متجمّدًا في الشارع، حيث كانت أمامه العديد من الأكشاك التي تُباع فيها شتّى الأشياء. لكن ما صدم كايل لم يكن تنوّع البضائع، بل ذلك الضوء الذهبي الذي يشعّ بلون قوي، مختلفٍ وغريب، لا من مكانٍ واحد بل من عدّة أكشاك.
لنعد بالزمن قليلًا.
بينما كان كايل يتجوّل بين الشوارع، توقّف للحظة يستمع إلى حوار دار بين مجموعة من الأشخاص. من حديثهم، التقط معلومة عن موقع الشارع الأكبر الذي تُباع فيه الكثير من البضائع. بعد أن حدد هدفه، انطلق بخطى ثابتة نحو السوق.
عندما وصل، لاحظ حشودًا من الناس يتجوّلون بين الأكشاك، وتُجّارًا يصرخون للترويج لبضائعهم بأصوات خشنة اختلطت برائحة التوابل، والجلود، وحتى بعض العطور الزهرية الخفيفة.
وما إن خطا داخل السوق حتى غمره فجأة ضوءٌ ذهبي، ليس من كشكٍ واحد، بل من أربعة أكشاك متفرقة، لكنها لم تكن بعيدة عن بعضها.
فرك كايل عينيه بقوة، وكأنّه يشكّك بما يراه.
"ما هذا... ضوءٌ ذهبي؟" همس لنفسه.